يتطرق العضو القيادي في حزب جبهة التحرير الوطني الوزير الأسبق عبد الرحمان بلعياط، في هذا الحوار إلى دستور 23 فيفري 1989، الذي خرج من رحم أحداث 5 أكتوبر 1988، التي قال عنها إنها كانت مدبرة ومرتبة لإقصاء الأفالان من الحكم، مشيرا إلى أن ذلك دوّن في وثائق المؤتمر السابق للحزب المنعقد في مارس 1998 كما يرجع بلعياط عدم إشراك الحكومة للنقابات المستقلة، التي هي أحد مكاسب دستور 89، في الثلاثية إلى افتقار هذه النقابات لصفة النضج في الطرح مع محدودية تمثيلها للجبهة الاجتماعية.
اليوم تكون قد مرت 21 سنة على إقرار أول دستور تعددي في الجزائر، ألا وهو دستور 23 فيفري 1989، الذي جاء بالعديد من المكاسب في المجال السياسي، الاقتصادي، النقابي، وحرية الرأي والتعبير، في رأيكم إلى أي مدى تم تحقيق هذه المكاسب على أرض الواقع؟ أنا لا أتكلم بمصطلح المكاسب أو الأضرار، ولكن أتعامل مع الواقع، دستور 23 فيفري 1989، جاء على إثر قرار سياسي لرئيس الجمهورية بتغيير نظام الحكم في شكله وفي تركيبته. وقد مر هذا المسعى على المؤتمر السادس لحزب جبهة التحرير الوطني، الذي فضل اعتماد مرحلة انتقالة تكون فيها منابر سياسية داخل حزب جبهة التحرير الوطني، لكن الواقع أنتج تعددية حزبية تضم كذلك حزب جبهة التحرير الوطني كعامل سياسي داخلها. وإذا كان لا بد من التقييم فلا بد أن يتسم العمل بالشمولية أو بصفة إجمالية، يعني تقييم أداء المنظومة السياسية الجديدة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والآن بعد مرور 21 سنة على دستور 89، وهي فترة تقارب مدة حكم الحزب الواحد، أي منذ سنة 1962، إلى غاية 1989، ففترة الحزب الواحد جاءت بنتائج ملموسة في مجالات حيوية ويعتبرها الشعب كمكاسب لا يمكن التراجع أو الاستغناء عنها، في مجالات التعليم الصحة والسكن ومناصب الشغل، مقابل تطوير الاقتصاد من اقتصاد بدائي إلى اقتصاد له قواعد صناعية. أما الدستور المؤسس للتعددية السياسية، فيمكن أن نقول إنه أعطى إطارا أكثر تفتحا للتعبير ومنح صيغ مختلطة للتعبير عن الأفكار والعمل السياسي. كما مكّن من تأسيس جمعيات ذات طابع سياسي حسب عبارة المادة 40 من هذا الدستور، الذي خجل أو “استحى” أن يسميها الأحزاب السياسية. كما عرفت هذه الفترة بروز وتطور واندثار أحزاب عديدة، حيث وصل العدد إلى أكثر من 70 حزبا. وقد نشطت الساحة السياسية أحزاب أثبتت دورها في إطار دستور 1996، الذي طوّر منظومة 1989، ولم يبتعد عن المبدأ الأساسي الذي جاء به، ألا وهو التعددية الحزبية والإعلام والنقابة والجمعوية. بالإضافة إلى هذا، حرص دستور 1996 على تكريس مبدأ الفصل بين السلطات واستقلالية القضاء. ويبقى تقييم دستور 1989 على أرض الواقع مرتبطا بمدى فعاليات هذه المنظومة وتكفلها بمتطلبات المجتمع والتطورات التي تعرفها الساحة الوطنية والدولية. إنني أذكر مع الأسف، بأن فترة التعديدة صاحبتها في بدايتها اضطرابات سياسية أوصلتنا إلى أبشع وأفظع وأتعس مرحلة عرفناها منذ الاستقلال ظهور واستفحال واستمرار الإرهاب، حتى وإن تم تقليصه وذلك بفضل وعي الشعب وتجّند أسلاك الأمن وصلابة الجيش الوطني الشعبي، ولا ننسى دور قانون الرحمة والوئام المدني وحاليا المصالحة الوطنية. أتمنى أن تتسع المنظومة السياسية الجديدة بتنشيط تشكيلات سياسية قوية نزيهة وفعالة، ترتكز على أفكار واضحة وواقعية وطموحة ينشطها المناضلون حماية للمصلحة الوطنية.
