يروي شاعر جزائري قصة قصيرة عن إسكافي فرنسي عجوز كان يكدح في دكانه حتى ساعة متأخرة من الليل. إسكافي يعمل على تفصيل الجلود وهو يزدرد قطعة من الجبن، ويهمس للشاعر: "لن أصنع بعد اليوم أحذية عسكرية" كان ابنه قد سيق مجنداً إلى الجزائر في حربٍ لم يعلنها هذا العجوز، وكان الشاعر يريد أن يعلّم الجزائريين أن فرنسا هي هذا الكهل ذو الأصابع الثقيلة الواثقة والقادرة على أن تشد بحرارة على يدك، وعلى نسج إكليل من الزهور لأول أيار، وليست هؤلاء الفرنسيين الذين لم يحترموا مواطنهم الكهل. ولهذا على الإنسان أن يحتفظ بكامل قواه العقلية، وهو يمسك الزناد، وعلى الشاعر أن يكتشف الفروق ويميز في حلكة الليل. هذا الشاعر هو مالك حداد الذي تمر ذكرى رحيله بين سنة وأخرى، فتكون ذكرى للنسيان إلا من عبارته الشهيرة: "الفرنسية منفاي، آه.. يا أراغون، لو أعرف الغناء لغنيت بالعربية". والآن لا تبدو الفرنسية منفى، بقدر ما تبدو تذكرة مرور مؤقتة في نظرنا وربما في نظر الشاعر الراحل، فقد غنى فعلا كأجمل ما يكون غناء "بلبل رفضوا دخوله إلى معهد موسيقى". هذه العبارة الأخيرة هي إحدى استعارات الشاعر، وأحد قراراته الحاسمة حين كانت الجزائر تشتعل غضباً على المحتلين، وهو يصعد غناءه العذب واشتياقه إلى قول "يمه" بالعربية. لم يكن المنفى إذاً إلا حالة عامة، ولعل النفي في اللغة الأم نفسها كثيراً ما يكون أصعب، وذلك ما يختبره الإنسانُ حين يجد أن هذه اللغة ترفض البلابل التي لا تحمل شهادات، أو حين تعجز عن استيعاب فكرة "الغزالة" الراكضة في الصحراء. المنفى حالة وجدان وإحساس وأسلوب حياة قبل أن يكون مجرد أداة لغوية، وهذا هو ماتعكسه حالة مالك حداد، المنتمي إلى وطنه أكثر مما انتمى إليه آخرون يتحدثون العربية. حين سئل الشاعر عن تاريخ ميلاده، تذكر صورة واحدة؛ صورة "صطيف" إبان انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد اندفعت المدينة متظاهرة ومبتهجة بالأمل في التحرر، فحصدت أسلحة الجيش الفرنسي أرواح الآلاف من أبنائها. لم يكن الشاعر منقطعاً عن شعبه ولا عن الآخر، ففي أزقة باريس ومقاهيها ودور نشرها، دارت معظم أحداث رواياته. وهي بالمناسبة روايات ذات تركيب شعري مدهش، لم ينس فيها مالك حداد أنه شاعر أولا، وجزائري ثانياً، وإنساناً ثالثاً. وبهذه الأبعاد كان يقوم بالمهمة الوحيدة المؤهل للقيام بها؛ الكتابة، ممسكاً بهذه التجارب والتخيلات الصغيرة لتكون شهادته ومصيره. كانت الجزائر غزالته، ذلك الحلم الذي راوده في رواية "سأهبكِ غزالة"، وكانت "وريدة" و"أطفاله" في رواية "رصيف الأزهار لايجيب". الجزائر هي هذه القصص التي يرويها عن الناس البسيطين جداً كالطبيعة. أولئك الأبطال الذين لايعرفون أنهم كذلك، إلا في نظر غيرهم. أما هم فكانوا أصدقاءً ورفاقاً ورغبات ومصائر إنسانية عابرة. لم يكونوا أساطير إلا في خيالنا الذي يحب أن