تمّ إحياء اليوم العالمي للصحافة من خلال كلمات وتقارير تكرّس الواقع الراهن، وتتجاهل عموما في مضمونها أسباب الأخطار الحقيقية التي يتعرّض لها الصحافيون وتصاعد الهجمات والاعتقال والسجن والاعتداء والاغتيال ضدهم، بحيث أصبحوا هدفا دائما في المعارك والحروب والصراعات السياسية، وإن لم يكن معلنا. ورغم كل التّعتيم على هذا الواقع المرير، ورغم اللغة العائمة التي تستخدم للتغطية على القتل والاضطهاد، يتم تسمية بلدان صغيرة عند الإشارة لاضطهاد الصحافيين وإغفال البلدان الكبرى خاصة القوى المهيمنة عسكريا. ولكن المرء يمكن أن يستنتج أن الحرب على العراق وبالتوازي الوضع في فلسطين، قد رفعا مؤشر الاستهداف المتعمّد للصحافيين بشكل غير مسبوق. فقد نشرت صحيفة “الصين اليوم“ تقريرا مفاده “أنه وخلال أربعة عشر شهرا من احتلال العراق قتل الجيش الأمريكي ومخابراته التي تأخذ شكل الشركات الأمنية مثل بلاك ووتر وبونيير وغيرهما، مراسلين إعلاميين أكثر من عدد المراسلين الذين قتلوا طيلة الحرب على فيتنام ومعظم هؤلاء المراسلين مستقلون. في الثامن من أفريل 2003 قتلت المخابرات الأمريكية الصحافي العامل في “الجزيرة“ طارق أيوب والذي كان قد وصل للتوّ إلى العراق من الأردن. وفي اليوم ذاته قصفت القوات الأمريكية فندق “فلسطين“ الذي كان يحوي أكثر من مائة صحافي، وكان معروفا للجميع أن فندق “فلسطين“ هو مركز تجمّع الصحافيين والمراسلين الأجانب، وقتل في ذلك القصف عدد من المراسلين الأجانب من بينهم جوزي كوسو، مصور التلفزيون الإسباني، وتوتوس برودزوك مصوّر “رويترز“ المخضرم. وقد أصبح واضحا أن عشرات المراسلين والمصورين قد قتلوا في العراق في تصعيد غير مسبوق ضد مراسلي ومصوري الحرب الذين رفضوا أن يكونوا شهود زور للجيش الأمريكي، وأن يرووا قصته فقط وينشروا صوره التي تعطى لهم من قبل قادة الوحدات الأمريكية. وفي باكستان، قتل عدد كبير من المصورين والمراسلين، كما قال عويس إسلام علي، الأمين العام لمؤسسة الصحافة الباكستانية في مؤتمر “قمة الحصانة: التضامن للوقوف في وجه قتل الصحفيين“. أكد المتحدثون في هذه القمة أن أكثر من 88 صحافيا ومراسلا قتلوا في السنوات العشر الأخيرة في العراق، مع أن الأمر في النهاية هو حول الناس وقتل أي صحافي جريمة لا تغتفر. وفي فلسطينالمحتلة تستمر إسرائيل في اغتيال عشرات الصحافيين العرب والأجانب، وخاصة المراسلين لوكالات أنباء عالمية والمصورين الذين حضروا ليوثقّوا الجرائم الإسرائيلية ضد شعب وأطفال فلسطين وأشهرهم البريطاني جيمس ميللر، الذي كان يصوّر بقصد صناعة فيلم عن الجرائم الإسرائيلية بحق أطفال فلسطين، وطبعا وبسبب قتله، لم يصدر مثل هذا الكتاب ولم يظهر ذاك الفيلم. ومن خلال المتابعة لأسماء وأعمال من طالتهم التفجيرات والهجمات الأمريكية والإسرائيلية في العراق وفلسطين نلاحظ أن جميع هؤلاء المراسلين والمصورين الذين تمّ استهدافهم كانوا يبحثون عن الحقيقة، وكانوا جريئين في جهودهم ومحاولاتهم للتوصل إلى الحقيقة وإيصالها إلى المشاهد أو القارئ في جميع أرجاء الأرض، وبهذا فإن الكارثة ليست في العدد فقط، وإنّما في النوع، بحيث تمّ من خلال هذه الجرائم، التي لبست لبوس تفجيرات إرهابية حينا، وأذى غير مقصود حينا آخر، إخماد أصوات حرة كانت فاعلة ومؤثرة في تسليط الضوء على حقائق الأمور في وجه التعتيم الإعلامي الذي تفرضه المؤسسات الإعلامية والتي