كما يعلم الجميع، فإن أحداث 5 أكتوبر 1988 هي التي هيّأت الظروف لميلاد دستور 23 فيفري 1989، المكرّس للتعددية السياسية والمؤسس للديمقراطية بالجزائر، رغم هذا فإن أغلبية الشعارات التي رفعها المتظاهرون خلت من أي طابع سياسي، حيث طغت العبارات المكتوبة على لافتات “لا للحقرة” “نريد السكن”، “ضمان الحق في العمل” وحقوق اجتماعية أخرى، فما هي في تقديركم الخلفية السياسية الحقيقية لأحداث 5 أكتوبر 1988 واستمثارها في اعتماد دستور تعددي؟ كما فهمت أنا وعايشت أحداث 5 أكتبور 1988، فلم أقتنع لحد الآن بأن الهدف منها هو تحقيق تلك الأمور الاجتماعية التي أشرت إليها، ولكن جاءت بسبب تعثر حتى لا أقول تأزم، داخل الأوساط القيادية في نظام الحزب الواحد آنذاك، وحتى لا أزيد من التحاليل والاعتبارات الشخصية أو الذاتية أود أن أقول لكم بأننا داخل الحزب نتعرض باستمرار إلى هذه المسألة في أحاديثنا، مما أوصلنا إلى إدراجها في اهتمامات وقرارات المؤتمر السابع. وقد خصصنا لهذه المسألة فقرات قيّمة أحب أن يرجع إليها المهتمون بدواعي وعواقب 5 أكتوبر 1988. ورغم تحفظات الحزب وتحفظاتنا الشخصية على مجرى أحداث أكتوبر 1988، وما بعدها، لم نسع ولا نريد أن نسعى إلى تغيير مجرى التاريخ، فهذه الحقيقة أجبرتنا على التمسك بجوهر نضالنا، أي كحزب ومناضلين فيه، ولم نتنكر له، ولكن أثبتنا مقدرة الحزب ومناضليه فيه ولم نتنكر إليه، ولكن أثبتنا مقدرة الحزب ومناضليه على احترام مؤسسات الدولة والتفاعل معها إيجابيا، وتكيف الحزب مع المستجدات، وأصبح أكبر فاعل سياسي يحترم التعددية والديمقراطية، وفي هذا المجال لنا أمثلة عديدة.فالانتخابات المختلفة تؤكد أن الحزب لم يتنكر للمنظومة السياسية المتعددة، ولكن دعمها وثمّنها بأداء مسؤول وبسعي مثابر لإعطاء الوجه الحقيقي لنظام سياسي تعددي.
رغم أن 23 فيفري 1989 ضمن التعددية السياسية والنقابية، إلا أن الحكومة اليوم تتنكر لدور النقابات المستقلة بدعوى عدم تمثيلها مقارنة مع الاتحاد “ع ع ج” والدليل عدم إشراكها في حوارات أو لقاءات الثلاثية بما فيها اللقاء الأخير، أليس هذا تعديا على المكسب الدستوري، خاصة وأن النقابات أثبتت عمليا قدرات تجنيد كبرى وتمثيل حقيقي؟ حقيقة أن دستور 89 صان حق التعددية النقابية، وتعجّ السياحة اليوم بتنظيمات، تخص جميع مجالات النشاط الاقتصادي والاجتماعي، ويتقدم هذه النقابات الاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي نعتبره نحن بأنه يفرض نفسه اليوم، كما فعله بالأمس القريب والبعيد للدفاع عن حقوق العمال وعن مكتسبات الوطن والمجتمع. وإن وضع الاتحاد العام للعمال الجزائريين اليوم وفي المستقبل يتماشى إلى حد بعيد من مقاصد الثورة والنضال في الاستقلال أثناء الحزب الواحد، وفي ظل التعددية. إن الاتحاد العام للعمال الجزائريين يفرض نفسه في الواقع الوطني والدولي، ولا يمكن لأحد نفيه أو محوه، مع هذا توجد على الساحة الوطنية نقابات أخرى مستقلة عن الدولة والأحزاب، إن هذه النقابات تؤدي دورا ضروريا وإيجابيا يتناسب مع فكرة التعددية. وأحب أن أسجل هنا، بأن الحكومة والوزارات المعنية لا تنفي هذا الواقع ولا تتجاهله ولا تحاربه، بل بالعكس إنها تتعامل معه بنفس الواقعية التي ترمي إلى الحوار والتشاور مع أطراف مسؤولة تساهم في استيعاب المسائل المطروحة وإيجاد حلول لها. أما عندما تقولون بأن هذه التنظيمات لم تكن طرفا في الثلاثية، فهذا أمر آخر، وأما النقابات الأخرى فيمكن إشراكها في عمل مثل الثلاثية، عندما تؤكد لدى الأطراف الاجتماعية أن لها التمثيل اللازم، ففي فرنسا تتعامل السلطات - أي الحكومة والبترونا - مع التنظيمات النقابية الأكثر تمثيلا، وأظن أننا في طور البحث عن هذه الصيغة التي تتيح فرصة إشراكها، وفي هذا المجال الحوار لا يزال متواصلا. فعندما تكون الأحزاب مثلا ذات وزن فهي تشارك في اتخاذ القرار وتبقى الأخرى في المعارضة.
