الذروة.. عنوان إيروتيكي بامتياز، عنوان يحملك إلى أكثر من إيحاء.. تتذكر من خلاله رواية باولو كويلو "11 دقيقة"، لأن تفسير العدد لدى العاهرة ماريا هو الذروة الجنسية. وأنت تتأمل الغلاف، لصاحبته نجاح طاهر، تخال نفسك ستغطس في لوحة جنسية تكعيبية المرامي، قد تراهن على لغة السرير هذه المرة.. لاشك أنها ستقطر شِعرا أسود الجدائل على طلعة صاحبته ربيعة جلطي.. ربما تخاف موجة الرواية حين يكتبها الشعراء، فتسأل نفسك سؤالاً واحدا محددا.. أين تذهب نرجسية الشاعر حين يسكن الرواية؟؟ لا خوف على الشعراء من مساحات الرواية.. ولا خوف على نرجسية الشعراء أيضا لأن ربيعة جلطي تؤكد أنها هي الذروة، ولا شيء أخر غيرها هي الأوج المحتمل.. هي الذروة المستحيلة التي لن يبلغها الرجال حتى ولو كانوا زعماء وقادة بلدان. أبطال أم دمى صينية لوخز حسابات قديمة تجعلك ربيعة جلطي، على طول 216 صفحة من الحجم المتوسط، تقف عند كل وجه.. تحاول أن تتعرف عليه، أن تندس في ملامحه المعكوسة أحيانا كثيرا لكي تكشف عنه.. والحقيقة أنها تحرضك على ذلك تحريضاً ذلك أن توشيح الرواية جاء على النحو التالي: "لو أن شبها تراءى بين هؤلاء وآخرين، فذلك لأنه يخلق من الشبه أربعين". ما يعني أنها تقصد ذلك حتما، وهذا لعدد من الإحتمالات.. إذ كيف يمكن أن تتنازل عن التوشيح أو الإهداء بهذه البساطة - وهي الرائقة والحساسة - لعبارة مشفرة مثل هذه لو لم تكن تريد هذا الوخز فعلا في عين الياقوت، و"الياقوت" هذه حكاية أساس في الرواية طبعا بعد الشخصية المطلقة "أندلس". وعليه لو أسقطنا لعبة الشبه على الأبطال الذين يُخلق منهم أربعون، مع العلم أنه لا توجد لدينا في كامل المنطقة العربية أربعون "وزيرة ثقافة"، نبدأ في تحديد ملامح الياقوت الذي تتجلى بسهولة على الرغم من الملامح العكسية التمويهية ذلك أنها تقدم الكثير من الصفات التحريرية بالإضافة إلى الماضي السياسي المعروف لدى العام والخاص. أما شخصية "أندلس" فهي شخصية متقنة التنميق والتمثيل.. لا يوجد فيها شيء عكسي حتى الشعر الأسود الذي يصل الركبتين والصدر الأنثوي الناهد. "أندلس" هي تماما ربيعة جلطي.. أو طبعا كما يمليه عليها خيال شاعرة.. هي فرصة نرجسية أوسع كي ترسم ملامحها على الورق كما تشتهي.. كما تأمر شخصياتها بتنفيذ ذلك، ها هي "الياقوت" تقول لها:"أعرفك يا أندلس منذ كنا في المدرسة، كان يميزك شيء ما لا يوصف، شيء يقربك من الملائكة، وتعرفين أنني من فصيلة الشياطين". الفساد السياسي والأمة المغلوبة على أمرها ولكن لماذا نقرأ الرواية من هذه الزاوية السخيفة؟ لماذا نحن سيئين؟؟ هل لأن التوشيح أشعل حرائق فضولنا، لماذا لا ننتبه لهذا الإسم الاختزالي الجميل "أندلس" وذلك المدخل الجمالي الذي بدأت به أندلس حكاياتها: "أغلقت الباب دوني، هكذا... أنت أيضا يحدث لك أن تغلق الباب دونك.. أعرف.." ربما فعلا أغلقت ربيعة الباب دونها ولم تدخل لا ذاتية ولا نرجسية غير الحقيقة المتدلية وسط بؤسنا كدالية ثملنا منها حد العناق. لماذا لا نسقط عجز الزعيم جنسيا بالعجز القيادي، ونعترف أن الياقوت صورة مشوهة عن كل الفساد الذي يحدث حولنا.. صورة عن المتسلقين الذين ينهبون حقنا كل يوم. كل ما قالته ربيعة