فاجأتني صورة إعلامي رياضي على الشاشة مربوط الرأس وقد غرقت ملابسه بالدماء. هذا الرجل تم تقديمه للناس على أنه ضحية العنف الجزائري، وهنا لم أتمالك نفسي ليس دفعاً للشبهات عن الجمهور الجزائري العنيف بطبعه وإنما لأنني رأيت الرجل يصاب أمامي بعد أن سقط في حفرة خارج الستاد بفعل الظلام الذي كان يغلف المنطقة وقتها، وعندما سقط الإعلامي أمامنا هرعنا جميعاً نحوه وكان معه مجموعة من أصدقائه تكفلت بأمره، ومنحهم البعض ماء لتنظيف الجرح بعد انزعاج الجميع من منظر الدم النازف منه، ورغم ذلك فوجئنا بصورة الرجل وهو يركب الطائرة ويتم تقديمه للناس على أنه أحد ضحايا ''الموقعة الحربية'' التى جرت! لم يخطر ببالي ولا ببال أي من الزملاء الذين رافقوني في رحلة الخرطوم لمتابعة مباراة منتخبنا القومي مع منتخب الجزائر أننا سنعود لنجد القاهرة غارقة حتى أذنيها في بحر من الحكايات الملفقة والأكاذيب والقصص الدرامية المختلقة، ولما طالعت عناوين الصحافة فور نزولي من الطائرة القادمة من الخرطوم تصورت أنني كنت في بلد آخر أوأنني لم أكن معهم، رغم أننا كنا في أوتوبيسات مجمعة تسير مع بعضها البعض• مانشيت لإحدى الصحف يتحدث عن قتيل ومئات الجرحى ومانشيتات أخرى تتحدث عن مذبحة على نحو أثار دهشتي وجعلني أتحسس جسمي بحثاً عن طعنة أو ضربة سيف أوأثر لسكين، فلم أجد مع الأسف! ولم أكن أتصور أنني سأضطر لكتابة شهادتي على الأحداث التفصيلية على العكس تماماً من الهمجيين الذين انشغلوا بإشعال نار التعصب قبل مباراة القاهرة وبعدها حتى وصلنا للهزيمة التي لحقت بفريقنا في الخرطوم وما تلاها من إشغال كامل للفضائيات وبرامج ''التوك شو'' للحديث عن كرامة المصريين التي أهينت في الخرطوم• ويا ليت الأمر توقف عند حدود التلاسن مع الجزائر، بل تخطاه هجوماً على السودان الرائع وشعبه الكريم، ذلك الهجوم الذي توقف بتدخل سريع من الرئيس مبارك شخصياً• وعندما قلت لنفسي ربما حدثت وقائع لم أرها فاجأتني صورة إعلامي رياضي على الشاشة مربوط الرأس وقد غرقت ملابسه بالدماء• لقد كان استخدام الرجل على هذا النحو أمرا مثيرا للدهشة، بينما بقية الصور التي تولت الفضائيات إذاعتها عبارة عن لقطات تم تصويرها لزحام آلاف المصريين في مطار الخرطوم يبحثون عن مقعد على أي طائرة للعودة للقاهرة هرباً من التعب والإرهاق وإحباط الهزيمة• وكما حاولت لجنة السياسات ركوب النصر المتوقع في الخرطوم فإنها استطاعت أن تركب فوق هزيمة المنتخب لتوجه غضب الجماهير المصرية باتجاه الخارج حتى لا يدفع المتسبب الحقيقي فواتير الهزيمة، ولكي تضمن تسريباً آمناً للشحنة الانفعالية الموجودة في قلب الجماهير الغاضبة، ولو أن التسريب لم يكن آمناً تماماً بعد أن تسبب في وضع حي الزمالك تحت حصار الأمن لحماية سفارة الجزائر، فقامت الجماهير بتحطيم المحال الموجودة حول السفارة وهى مملوكة لمصريين!