بقاء السودان موحدا يبدو معجزة، في السياسة لا مجال للمعجزات. السياسة في أبسط تعريفاتها هي فن الممكن مع الولوج تحت سقف المئة يوم لاستفتاء الجنوب، تطغى حتمية الانفصال على المشهد السوداني. ربما يبدو هكذا الاحتفاظ بالوحدة مطلبا عسيرا عصيا، هو كذلك في ضوء المعطيات الحالية، غير أنه ليس مستحيلاً. بقاء السودان موحدا ليس معجزة. العملية السياسية الناجحة ليست سوى موازنة منطقية بين ثقلي الربح والخسارة. بعيدا عن الميكافيلية عين السياسي الحصيف تركز دوما على المصالح الوطنية العليا. عند المنعرج السوداني الحاد تنصب أكثر من طاولة للتفاوض المعلن والمستور. كل الوسطاء والمعنيين بالأزمة يلحون على الشريكين اللدودين تقديم تنازلات بغية بلوغ السلام في حال الانفصال. الإلحاح نفسه قابل للممارسة من أجل البقاء تحت مظلة السودان الواحد. تقديم التنازلات ليس غير الموازنة المنطقية بين ثقلي الربح والخسارة على المدى البعيد. أحد منزلقات السودانيين إلى الانفصال يتجسد في القراءات الخاطئة. ثمة قراءة عرجاء لدى قطاع شمالي عريض ظلت تستبعد خيار الانفصال عن الجنوبيين. هذه الخلاصة غير الناضجة استندت إلى حيثيات مبتسرة، منها الفسيفساء القبلية المطعمة بالتناحر والانغلاق الإقليمي. تلك الرؤيا تسقط منطلقات وطموحات الجنوبيين. عدد من الساسة الشماليين رؤوا في قادة الحركة المنادين بالانفصال تلاميذ نجباء لهنري كيسنجر. هذه الرؤية لا تخرج عن مسار القراءة العرجاء. فالجنوبيون في نظر هؤلاء يدفعون بالأمور إلى حافة الهاوية بغية انتزاع أكبر قدر من المكاسب. مثل هذه القراءات المبتسرة أفضت إلى اختزال قضية الوطن العريض والشعب العريق في حقول نفط أبيي. لماذا التنازلات ممكنة تجاه هذه المنطقة ومستحيلة في حق الوطن؟ جانب آخر من الرؤى المغلوطة يتشكل في رفض الاعتراف بالحركة الشعبية تنظيما سياسيا، بينما تبلور الرؤى نفسها تيارين داخل الحركة انفصاليا ووحدويا. الواقع كما أن هناك قلة محدودة تدير أمر الشمال تحت مظلة المؤتمر، توجد مجموعة تعالج شأن الجنوب باسم الحركة. ربما أفلحت هذه المجموعة في ترويج الحركة تنظيما سياسيا قادرا على استيعاب الدروس بعقد مؤتمر الحوار الجنوبي الجنوبي. هاتان المجموعتان الشمالية والجنوبية تتحملان مسؤولية وصول الأمر السوداني إلى حافة الانفصال. ربما يكون تفادي السقوط في الهاوية مهمة شاقة، غير أنها ليست مستحيلة. ما هي التنازلات الشمالية الممكنة من أجل إغراء الجنوب بالتراجع عن الهاوية؟ قيادة الحركة المستعصمة بالانفصال تطالب ببندين أساسيين ليس أكثر. دولة المواطنة و70 ٪ من نفط الجنوب. ربما يكون المطلب الأول بندا عسير الهضم على مجموعة المؤتمر القابضة، لكنه ليس مستحيلاً بموازنات المصالح الوطنية العليا. التنازل عن نصيب النفط لا يشكل عقبة أمام مجموعة المؤتمر القابضة. الأزمة تكمن في بند المواطنة. هذا مطلب الاستجابة له من قبل المجموعة نفسها عصية. هذا موقف أبعد ما يكون عن الحصافة السياسية. صحيح أن المواطنة بند فضفاض يخترق في جوانبه "تابوهات"». لكن الصحيح كذلك أن تلك "التابوهات" ليست واقعا يمشي على الأرض كله. الخرطوم ليست المدينة الفاضلة. الإدارة لا تتصف بالطهارة. أحكام الدين لا تقتصر على مطاردة مقاسات أزياء الصبايا وجلدهن. القضاة الثقاة العدول يذكرون جيدا أن الاستقامة قبل قوانين سبتمبر كانت أكثر صرامة وأوسع اندياحا. ربما يجدر تذكير هؤلاء وأولئك بحكاية هارون الذي غلّب عدم التفريط في الوحدة على تابو العقيدة في غياب موسى. "قال يا يبنؤم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي".سورة "طه الآية 94 ". بقلم : عمر العمر