كنت في زيارة عائلية لمدينة سكيكدة أواخر النصف الأول من شهر رمضان، عندما اقترح عليّ أحد أقاربي فكرة تناول طعام الإفطار بإحدى الشواطئ الخلابة والساحرة لسكيكدة، حيث الهواء العليل والمنظر الجميل في بادئ الأمر اندهشت للفكرة وظننته يمازحني، ولكنني عندما لاحظت إصراره الكبير ورغبته الجامحة في تجسيد فكرته على أرض الواقع أومأت له بالموافقة بنوع من الاستغراب المغلف برغبة قوية كانت تحذوني للإقدام على القيام بهذه التجربة أو المغامرة الشيقة والشاقة. آذان المغرب يدنو شيئًا فشيئًا، وآخر ساعات النهار توشك على الرحيل، ومع ذلك درجة حرارة الطقس لا تزال مرتفعة في جو تغيب عنه نسمات تكييف باردة، حيث التيار الكهربائي انقطع منذ الساعات الأولى لصباح هذا اليوم الصيفي والرمضاني الساخن. اليوم الأول الذي قضيته بمدينة بني بشير، التي تبعد عن مدينة سكيكدة بحوالي 30 كيلومتر، أرغمت علي تناول الإفطار على ضوء الشموع وما كدت أن أفرغ من طعامي حتى أصبحت أسيل عرقًا وكل ملابسي على قلتها مبللة، مع العلم أننا أخّرنا موعد إفطارنا بحوالي 10 دقائق كاملة لعدم سماعنا آذان المغرب منبعثا من المساجد بسبب انقطاع التيار الكهربائي الذي أخاله هو الآخر صائمًا في هذا الشهر الفضيل...!. قريبي الغاضب قرر في ظل طقس حار لا يطاق، وإفطار على ضوء الشموع، الانطلاق صوب البحر والإفطار هناك في إحدى شواطئ سكيكدة، حيث قامت زوجته بمساعدة بناتها بالتحضير الباكر لطعام الإفطار قصد أخذه معنا وتناوله على رمال شاطئ البحر. ما فعله قريبي من اصطحابي وأسرته إلى البحر هربًا من حرارة المنزل وظلام غرفه، والذي عجبت له لاحظت أن مئات العائلات السكيكدية باتت تنفذه بشكل يومي بحثًا-في أغلب الظن - عن إفطار مريح وجو منعش بعد يوم طويل وحار من الصيام. اعتدنا خلال السنوات الماضية غياب المصطافين في شهر رمضان، لكن هذا العام حدث العكس تمامًا، فقد أدى تزامن حلول شهر رمضان المبارك مع ذروة حرارة شهر أوت الحارقة إلى الاستنجاد بنسيم البحر وهوائه العليل. ومع أزمة الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي والتي لا تزال تراوح مكانها أمام تنصّل المسؤولين بشأن استمرار المعضلة وتفاقمها - مع الإشارة إلى أن الانقطاع المتكرر للكهرباء مشكلة وطنية، حيث إن معظم ولايات الجزائر تعاني من مثل هذه الانقطاعات الكهربائية المؤرقة - وجد مواطنو ولاية سكيكدة في الفرار الجماعي نحو شواطئ البحر متنفسهم الوحيد وفرصة للترويح عن أنفسهم خاصة خلال شهر الصيام، لعلهم يتمكنون من نسيان همومهم المتراكمة عليهم حد الاختناق. تناول الإفطار بشواطئ روسيكادا يدخل طقوس العادة قامت ”الفجر” بجولة ميدانية سريعة على امتداد شواطئ سطورة بسكيكدة، حيث لاحظنا وجود عشرات بل مئات العائلات وهي تصطحب طعام الإفطار هربًا من ظلام المنازل وحرارة أجوائها، لتنعم بنسمات هواء عليل، وشمس دافئة خجولة سرعان ما تغرب وتنسحب باستحياء شديد. عاشور.ط، أستاذ جامعي من مدينة الحروش، قرر اصطحاب عائلته المتكونة من أربعة أفراد قصد الإفطار على شاطئ البحر طيلة أيام شهر رمضان، فهو في عطلته السنوية، وزوجته أستاذة في الطور المتوسط، وأبناؤه الثلاثة متمدرسون وموعد الدخول المدرسي لا زال بعيدًا، وذلك رغبة منه لتخفيف مشقة الصوم عنه وعن زوجته الحامل وأبنائه الصغار خلال هذه الأجواء الصيفية الحارة. يقول عاشور، الذي دعانا لتناول طعام الإفطار رفقة أسرته ”رمضان هذا العام شاق ومتعب، فاليوم طويل جدًا، والأجواء حارة، والظلام الدامس ميزة معظم بيوت السكيكديين هذه الأيام بسبب الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي. لقد عدنا بقرون إلى الوراء، بل قل عدنا إلى فترة ما قبل اختراع توماس أديسون لمصباحه الكهربائي، فالظلام يخيم على البيوت بمجرد غروب الشمس، وبسبب جميع هذه المعطيات أرغمنا على الفرار صوب البحر لالتقاط أنفاسنا والاستعداد لمباشرة صيام يوم جديد من رمضان”. سهر وسمر على شواطئ البحر إلى الفجر أما زوجته نوال.