أقرّ دستور 1989 التعددية الإعلامية، رغم ذلك لم يُفتح القطاع السمعي البصري حتى الآن، وقد ظهرت سلبية الأمر والحاجة إلى هذا المطلب خلال التوتر الذي طبع العلاقات الجزائرية - المصرية بعد مباراة القاهرة والخرطوم، فلماذا يظل الإعلام الثقيل تحت سيطرة الدولة؟ نحن في حزب جبهة التحرير الوطني لسنا ضد فتح المجال السمعي البصري، ولنا موقف معاكس لهذا المبدأ فيعتبر معركة خلفية والمعركة أصحابها معرضون إلى الانكسار والهزيمة ثم الاندثار. إن تطور وسائل الإعلام غير مسبوقة في كل العالم، يفرض فتح القطاع السمعي البصري في الجزائر أمام المبادرات الخاصة، لكن لا يوجد بلد من البلدان بادر بفتح هذا المجال دون تحصين وتأمين أمنه القومي بالوسائل العصرية المتاحة. إن فتح المجال السمعي البصري بوسائلنا الخاصة داخل الوطن يفرض علينا أن نُلزم من ينخرطون فيه بشروط لا تلغي الحركية ومتطلبات وحدة وسلامة المجتمع ومصالحنا الاقتصادية وواجبات نظرتنا الاستراتيجية.ففتح المجال السمعي البصري يتطلّب الانسجام مع النظرة الوطنية المشتركة والباقي هو مسؤولية تنفيذ وحسب. على كل سلطة مسؤولة عن هذا الموضوع أن تأخذ مسؤولياتها ولا تضع رأسها في الرمال مثل النعامة أو تفتح الأبواب على مصراعيها بدون حيطة وحذر.
كيف تقيّمون أداء المعارضة خلال حقبة الحزب الواحد، وأداءها بعد التعددية السياسية الواردة في دستور 1989؟ المعارضة كانت سرية ليس لها وجود قانوني، ولكن واقعيا السلطة كانت منتبهة لعملها وتتصرف إزاءه حسب متطلبات المرحلة. اليوم توجد معارضة تتدخل في ما يسمح به القانون والدستور، والناخب هو الذي يقيّم أداء الحزب. إن أسوأ شيء تولّد عن التعددية السياسية هو ظاهرة الإرهاب الهدّّام الذي ترك آثارا سيئة على المجتمع بأسره. فالمعارضة الآن تقوم بدورها وتتنافس مع الأحزاب الأخرى، كما أن المنافسة الآن لها طابع مؤسساتي وواضح يرسم الساحة السياسية الجزائرية ويحدد معالمها.
أحد مقتطفات وثائق المؤتمر التاسع للحزب المنعقد في 1، 2، 3 مارس 1998
“إن الأحداث التي عاشتها الجزائر منذ أكتوبر 1988، وما زالت تعيش آثارها المأساوية إلى الآن، بيّنت بكل وضوح أن عملية الإقصاء المدبّر لحزب جبهة التحرير الوطني من الحكم كان خطأ سياسيا جسيما إذ لم يكن مقررا من طرف الشعب بصف شرعية. فبالرغم من وجود مشاكل اجتماعية كان يعانيها الشعب نتيجة انهيار أسعار البترول والبيروقراطية واللامبالاة والانحرافات في سلوك بعض المسؤولين، إلا أن إقصاء حزب جبهة التحرير الوطني كان مصطنعا ومفتعلا لتغيير نظام الحكم والنظام الاقتصادي عن طريق الشارع لا عن طريق حوار واسع وعن طريق مؤسسات منتخبة.فوقعت تجاوزات وانزلاقات ما زالت الجزائر تدفع ثمنها الغالي إلى الآن، فالتغيرات السياسية التي أدخلت إثر أحداث أكتوبر 1988 لم تمر على استشارة اللجنة المركزية ولم تحظ بدراسة عميقة ولا برزنامة تكفل لها النجاح وتجنّبها التقلبات“.