جلطي صحيح بشواهد الجرائد التي لا تكتب إلا عن العذابات التي يتكبدها شعب يزداد فقره كلما ازدادت أمواله، ربيعة محقة.. محقة في كل شيء.. لكننا لا نرضى بالمنطق الصوري.. لا نفهم التجريد الفلسفي الكبير عن عقولنا.. نحب الحكايات الفاضحة كما تقول الياقوت: "أنا امرأة فضائح، أنا الفضيحة، ولا شيء في وجودي أتسلى به غير لعبة السلطة". ملخص الرواية وخلاصة "خصك الميزان" أندلس فنانة تشكيلية سليلة الحسب والنسب، مظهرها الخارجي لتفادي الإطناب يجسد ربيعة جلطي بالتمام والكمال، تعيش حياة هادئة تذكر من الطفولة فصلين الأول والخاص بالعمة زهية المترجمة الشخصية للزعيم التي تعيش هستريا البلاط الفاسد رفقة شخصياته الڤراڤوزية، على غرار كرش الحرام، طوطو الكذاب، أبو حدبة المرتشي، الدلاقة الشياتة، الثعلب الأعور، شاشي المبيوع، وسعد الانبطاح، الذين تتخلص منهم ذات صيف بعد أن ترتبط ولد بآل كرز، الشخصية اليهودية المستغانمية العائدة إلى دفئ الوطن المولد بعدما غربتها القلوب السوداء.."استيقظت المدينة على حادثة غريبة وخطيرة: شبان مسلمون في الحمام الشعبي يباشرون يهوديا بكلام غريب: - لتذهب إلى بلدك أيها اليهودي. - بلدي؟؟ أي بلد؟ هذا هو بلدي، أنا في بلدي.. أجاب واثقا. - لا.. بل بلدك فلسطين.. إذهب إلى فلسطين بلد اليهود. غادرت زهية تاركة لأندلس قواميسها.. أما حكاية الطفولة الثانية فهي حكاية إخفائها لصدرها خوفا من تعليقات الذكور.. بعد ذلك تصير حمالة الصدر المائلة المنزلقة صورة متكررة لجيد وحبل من مسد. تكبر الطفلة ويكبر الصدر طبعا ليصير نشوة عارمة يهيم بها كل من يراه.. فيجلب لها الغيرة والضغينة من طرف زميلاتها سيما الياقوت وحليفتها سعدية، صديقاتها في المرحلة الثانوية.. تكمل كل منهن طريقها لتعود أندلس وتلتقي الياقوت في حفل تنصيبها، لقد أصدر الزعيم قراراً بتعين أندلس في منصب هام. لكن الزعيم لا يريد هذا فقط، إنه يريدها هي لذاتها.. لمكابرتها، هو يعلق عند سريره بالضبط عند أعلى مسند الرأس لوحة من توقيعها.. حكايات متواصلة عن الياقوت التي "إلي ما يبغيهاش يموت".. وعن سعدية "يا سعدية غير أنت وبزاف عليا".. حكايات مبتذلة جدا عن العذرية التي تُفقد في الأوتوستوب.. عن الزعيم العاجز جنسيا.. ومحاولات الياقوت المختلفة لإيقاظ ذلك الفأر المهروس على حد تعبيرها.. عن السحر وتفاصيل زيارة خداوج السحارة.. أمور لا تصدق.. عن الويسكي الذي خلط مع المشروبات في عرس أخت زوج سعدية من طرف الياقوت فكان سبب في طلاقها بعدما صارت النساء شبه هائجات يصرخن من النوافذ "فيف لاليبرتي".. وأكثر إشارة إلى شذوذ الياقوت جنسيا.. كل هذا والزعيم مصرّ على أندلس، لا يريد غيرها.. تصاب الياقوت بالهلع فتلجأ إلى صديقتها سعدية تصرف عليها أموالا ضخمة في عمليات تجميل كي تنسي الزعيم ولعه بأندلس.. لكن الزعيم لا يكترث.. هنا تتصاعد لهجة السخرية لتبلغ أوجها حين تقترح سعدية على الزعيم زرع عضو آخر. أما الجواب الجاد فهو: - لن أتزوج سوى امرأة تختصر النساء جميعا اسمها أندلس. وبالفعل يذهب بجلالة قدره إليها وهي تمانع كحال النجمات المستحيلات في بلاد المثل الطوباوية.. ربما كانت ستحدث أشياء لكن الزعيم طار وحل مكانه خليقة