• وفى إطار تصدير الغضب للخارج كان للسودان نصيب تسبب في استدعاء السفير المصري في الخرطوم للتعبير عن دهشة الخرطوم من وقاحة البعض وبجاحة البعض الآخر الذى امتلك الجرأة للنيل من أهلنا في السودان، الذين أحاطونا بحب وود مدهش•• ولكنها الهزيمة اللعينة التي أطاحت بالعقول وضعت مكانها كرة القدم! عندما نزلنا في مطار الخرطوم كان الأشقاء السودانيون في استقبالنا مقبلين على العلم المصري، يطلبونه بإصرار شديد، مرحبين بنا، مؤكدين على فوزنا المحتوم على فريق الجزائر• ولم تمض سوى لحظات إلا وانتهت إجراءات الدخول وأمام المطار وجدنا أحد خريجي جامعة الإسكندرية يوزع علينا بيانا مطبوعا عن كيفية التحرك في الخرطوم وكيفية الانتقالات وأماكن التنزه والطعام الرخيص• البيان كان منسوباً لرابطة خريجى جامعة الإسكندرية، بخلاف ذلك كان الجمهور السوداني يوزع أوراقا مطبوعة وملونة عليها صور لاعبينا وهتافات لهم ودعاء بالفوز وتأكيد على أحقيتهم بالوصول إلى جنوب إفريقيا• وأمام المطار كانت الأوتوبيسات في انتظارنا لتقلنا إلى مبنى السفارة المصرية وكان ذلك في الثامنة والنصف من صباح الأربعاء• في الأوتوبيسات كان مساعد السائق يوزع علينا المياه المعدنية والحلوى والعصائر• وعندما وصلنا للسفارة فوجئنا بأن السفارة قد أعدت صوانين في الحديقة وبهما المقاعد والطاولات بل و''الشلت'' في محاولة لاستيعاب أعداد كبيرة من الصحفيين والفنانين وقيادات الحزب الوطني• وظللنا في السفارة لأكثر من ثماني ساعات نراقب أمواج الجماهير المصرية والجزائرية التي تعبر من أمام السفارة في طريقها لملعب المباراة في أم درمان• وهنا لابد من الإشارة لقصة كان بطلها الزميل جمال عبد الرحيم، عضو مجلس نقابة الصحفيين، وبعض الزملاء الذين رافقوه إلى كافيتريا في الخرطوم، حيث رفض السائق الذي أقلهم من أمام السفارة أن يتقاضى منهم أجر المشوار وكانت مفاجأتهم كبيرة حينما هموا بدفع الحساب للكافيتريا. عندها علموا أن الشقيق السوداني الذي أقلهم دفع الحساب قبل أن يرحل! هذه صورة معبرة عن كل ما جرى من السودانيين معنا خلال 24 ساعة قضيناها هناك• وعندما تحركنا من السفارة قاصدين ملعب المباراة كانت تحفنا دعوات السودانيين وتمنياتهم لنا بالفوز، وكم كان مدهشاً وأعلام مصر يرفعها الأشقاء ملوحين لنا بعلامات النصر وطوال الطريق لملعب المباراة لم تتغير الصورة وأنا ألوح لهم بعلم السودان الذي كان بحوزتي حتى إنني شاهدت طفلا سودانيا وقد تفتق ذهنه عن لافتة أعدها بنفسه تضمنت علمي مصر والجزائر في لوحة واحدة وبينهما علم فلسطين متصلين، وهى إشارة لا تخطئها عين عن حس هذا الصغير القومي الذي فاق الكبار، الأمر بالطبع لم يخل من أعلام جزائرية بأيدي سودانيين، ولكنها لا تمثل نسبة بالمقارنة بأعلام مصر، أمام حديث ''التكاتك'' الذي برع فيه البعض واتهامهم للسودانيين بتأجيرها للجزائريين وكأن في هذا الأمر جريمة فالحقيقة أن جزءا كبيرا من الجماهير الجزائرية كان موجودا بشكل فردى وهو ما جعلهم يستقلون ''التكاتك'' والتاكسيات والمركبات