تخفي عن المشاهد والقارئ بتنسيق مع الحكومات والمخابرات الحقيقة والواقع. ويأتي تقرير اليونيسكو الذي نشر في 10 مارس عام 2010 بعنوان: “اليونيسكو ترفع راية ارتفاع عدد الصحافيين الذين يواجهون القتل“ ليؤكد حقيقة هذا الاستهداف: “على الأقل 80 من ال125 صحافي الذين قتلوا بين عامي 2008 - 2009 كان بسبب هجمات تستهدف الضحايا أنفسهم من قبل هؤلاء الذين لا يريدون للصحافيين أن يتحققوا وأن يكشفوا عن معلومات تهمّ الجماهير“. ويضيف التقرير: “ومن نافلة القول أن هذا يشكل تهديدا خطيرا لحرية التعبير ولقدرتنا على البحث عن الحقيقة“. ولاشك أن هذا التهديد الخطير لحياة الصحفيين في موقع الأحداث، قد شكّل ضربة قويّة للصحافة الاستقصائية في العالم، والتي تعاني اليوم من أزمة غير مسبوقة، إذ أنّ الإعلاميين الأجانب يتذكّرون كيف كانوا يقودون سياراتهم من القدس إلى مختلف قرى ومدن الضفة الغربية يتحدثون للفلسطينيين وينقلون معاناتهم للعالم. كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، أما اليوم فإن مراسلي وكالات الأنباء والمصورين يُحظر عليهم الوصول إلى مكان الحدث، حتى المؤيدون الدوليون لحق الشعب الفلسطيني والذين يأتون للتظاهر ضد جدار الفصل العنصري وغيره من الجرائم، يتعرضون على أيدي الجيش الإسرائيلي ومخابراته للضرب والمهانة والاعتقال والقتل، كما كان مصير الشابةالأمريكية، راشيل كوري، التي سحقتها جرافة إسرائيلية عمدا. ورغم كل هذا فإن الأمين العام للأمم المتحدة يتهرّب في كلمته عن استهداف الصحافيين من الإشارة إلى هذا القتل المتعمد للصحافيين من قبل القوى الأمنية الأمريكية والإسرائيلية في العراق وفلسطين، بل يتحدث عن صحافيين فضحوا مخالفات قانونية وفساد، وهذا هام أيضا، ولكن بشرط عدم إغفال الظاهرة الأعم والأشمل والأخطر وهي استهداف مخابرات تابعة لحكومات مثل الولاياتالمتحدة وإسرائيل للصحافيين في العراق وفلسطينوباكستانوأفغانستان وذلك لردع الآخرين من الذهاب إلى هناك، وللتخلص من خطر ما قد تكشفه الصحافة والكاميرات للناس في أصقاع الأرض من تجاوزات وجرائم ترتكب بحق المدنيين الأبرياء. فكم مجزرة ارتكبت في أفغانستان وسمعنا في الأخبار أنه تمّ قتل “مجاهدين“ لنكتشف بعد ذلك أن الضحايا هم من النساء والأطفال. والسؤال هو: من المتضرر من كشف هذه الحقائق ولماذا؟ ولو كانت هناك حرية حقيقية لحركة الإعلام والإعلاميين في فلسطينالمحتلة، لما تمكن المستوطنون من أن يعيثوا فسادا وقتلا وإرهابا ضد السكان الأصليين كلّ يوم، دون أن تصل أخبار جرائمهم إلى مسمع ومرأى العالم. يعتمد المحتلون اليوم أساليب تخفي آثار جرائمهم والمعاناة التي يسببونها لضحاياهم، وأول شرط لتمكنهم من إخفاء ذلك، هو قتل الأصوات الحرّة التي رفضت أن تكون جزءا من “الصحافة المرافقة للقوات“، والتزمت بما يمليه عليها ضميرها لكشف الحقائق، فواجهت مصير المناضلين الشرفاء الباحثين عن الحقيقة والعاملين على كشفها، حتى على حساب دمائهم وحياتهم ووجودهم. في اليوم العالمي للصحافة أقلّ ما يمكن للمؤسسات الدولية فعله، وهي التي تدّعي الحرص على حقوق الإنسان وحرية الكلمة، هو أن تشير على الأقل إلى خطورة هذه الجرائم، وأن تسمّي من يقف وراءها كائنا من كان، ومن انتهجها من الدول “الديمقراطية“، ومايزال، أسلوب عمل في العراق وفلسطينوأفغانستانوباكستان، بدلا من السير في مسار إخفاء الحقائق. د / بثينة شعبان