يقيم فارقاً ضخماً بين الإنسان وصورته بالكلمات الضخمة. عن هؤلاء البسطاء، جزائريين وفرنسيين، يروي الشاعر قصصاً عديدة. فبالإضافة إلى ذلك الكهل الكادح الذي رأى فيه صورة فرنسا، روى لنا قصة رفيق الطفولة الفرنسي الذي بدأ يكتظ بالطعام والحياة الباريسية ويقود حياة ملساء وسط عالم مضطرب. وقصة ذلك الأبله الذي كان يحكي، والدموع تملأ عينيه، كيف اضطر إلى أكل صديقه الحمار أثناء مجاعة الحرب. ولكن العجوز الفرنسية صاحبة المقهى هي الأكثر تاثيراً، فمأساتها وندمها بسيطان. لقد ظّلت تلوم نفسها لأنها كانت تستأثر ببعض الحليب المخصص لزوجها المريض في أيام الحرب، هو الذي لم يكن يستطيع تناول غيره. وبهذا الانشغال نفسه، وهذه الدقة في سبر أغوار النفسيات، يروي الشاعر قصة الطبيب الجزائري وابنته المتمردة في رواية "التلميذ والدرس"، ويوجه خطابه في مقدمة مجموعته الشعرية "الشقاء في خطر" إلى الشاعر الجزائري، داعياً إياه إلى التحلي بفضائل النحل، ومذكراً إياه بإنسانيته التي يدفعه الإحتلال الإستعماري إلى نبذها. لم يكن الشاعر يعرض مساجلة، بقدر ما كان راغباً في اتخاذ موقف إلى جانب الغزالات، والأزهار والأشجار التي رآها تحتج لأنها تحوّلت إلى حاضنات للبنادق. هي الحرب.. نعم، ولكن ليل باريس القلق ينبيء بأن الوحوش في طريقها إلى الإنقراض. لا أحد يقرأ مالك حداد وينسى العالم الذي استكشفه أوالشخصيات التي ابتكرها وأبقاها حية في رواياته وقصائده، حتى وإن كانت بلا أسماء. نحن نعرف الآن تلك الفتاة التي أطلق عليها اسم "فتاة الزاوية"، تلك التي كانت تواظب على الحضور إلى الحانة يومياً، فتضع قطعة نقود في آلة الموسيقى وتضع الاسطوانة نفسها وتنصت إليها ألف مرة ومرة. ونعرف تلك الألمانية التي لاتعرف كلمة فرنسية واحدة، فسماها "الفراشة"، وأفهمها بأن هذا هو اسمها بأن أشار إلى الكلمة في المعجم. وحين قرر فراقها أخذ المعجم ووضع اصبعه على كلمة "رحيل" وكلمة "أبدي"، ففهمت ورحلت. كانت قد أهدته آلة هارمونيكا، فلم يجد ما يفعله بها سوى أن يهديها إلى طفل من أطفال باريس. v v v لم يكن مالك حداد منقطعاً عن التأثير في الثقافة الشعرية العربية، إذ ترجمت له ثلاث روايات، وترجمت له منذ وقت مبكر في العام 1961 مجموعة شعرية حملت عنوان "الشقاء في خطر". ولكن هذا التأثير لم يكن واسعاً، لأن الشطر الأعظم من الثقافة العربية منذ خمسينات القرن الماضي وقع تحت سطوة تيارات الوجودية الفرنسية والشعر الانكليزي، ثم صُرف إلى الأساطير اليونانية ردحاً من الزمن، ثم أُغرق بالثقافة الأنجلو-سكسونية حصراً. مثل هذا الوضع لم يكن مهيئاً لتقبل شاعر مقاومة عربي بمعناها العميق، بل لشعراء أقل موهبة من أمثال ناظم حكمت وبابلو نيرودا سلبوا ألباب الشعراء العرب الطالعين منهم، أو ذلك الجزء الذي التفت إليهم بتأثير التزامه الحزبي، ورفض ما عداهم. إلا أن لمالك حداد