مشوهة على الغالب هو -بيدي - أو رجل مثلي ورغم ذلك.. لا تتوقف ربيعة جلطي في تضخيم رمزية الأنا/أندلس وتقول في الحاشية الختامية: "قالت الجرائد الزعيم الجديد إنّ غلالته، مدعما برأي الضباط، قد أمر بإخلاء القصر من سكانه جميعا.. ولم يعف سوى عن لوحة أندلس عند سريره، بالضبط عند أعلى مسند الرأس". بهذا تنتهي الرواية وتنتهي أحلام الأندلس عند مسند الرأس. قالت ربيعة جلطي الكثير.. حقائق مبيتة بالنسبة للذين سيكتشفون الشبه، لكن ماذا يعني كل هذا.. طبعا لم نتوقع رواية بهذه المعطيات لشاعرة.. من عادة الشعراء عندما يتحولون إلى الرواية أن يكتبوا الإيقونات.. ربيعة جلطي بدت وكأنها متمرسة في السرد.. سردها جيد جدا ولم يطفو الشعر مطلقا بين سطوره.. اللهم بعض الشذرات التي لن تأسرك.. كانت السخرية العنوان المطلق.. فهل كتبتها ربيعة جلطي لتصفي حساب ما على الورق؟؟ غير مبالية لمعنى الجمالي مع الورق.؟؟ للإشارة أكدت جلطي في ذيل الرواية أنها كتبتها بين الجزائر- شنغهاي، بيجين كعادتها من الضروري تثبيت السفريات وربما أكثر من ضرورة تثبيت حمالة الصدر المائلة المنزلقة. هاجر قويدري ربيعة جلطي: من حسن حظي أن الزمن ليس زمن الشعر وإلا لدخلت السجن اعتدنا أن نقرأك في نصوص محفوفة بلوعة الأشواق ولهفة الحنين وحيرة العشاق.. واليوم؛ نقرأك في نص يحكي عن الفساد السياسي والجنس.. ترى ما الذي تغير في ربيعة جلطي منذ "حجر حائر"، لتكتبي بكل هذه الرغبة في تعرية السلطة التي كنت جزءا منها بشكل أو بآخر؟ بالنسبة لرؤيتي فأنا في النظرية، كما في ممارسة الكتابة والحياة، لم أضع حدودا حديدية وأسلاكا شائكة بين الحب وشؤون القلب من جهة وبين السياسة وما تبقى من العناصر التي تتحكم في سعادة الإنسان أو تعاسته من جهة ثانية.. نحن نحب على الأرض وتحيط بنا عناصرها الأخرى ولا نعشق فوق سماء معلقة، لذلك منذ البدء منذ كتاباتي الأولى ولنقل منذ قصائد "تضاريس لوجه غير باريسي" مرورا ب"التهمة" و"شجر الكلام" و"..وحديث في السر" و "كيف الحال؟" و"من التي في المرآة" وحتى "حجر حائر" و"بحار ليست تنام"، لم أفصل فصلا جدانوفيا بين هذا وذاك بل كان الحديث عن الحب والجمال وقيم النبل والسمو وأفراح وأوجاع الناس البسطاء وفلسفة الوجود والموت، مرتبط أو في صراع مع القبح والاستبداد والظلم والإستعمال اللامشروع للسلطة،وعن دكاكين السياسة نصف المغلقة، وعن التصريحات ربع الواضحة، وعن المشاريع المجهضة، وعن الوعود السياسية المتوالدة والتي تعوم في الهواء، وعن أشياء الحياة اليومية التي تدوخ نهاراتنا. أرى أن القصائد التي لا تقرأ العام كما تقرأ الخاص تنظر إلى الدنيا بعين واحدة. من حسن حظي أن الزمن ليس زمن الشعر وإلا لأدخلت السجن منذ قصيدة "سيد المقام" التي نشرت سنة 1983 بجريدة السفير اللبنانية والمنشورة في كتاب" شجر الكلام"، والتي تركت خلفها عجاجا كثيفا في الدوائر الثقافية آنذاك من دمشق وبيروت حتى البحرين. أذكر جيدا تخوف وزير الثقافة البحريني بعد أن قرأتها وقد حضر أمسيتي سنة 1987. وأذكر خوف وعتاب الأستاذ علي عقلة عرسان؛ حين قرأت قصيدة من كتابي الأول "تضاريس لوجه غير باريسي" في المهرجان الشعري على هامش مؤتمر اتحاد الكتاب