الصغيرة ويرفعون أعلام بلادهم، فبدا الأمر وكأنهم المسيطرون عددياً لأن معظم الجماهير المصرية كانت في الأوتوبيسات الضخمة بأعلامهم! وأمام الاستاد (الملعب) كان الزحام على أشده والتدافع للدخول هائل• ويجدر القول هنا إنه حتى هذه اللحظة يوجد عزل كامل بين الجماهير الجزائرية والمصرية وكلٌ منهما دخل من طريق مغاير للآخر تماماً، وتمكنا بصعوبة من الدخول لملعب المباراة فلم نجد في مدرجات الدرجة الأولى المخصصة لنا موطئ قدم ولا أقول مقعدا• كان الزحام رهيباً لدرجة تدفعني للتأكيد أن الاستاد كان به ضعف سعته، وعندما دخلت صدمني منظر جماهير مصر وهي تتفرج بدهشة على الجمهور الجزائري المتحمس، فأوجست من هذه الجماهير خيفة أن تفشل في تحفيز الفريق المصري وقد كان، فلم يحضر من القاهرة أي من جمهور الكرة المتحمس وجاء كل من يرغب في ركوب الموجة من سياسيين فاشلين وفنانين وممثلين درجة ثانية وأبناء قيادات الحزب الوطني وبالتأكيد معظمهم يدخل استاد كرة القدم لأول مرة في حياته، ولذلك سيطر جمهور الجزائر على الملعب، لدرجة أن لاعبي المنتخب المصرى كانوا يتسولون التشجيع من جمهورهم ولكن هيهات لأن الحاضرين لا يجيدون فنون التشجيع والتحميس، وانتهت المباراة في الملعب بنفس الطريقة التي حسم بها الجمهور الجزائري المباراة في المدرجات• بعد المباراة خرجنا منكسرين ومحبطين بفعل الهزيمة ومرهقين لعدم النوم ليومين وفى منطقة مظلمة أخذنا نبحث عن الأوتوبيسات التي ستقلنا للمطار، واستغرق الأمر أكثر من ساعة لتوزع الأوتوبيسات على أماكن متعددة، وفي هذه الأثناء حدثت إصابة زميلنا الإعلامي أمام أعيننا عندما سقط في حفرة وشج رأسه، ونتيجة للخطة الأمنية الناجحة التي اعتمدت على العزل التام بين الجمهورين قمنا بالتجول في المنطقة بحثاً عن الأوتوبيسات في أمان تام، ولو كان الأمر مختلطاً وتقابل الجمهوران فى منطقة كتلك، وفى ظل أحاديث السيوف والسنج والأسلحة البيضاء لحدثت مجزرة• وبعد أن ركبنا السيارات في اتجاه المطار عرجت سيارة من سيارات المصريين إلى داخل الخرطوم وكانت تقل عدداً من الفنانين وتقابلت مع الجمهور الجزائري، وحدث بعض الاحتكاك البسيط بين جماهير كرة القدم العادية، ولكنه كان ذا وقع شديد ومخيف على ممثلين لم يعتادوا ولوج ملاعب الكرة، وحتى وصولي للمطار لم أشاهد جزائريين أو أتعرض لأي أحداث عنف مما قيل عنه في التليفزيون والصحافة المصرية دون توثيق أو تحقق، وعندما وصلت المطار شاهدنا أوتوبيسا واحدا وقد تكسر زجاجه بفعل قذف الطوب• وبوصولنا المطار أصبحنا آمنين تماماً ورغم ذلك لم يتوقف صراخ البعض مهاتفين القاهرة ''الحقونا••'' ظناً منهم أن ذلك سيعجل بالسفر، وبالفعل فقد كان المطارد الرئيسي لنا في المطار هو الإرهاق وقلة النوم، وزاد من وطأته الهزيمة وإحباطاتها• وفي المطار فوجئنا بتحويلنا إلى ممر إقلاع طائرة الرئيس السوداني كتكريم لنا، وحدث الهرج والمرج ووجدنا أنفسنا داخل المطار وبالقرب