لحسن الحظ تأثير لاتزال صفحته غير مضاءة إضاءة ملائمة في ما أصبح يطلق عليه في الصحافة "شعر المقاومة الفلسطيني"، وقصد به آنذاك شعر الشعراء المنتمين للحزب الشيوعي الإسرائيلي الذين يعارضون شكل حكومة الستعمار الصهيوني، لا الإستعمار ذاته. أما شعر المقاومة الحقيقي الذي كتبه الشعراء الفلسطينيون في المنفى، فقد أهملته الصحافة الأدبية إنسياقا مع المقولة التي أطلقها محمود درويش منذ وقت مبكر وزعم فيها أن "مايكتب من أدب خارج إسرائيل يفتقر إلى الصدق والأصالة"، ودعا النقاد العرب إلى الالتفات فقط إلى "ما يكتب في إسرائيل" (الآداب، سبتمبر1969). الآن يمكننا القول بثقة إن مالك حداد كان أحد المصادر المهمة التي اتكأ عليها شعراء الحزب الشيوعي الإسرائيلي لتمثيل دور "المقاومين"، وأن كل من درس شعرهم وعدّد مصادره، الماركسية تارة والتصوف تارة أخرى، وأرجع بعضهم جذوره إلى شعر الوطنيات التقليدي في الأربعينات، لم يذكر تأثير شعر المقاومة الجزائري، وتأثير مالك حداد تحديداً. ورغم أن د. اسعد علي، في كتابه الصغير "الشعر الحديث جداً"، تناول نصوصا شعرية فلسطينية بالتجاور مع نصوص لمالك حداد، إلا أنه لم ينتبه إلى أن الأولى كانت تردد صدى الثانية. أول المتأثرين مبكرا بتجربة وقصيدة مالك حداد كان الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ويمكن اعتبار مجموعته "آخر الليل نهار" (1967) ذات صلة نصية بمجموعة مالك حداد "الشقاء في خطر". ويقع هذا التأثر في جانبين، الأول، جانب التقاط استعارات مالك حداد حرفياً أو تحويرها أحياناً. والثاني، جانب الالتفات إلى موضوعات التفت إليها الشاعر الجزائري. ومن الأمثلة على الجانب الأول: يقول مالك حداد: "أدافع عن عطر الأزهار الذي ينتظر مني أن أبدعه". ويقول محمود درويش: "عن عطر الورود أدافع شوقاً إلى شفتيك". ويقول مالك حداد: "إنني أحلم دائماً بغد كالأساطير". ويقول محمود درويش: " إنني أحمل مفتاح الأساطير". ويقول مالك حداد: "إنني أفضح سرّ الزهرة التي انتهت على الحجر". ويقول محمود درويش: "ودم البلبل مهدور على ذاك الحجر". ويقول مالك حداد: " كنت ملك أيار يوم كنت تحبينني/ إن عاشق النسمة الوادعة قد اختار العاصفة". ويقول محمود درويش: " آه.. كم كنت مصيباً حين كرّستُ فؤادي لنداء العاصفة". .. وهناك شواهد كثيرة أخرى على هذا التلاصق النصي، ويمكن لمن يهتم بالأمر مراجعة المجموعتين اللتين اشرنا إليهما. أما جانب التأثر الثاني، فيمتد إلى عدد من موضوعات القصائد وزاوية تناولها. مثال ذلك أن مذبحة في قرية جزائرية يكرر فيها الشاعرُ عدد الضحايا، تطبع بطوابعها مذبحة في قرية فلسطينية عند محمود درويش، وهناك قصيدة يحاور فيها طفل جزائري أباه ويسأله عن هويته واسمه، نجدها تتكرر عند درويش في حوار طفل فلسطيني مع أبيه. ونعتقد أن هذه المؤثرات كانت تقف وراء تلك "القفزة" التي