الدعوة العنصرية التي أطلقها الأيام الماضية القس الأميركي المنحول، تيري جونز، الداعية إلى إحراق بعض النسخ من القرآن الكريم فرضت نفسها على ساحة الأحداث الفكرية، وذكرت من جديد بأن هناك فجوة تتسع للأسف يوما تلو الآخر في الغرب لجهة فهم الإسلام والمسلمين. وعليه فإنه يتحتم علينا، عربا ومسلمين، أن ننظر بعين فاحصة محققة مدققة إلى أولئك الذين أنصفوا الإسلام والمسلمين وأن نعيد قراءة أوراقهم، على الغرب لا على أنفسنا، انطلاقا من أنهم خير "شاهد من أهلها" على نداءات مليئة بالكراهية، لا تدعو لحرق القرآن، بل حرق العالم برمته بنيران الفتنة الدينية. في زمن تيري جونز البغيض، يستحضر المرء أوراق كارين آرمسترونغ، التي نشأت كراهبة كاثوليكية إنجليزية، ثم تعمقت في الشرق الأوسط وأديانه وثقافاته وتاريخه، ومنذ بضع سنوات هالتها الصورة النمطية المشوهة لنبي الإسلام التي تربى عليها الغرب منذ الحروب الصليبية، فوضعت كتاب "حياة محمد"، ثم بعد أحداث 11/9 وضعت كتابها الأخير "محمد نبي لزماننا". والثابت أنه ربما لا تكون هناك شخصية تعرضت للهجوم المنهجي المستمر في العالم الغربي مثل شخصية النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد تنبهت آرمسترونغ في أوائل التسعينيات لخطورة ما يروجه الإعلام الغربي عن نبي الإسلام، وعن القرآن الكريم، ومن ثم عن المسلمين، ويبدو أنها خشيت أن يكون ذلك تمهيدا لمغامرة عسكرية جديدة.. ترى آرمسترونغ أن في شخصية النبي محمد دروسا مهمة، ليس فقط للمسلمين وإنما أيضا للغربيين، حيث كانت حياته كلها جهادا، وهذه الكلمة لا تعني الحرب المقدسة ولكنها تعني كفاحا إيجابيا. فقد كدح محمد بكل معاني الكلمة ليجلب السلام على العرب الذين مزقتهم الحروب. وتضيف: كانت حياته جملة لا تكل ضد الطمع والظلم والتكبر، لقد أدرك أن العرب في مفترق طرق، وأن طريقة التفكير السابقة لم تعد تنفع، لذلك قدم نفسه في جهاد مبتكر لينشئ حلا جديدا تماما، لم يحاول محمد أن يفرض معتقدا دينيا تقليديا، إنه لم يكن مسرفا في الاهتمام بما وراء الطبيعة "الميتافيزيقيا"، ولكن اهتمامه الأكبر كان تغيير قلوب وعقول الناس. والمقطوع به أننا لسنا في حاجة للتذكير بأنه منذ تم تدمير مبنى مركز التجارة العالمي في 11/9، استمر أعضاء من اليمين المسيحي الأصولي في الولاياتالمتحدة وبعض قطاعات وسائل الإعلام الغربية في هذا العداء التقليدي للإسلام وكتابه المقدس، مدعين أنه دعوة للإدمان على الحرب. غير أن كارين آرمسترونغ تدفع بعيدا تلك الاتهامات بقولها: "لا يمكننا أن نتحمل إطلاق العنان لهذا النوع من التعصب الأعمى، لأننا بذلك نقدم هدية للمتعصبين الذين يستخدمون هذه الأقاويل لإثبات أن الغرب وفر حربا صليبية جديدة ضد العالم الإسلامي". يمكننا أن نحاجج تيري جونز وأمثاله، بأن آرمسترونغ تؤكد أنه "لم يكن محمد قط رجل عنف"، وأننا "لابد أن نقترب من حياته بطريقة متوازنة، حتى نستطيع تقدير إنجازاته المعتبرة"، كما أن تكريس هذا الإجحاف غير الدقيق يدمر التسامح والتحرر والعاطفة التي يفترض أنها تشخص الحضارة الغربية. لكن، كيف يمكن تقديم رؤية إيجابية عن الإسلام، في زمن تحول فيه إلى حجر رحى في الهجومات من كل صوب وحدب؟ ثم ما الذي يحتاجه زماننا لفهم الإسلام ونبيه وكتابه، فهما صحيحا مريحا لا لبس ولا غش فيه ولا التواء على دروب اللقاء؟ تجيب كارين آرمسترونغ: إن زماننا يحتاج إلى روح نقدية، سيما وأن بعض المفكرين المسلمين يعتبرون أن ذروة مهمة محمد هي جهاده ضد كفار مكة، ويقصرون عن رؤية شجبه لأعمال الحرب وتبنيه لسياسة اللاعنف. كذلك يصر النقاد الغربيون على رؤية محمد كرجل حرب، ويقصرون عن رؤية معارضته منذ البداية لروح التكبر والأنانية الجاهليين، التي أسفرت عن العدوان على الآخرين، ليس فقط في عصره ولكنها مازالت الآن متقمصة بعض قادة الغرب وقادة المسلمين على حد سواء. يتحول النبي الذي كان هدفه السلام والتراحم، في عيون غير المنصفين إلى رمز للفرقة والنزاع، في تطور ليس فقط مأساويا، ولكنه أيضا خطير على الاستقرار الذي يعتمد عليه مستقبل البشر. أصل النظرة المضطربة للإسلام، ربما تعود في القرون الأخيرة إلى الدور الذي لعبه مارتن لوثر في إذكاء نيران الخلافات ضد كل ما هو مسلم وإسلامي، سيما بعد وقوع كتاب ريكولدو دامونيكروتشي المعادي للإسلام والمسمى "الرد على القرآن" من أعمال القرن الثالث عشر، في يده فنقله إلى اللغة الألمانية، وأراد أن يطوره حتى يصبح أكثر عصرانية إن جاز التعبير، فقدم له بمقدمة طويلة وذيله بخاتمة، وغلبت على المقدمة والخاتمة مسحة كئيبة سوداوية لصورة الإسلام في أوربا، والتي تبلورت عقب الحروب التي وصفت بالصليبية بما حملته من إرث بغيض. هذه الأصول قادتنا في السنوات القليلة الماضية لمرحلة أليمة من الصراعات المذهبية، بانت معالمها التصادمية في عدة تصريحات، فقبل عدة سنوات وصف القس الأميركي، جيري فالويل والمتوفى حديثا (2007)، نبي الإسلام بأنه رجل عنف وحرب، وأضاف بما يفيد أنه الإرهابي الأول في الإسلام والمسلمين. الاسلاموفوبيا المنحولة، باتت اليوم أكثر خطرا على العرب والمسلمين من أشد الأسلحة فتكا، ذلك أن خيوطها وخطوطها تتداخل مع قضية مطلقة، هي قضية الدين وجوهره، وليس مع أزمات نسبية قابلة لفلسفة التفاوض، وهذا يستدعي تساؤلا جوهريا: ما العمل في مواجهة هذا الطوفان المكذوب؟