من ممر إقلاع الطائرات، وكان الأمن السوداني مهذباً لأبعد الحدود وصبوراً جداً معنا، ونحن تملؤنا الرغبة في الفكاك من هذا المكان بأسرع وسيلة وفي أقل وقت ممكن• وظلت عملية التدافع قائمة على أوتوبيسات المطار التي تقل الركاب إلى ممر إقلاع الطائرات وعددنا يتناقص وعند الواحدة بعد منتصف الليل كان أكثر من 70 بالمائة من المصريين قد أقلتهم طائراتهم التي كانت في انتظارهم منذ الصباح، والباقى يركب تباعاً• وقد تمكنت من ركوب الطائرة عند الواحدة من صباح الخميس، ولمشاكل في الطائرة ليس للسودانيين دخل بها لم تتمكن الطائرة من الطيران إلا فى الثامنة والنصف من صباح الخميس بعد أن دخلنا في شد وجذب ونقاشات حامية مع السودانيين حتى يتم حل المشكلة المعطلة للطيران، وعندما طرنا من السودان أيقنت كم كان السودان كريماً مع إخوانه المصريين وسمح لهم بالطيران بدون خاتم المغادرة اللازم لمغادرة أي راكب حتى لا يعطلهم ويسهل عملية نقلهم بسرعة أعتقد أنها كانت هائلة برغم كل شيء• بقيت نقطة مهمة لابد من الإشارة لها تتعلق بأن السودان بالفعل أعطى الأولوية في الطيران للمصريين، وعندما ارتفعت بنا الطائرة عن الأرض وجدت الجماهير الجزائرية منزوية في ركن من المطار لم تغادر بعد في الوقت الذي انتهت تقريباً عملية سفر المصريين• أما عن حديث الجسر الجوي الذي أُمر به من القاهرة فهو يدخل في باب المزايدات، فلم يكن هناك جسر جوي ولا يحزنون، والطائرات التى أقلتنا في رحلة الذهاب انتظرت وعادت بنا بعد المباراة• وكان ملفتاً أن البعثة الطبية المصرية الموجودة في المطار ظلت تدور بين المسافرين وتعرض خدماتها علينا بحثاً عن مصابين فلم يجبها أحد، لقد كانت تتصرف بإلحاح من القاهرة التي كانت تتلقى البيانات الكاذبة على الهواء! وكم كان بيان وزارة الصحة فاضحاً لأكاذيب المجزرة، مؤكداً أن عدد المصابين 21 مصاباً ليس بهم أى إصابة طعنية، بينما الصحف تتحدث عن قتلى وجرحى بالمئات• وبالفعل هناك تساؤلات لم تجد إجابات شافية في ظل الجدل والدجل الذي ملأ الشاشات، فعلى الرغم من كل ما قيل عن أسلحة بيضاء وسكاكين لماذا لم تخطئ سكين واحدة وتدخل في بطن مشجع؟ أنا هنا لا أبرئ الجمهور الجزائري المعروف بعصبيته وتهوره في مباريات الكرة داخل بلاده وخارجها، ولا أنفي أو أؤكد خططهم للمباراة ولكني أقول إن هناك تهويلا جبارا لأمور بسيطة تحدث في عالم كرة القدم وما كان يجب أن تأخذ أكبر من حجمها• ويبقى أن أشير لأصوات تحدثت عن مؤامرة من أطراف داخل الجزائر أو من بعض أطراف عربية أو فرنسية تحدثت عن رغبة في إخراج مصر من سوق الاستثمار في الجزائر والقفز عليها، فإذا كان ذلك صحيحاً•• فلماذا تلقفت أطراف داخل مصر خيط المؤامرة وساعدت بقوة على نسجها والمساهمة بالدور الأكبر في إنجاح هذه المؤامرة؟ ورغم وصولي منهكاً من قلة النوم على مدار يومين، فإن النوم قد جافاني بعد وصولي لأيام بعد ما رأيت من مانشيتات الصحف وأكاذيب الفضائيات الفجة.