لاحظها غسان كنفاني في شعر محمود درويش حين كتب: "في فترة قصيرة تقع على وجه التحديد بين عامي 1961 و1963.. حدث شيء هام وغريب في مستوى العمل الفني للشاعر، فقد انتقل دفعة واحدة نحو الأمام ونحو العمق شوطاً كبيراً لايصدق. كان قد أصدر قبل ذلك بعامين ديواناً ركيكاً اسمه "عصافير بلا أجنحة"، ولكن ماذا حدث في عام 1961 بالضبط، وهو الموعد الذي يكاد يكون حاسماً وواضحاً كنقطة قفز قلبت الشاعر جوهرياً إلى شاعر آخر؟" على هذا يجيب كنفاني بالقول: "إنها القصة الغريبة المدهشة لآمتزاج ذينك الشيئين المتعاكسين، الماركسية والصوفية" (الآداب، آذار/ مارس 1969). غافلا بالطبع عن حقيقتين، الأولى أن الماركسية والصوفية لا تصنعان وحدهما شاعراً، والثانية أن هذه القفزة التي يصفها تميزت باستعارة تقانات فنية لم تكن موجودة ولو بشكل جنيني في ديوانه السابق على ظهور"آخر الليل نهار" . v v v ليس لدينا معلومات كافية عن حياة مالك حداد في سنوات المقاومة، إلا أن الشخصية الرئيسية في رواياته، شخصية الراوي، متماسكة ومتماثلة، بحيث تدفع إلى الإعتقاد أنها تحمل من سماته الشخصية أشياء كثيرة. ومن هذه السمات يمكن استنتاج طرف من تكوين شاعر نشأ في اللغة الفرنسية، إلا أنه استطاع أن يكون خارجها كوعي وكأسلوب تفكير وحياة. وكثيراً ما يقال أن الناطقين بالفرنسية استطاعوا إدخال "لهجة" إليها غريبة عنها أغنتها بشكل عجيب. إلا أن لهذه الظاهرة مدلولا مهماً يتجاوز مجرد إضافة شيء إلى اللغة الفرنسية، ففي الجانب الآخر لابد أن يعترف المرءُ بأن الطاقة الشعرية لدى مالك حداد أو غيره من الكتاب باللغة الفرنسية تبلورت تبلوراً إبداعياً لايمكن مقارنته بما هو عليه الحال بالنسبة للكتابة بالعربية. وتنطبق هذه الملحوظة على عدد من كتاب المغرب العربي. من الجانب الآخر أيضاً، لابد من ملاحظة أن الناطق بلغة ثقافة ما هو كمن يستمد مساعدة أولية، ولكن مهمة لتكوين ذاته، من ممكنات عدد هائل من مفكري وكتاب وتراث هذه الثقافة. وهذا يعني أن الثقافات نوافذ على الوجود، وممكنات تستطيع أي ثقافة أن تنفذ من خلالها إلى وجود أرحب وأغنى، إلى وجود ينبذ التعصب الأعمى وضيق الأفق ووحدانية التفكير وضحالته، وكلها من سمات التخلف الثقافي. الدرس الذي تمثله تجربة مالك حداد بالفرنسية يمكن اختصارها بهذه العبارة: لقد عرف نفسه أكثر حين عرف الآخر. ورغم الظرف التاريخي الصراعي الذي جاءت هذه المعرفة في سياقه، وربما بسببه أيضاً، استطاع الشاعر دعوة شاعر الوطن المحتل بثقة وأمانة إلى الارتفاع نحو شخصيته الإنسانية، باعتبار أن هذا هو فعل المقاومة الحقيقي، أي مقاومة التشوه الذي يريده له الإحتلال: تشوه الأهداف والوسائل. لقد فهم مالك حداد عدوه بوصفه عدواً للإنسان والطبيعة والجمال والإخاء الإنساني، وعلى هذا الأساس قاوم الوحش الذي فشل في تحويل الشاعر إلى وحش آخر. محمد الأسعد