ط، فتقول ”عندما قررنا الهروب إلى شواطئ البحر، اعتقدنا في الوهلة الأولى أننا وحدنا من سيقضي رمضان على الشاطئ، لكننا وبمجرد وصولنا إلى الشاطئ فوجئنا بوجود عشرات العائلات والتي أصبحت أعدادها مئات هاربة من القيظ والديجور نحو البحر والانتعاش”. أما عبد الحميد.ح، موظف بإحدى البنوك، وجاء من مدينة صالح بوالشعور، فقد بادرنا بالقول: ”مجنون هو الذي يبقى في منزله في ظل هذه الأجواء الحارة والجهنمية وانقطاع التيار الكهربائي، لهذا قمت باصطحاب عائلتي إلى الشاطئ بحثًا عن الانتعاش والجو اللطيف وأيضًا لكسر الروتين والرتابة القاتلة وجعل الأجواء الرمضانية مختلفة عن الأعوام الماضية. نحن نأتي إلى الشاطئ قبل موعد الإفطار بحوالي ساعتين لنتمكّن من الاستعداد الجيد والمناسب، ونبقى هنا إلى غاية منتصف الليل، وقبل مغادرتنا نقوم بجولة حول الكورنيش الروسيكادي الرائع ونتناول المثلجات الباردة المنعشة”. وإذا كانت بعض العائلات تجد في البحر ملاذًا لها من حرارة الجو الخانقة وانقطاع التيار الكهربائي، فإن عائلة الحاج زكرياء.ق، المتكونة من 10 أفراد تجيء إلى شاطئ سطورة على متن سيارتين قادمتين من مدينة رمضان جمال المعروفة ب ”شنشار”، ”قررت قضاء إفطار رمضان على الشاطئ في أجواء هادئة ودافئة بعيدًا عن صخب المدينة وضوضائها”. يقول زكرياء، وهو شخص ملتحي، ويبدو عليه الالتزام الديني، حيث إن زوجته وبناته متحجبات وأبناؤه الكبار ملتحون: ”رمضان فرصة عظيمة للتقرب إلى الله بالصيام والقيام خوفًا من القادم من الأيام والأعوام، لهذا أنتهز فرصة حلول هذا الشهر الفضيل للابتعاد قدر المستطاع عن الملذات، وأفر هنا إلى البحر قصد التمعن في ملكوت الخالق العظيم وصيام رمضان في أجواء إيمانية وروحانية جليلة بعيدًا عن إغراءات القنوات الفضائية”. رمضان سيحل بالصيف حتى 2018 أما رشيد.ز، الذي وجدناه منشغلاً رفقة أبنائه بتثبيت عمود الخيمة الذي يهم بتنصيبها لتناول طعام الإفطار الذي اقترب، فقال:”رمضان هذه السنة سيكون مغايرًا تمامًا للسنوات الماضية، فبداية من العام الماضي وحتى سنة 2018 سيحل علينا شهر رمضان خلال فصل الصيف الممتد على ثلاثة أشهر أو أكثر، والوجهة ستكون شواطئ البحر دون منازع، وعلينا التكيف مع ذلك، لأنه ليست لدينا حلولا أخرى”. زوجة رشيد وجدناها بصدد تحضير الشاي بالنعناع، والذي بلغت رائحته اللذيذة أنوفنا وجعلتنا ننتظر بلهفة وشوق كبيرين ارتشاف كأس أو كأسين طردًا للتعب والإرهاق وطلبًا للفطنة واليقظة بعد تناولنا وجبة طعام الإفطار التي كانت ثقيلة ودسمة وجعلتنا نكادنصاب بالتخمة. كانت علامات الرضا مرتسمة على وجهها وفرحتها العارمة بادية للعيان، استفسرناها عن ذلك فقالت ضاحكة: ”إن البحر هو الحل الوحيد في ظل غياب الماء والكهرباء عن منزلنا، فالصحون نقوم بتنظيفها على الشاطئ بمياه البحر الكثيرة، كما أن الأعباء المنزلية المرهقة لا توجد هنا وإن وجدت فهي قليلة جدًا وبالتالي فأنا مسرورة بذلك كثيرًا”. عقارب الساعة كانت تشير إلى حدود الواحدة وربع ليلاً، عندما قرر قريبي المغادرة والعودة نحو ديارنا بعد أن نال التعب والإرهاق من أجساد أبنائه الطرية وغلبهم النعاس، لقد أحسست في قرارة نفسي بغيظ شديد فأنا ألفت هذا الشاطئ الخلاب والذي هو بمثابة قطعة مهربة من الفردوس واعتدت على بعض مرتاديه من المصطافين الصائمين، وكنت أتمنى من أعماق قلبي أن أبقى لبعض الوقت للاستمتاع بهذه الأجواء الرمضانية الصيفية غير المسبوقة والتي ستبقى ذكرى جميلة وخالدة وراسخة في ذهني ما حييت. امتطينا السيارة، ولحسن حظي وسوء حظ قريبي أن عطلا ما أصاب محركها، لكن أبناء الحلال في هذا الشهر الفضيل وفي هذه المدينة الوديعة والمضيافة كانوا كثر، فما هي إلا لحظات حتى عادت الروح إلى جسد قريبي، حيث استطاع بعض الخيّرين تصليحها، وكادت الروح أن تفر منه....أما أنا فقد ركبت السيارة وغادرت رفقتهم على مضض....ورمضان كريم لجميع السكيكديين وكان الله في عونهم.