واستقبالها استقبالا رائعا من طرف الجمهور والحضور. وحين نقرأ كتابي الشعري الصادر منذ سنتين "حجر حائر" تواجهنا مجموعة من القصائد تتحدث عن الأشياء الموجعة للإنسان المعاصر. تعددت القراءات لهذا الديوان ووصفته بالثورة الذكية مثل قصيدة نشيج الغرانيق وٌصفت بالملحمة المعاصرة وهي تتحدث عن ظاهرة الحراڤة. إن أشعاري جميعها - كما استنتج أغلب النقاد القارئون والمتتبعون لها- منذ البدء تحمل النقد والرفض لكل ما هو سبب في تعاسة الإنسان وظلمه وتخلفه، وتحويل أعراس الناس إلى كمد: (يا بلدي، يابلد الرّمان والنوارس.. أَتْفو على كراسيك .. صيّرت الحنةَ شوكاً .. في كفوف العرايس..) هو مقطع من قصيدة "أريكة للوقت الحامض" من كتابي (كيف الحال) يردده الكثيرون والكثيرات من قرائي، الذين يتتبعون منذ سنوات مساري الشعري . على الرغم من أن قراءة الشعر الحديث قراءة حقيقية وتفكيكية لما يحمله من رموز ما زالت بعيدة والنقاد إلى حد الساعة لم يصلوا بعد إلى نسغ القصيدة، إلا أن مقاربات نقدية لبعض النقاد من خلال مقالاتهم عبر السنوات العديدة تفطنوا إلى تضافر هم الفرد وحلمه مع هموم الجماعة وأحلامهم، في أشعاري. أنا لا أستسهل تناول المواضيع السياسية والتاريخية ولا أعتمد على قوتها الشعاراتية، بل أعتمد كلية على قوة الصورة وأدواتي الشعرية والفنية واللغوية التي تخرجها من عاديتها إلى عالم الجمال. وربما هذا ما جعل قراءة أشعاري تتطلب حسا وثقافة جماليين. وإن اختيار الفنان الكبير الملتزم سميح شقير غناء قصائد لي دلالة على أن الإلتزام في الشعر هو التزام جمالي أيضا تقتضي شروطه التحكم في الأدوات الفنية التي لا تعتمد على الصراخ السياسي والأيديولوجي، بل تنسج الموضوع من جانبه الأساسي وهو الجمال. روايتي "الذروة" استمرارية البوح بوسائل وأدوات جمالية مختلفة هي الأدوات السردية الروائية واستمرارية الرفض واستمرارية الحلم بإنسان يستطيع أن يحلم خارج أسوار الألم والظلم، "الذروة" كتابة سردية تعتمد على جماليات "السخرية" لمحاربة السوداوية والاستقالة من الحياة التي باتت تلف كل شيء من حولنا . روايتي "الذروة" جاءت من يقين إنني أؤمن أن المبدع والمثقف عموما عليه أن يتحمل عناء التجربة وتعب المواجهة وهو إن لم يعرف ويدرك عميق الإدراك ما يجري في مجتمعه وناسه البسطاء، ومايجري في دواليب السلطة وسراديبها سيظل ساذجا، وسيظل عدوا لنفسه ولوطنه و لبني جلدته، ثم إن المثقف الذي يتبوأ مناصب سامية في الدولة بسلطة غير ديمقراطية ثم لا يستقيل بعد فترة مواجهة أولا يطرد، فإنني أشك في بقاء سريرته نقية أو دون تلوث.. والأمثلة على ذلك كثيرة. إذن هي التجربة مثل مغامرة تجريب الكتابة تماما؟ بدأت حياتي الشعرية في المدرسة أقرأ من منصة القسم قصيدة عن عصافير فلسطين الحزينة لرحيل ناسها الذين تعودوا على غنائهم وينتظرون عودتهم، وأشبّهها بانتظاري عودة جدي العزيز. وفي مجموعاتي الشعرية المتتالية بقيت وفية بالإحساس بنبض الآخرين الذين أعرفهم جيدا ويمر الإحساس بهم عبر ذاتي. وتأتي "الذروة" وما سيليها من مشروعي الروائي الذي أشتغل عليه الآن ليعمق هذا الخيار الجمالي والفلسفي كمسار إبداعي يزاوج ما بين السلوك اليومي وأسطورة اللغة.