عندما مررنا أول مرة على مفترق الطرق الرابط بين دالي ابراهيم وأولاد فايت في العاصمة، لفت انتباهنا وجود باعة صغار يستعطفون أصحاب السيارات بشراء باقات ورد، وبعض الأشياء البسيطة• إنها بداية لمعاناة أردنا الكشف عنها وعن خلفياتها، أو بالأحرى هي إحدى مآسي طفولة لم تعش طفولتها وفتحت أعينها على شيء إسمه العمل من أجل لقمة العيش • يبيعون طفولتهم مقابل أي شيء عندما تتوقف السيارات عند إشارة المرور يهرع هؤلاء الأطفال بينها معرضين حياتهم للخطر، سنهم يتراوح بين سبعة إلى عشر سنوات، ومنهم من لم يتجاوز بعد الأربع سنوات• وزاد فضولنا بقدر تساؤلاتنا الكبيرة عندما طرقت طفلة صغيرة زجاج نافذة السيارة وهي تقول ''تعيشي اشري عليا هذو''، لا يمكن لأحد أن يرفض ذلك، وفي عيون الأطفال وبين نظراتهم البريئة ألف حكاية وحكاية للمعاناة الاجتماعية التي يعايشونها• لا يهمهم شيء آخر غير بيع ما لديهم من باقات الزهور المتبقية إذ أنهم لا يفهمون أساسا متطلبات طفولتهم وماذا يفعلون بها، ويظنون أن طريقهم هذه هي بداية الحياة ، حتى أن هناك من بينهم صغيرات لا يحسنن حتى الكلام ومع ذلك فهن يأتين إليك ببراءة يطلبن منك شراء ما يحملن، وكثيرا ما يحزن عندما يتجاهلهن أحد، لكنهن لا ييأسن أو يتراجعن•• فالمعاناة التي يتعرضن لها أقوى•• من يدفع بهم إلى هنا؟ عندما سألتها ''من أحضرك هنا صغيرتي؟'' غادرتنا فور سؤالنا مباشرة، وهنا فهمنا أن هناك من نبههم لعدم التكلم في حال ما وجهت لهم أسئلة من هذا القبيل• تصرف هذه الصغيرة دفعنا للبقاء هناك وقررنا بعدها أن نشتري المزيد من الزهور ونحصل على المزيد أيضا من المعلومات• أحمد، طفل في العاشرة من عمره، لا أحلام ولا دراسة ولا شيء ينتظره، هذا ما فهمناه من كلامه حيث أن عائلته تقطن في سكن فوضوي متواجد بمنطقة أولاد فايت ولا تجد لقمة عيشها، وهو يضطره للعمل حتى يحصل على قوت يومه وعائلته، طبعا على حساب طفولته التي تضيع بين الطرقات• طفل آخر كان برفقة أخته الصغيرة أخبرانا أنهما يأتيان كل صباح ويقضيان طوال اليوم في هذا المكان، فلا برد أو حرارة تصدهما عن التواجد هنا • ''من هنا يبدأ الانحراف''، هذا ما صرح به السيد ناصر الذي يمر من هنا بشكل يومي، معتبرا أن ما يحصل مع هؤلاء الأطفال ''جريمة إنسانية'' في حق طفولتهم، ولا يمكن السكوت عنها، بالإضافة إلى أن الكثير من سائقي السيارات يوجهون لهم كلاما قاسيا ما يجعل الطفل ينمو بأفكار العنف والبغض تجاه مجتمعه ومحيطه• شخص آخر أخبرنا بأن هناك من يأتي بهم إلى هنا ويوزعهم على جماعات متفرقة في الطريق فيما يبقى هو يراقب عملهم عن بعد، لذلك فهم يتجنبون أي حديث جانبي يخصهم، وحتى إذا نجحت في الكلام معهم فهم لا يصدقوك القول، وهذا أول درس قد لقنوهم إياه••• ويبقى الأسف حول حاضر ومستقبل هؤلاء الصغار، فالطفولة القابعة في نفوسهم قد بددتها مصاعب الحياة وظروفها القاسية، وبدل أن يستمتعوا باللعب كسائر الأطفال فإن الزمن قد لعب بهم أدواره وحرمهم من أدنى حقوقهم•