كان شيخ المؤرخين الجزائريين الدكتور أبو القاسم سعد الله "ضيف الثالثة" في البرنامج الذي يعدّه ويقدمه الإعلامي محمد بغداد. وتعتبر هذه هي المرة التي أشاهد فيها سعد الله في حصة تلفزيونية، وهو من هو، متحدثا بلغة العارف الذي أفنى عمره باحثا ومنقّبا في قضايا التاريخ وإشكالاته حيث أثرى المكتبة الوطنية بالعديد من كتبه النفيسة على غرار "تاريخ الجزائر الثقافي" وكتابه "تاريخ الحركة الوطنية" وسواهما .. بدا لي سعد الله بطريقة جلوسه الرصينة، وسمته الصارم وأناقته الأنيقة غير متعود على أضواء الكاميرات والأحاديث التلفزيونية، وقد تساءلت بيني وبين نفسي لماذا تأخر ظهوره كل هذا الوقت عن التلفزيون الجزائري؟ وما الذي كان يمنع من أن يفسح له المجال للحديث في قضايا التاريخ التي لا يحسنها غيره.. لقد رأينا كيف احتفى الصالون الدولي الأخير للكتاب بمؤرخي المدرسة الفرنسية من أمثال بينجامن ستورا وغيره، دون أن يلتفت القائمون إلى هذا العلَم الذي يعد حُجّة في مجال تخصصه. أخيرا التفت التلفزيون الجزائري إلى سعد الله، وقد تمنيت أن يكون ذلك قد حدث قبل هذا بوقت طويل، ولا أستطيع أن أجد العذر لمن يعتّمون على هذا المؤرخ، لأن النقاشات التاريخية كانت على أشدّها في الآونة الأخيرة، وتكاد تحتل المساحات الأوسع من مشهدنا الثقافي والفكري، وقد كنا أحوج ما نكون لأن نستأنس بآراء سعد الله واجتهاداته باعتباره مؤرخا متجرّدا لا يمكنه أن ينتصر إلا للحقيقة التاريخية، التي شوّهها الدخلاء على التاريخ، ومن يحاولون تحميله ما لا يحتمل وكتابته بما يتماشى مع أهوائهم.. أسئلة محاوره محمد بغداد التي كانت في غاية الدقة والذكاء بعيدا عن الحشو وملء الفراغ، ودون أن يخرج عن الموضوع قليلا أو كثيرا، أجاب عنها سعد الله بتواضع العالم الحقيقي وبدقة متناهية، حيث أكد مؤسس المدرسة الجزائرية في كتابة التاريخ بأننا لا نملك بعد مدرسة جزائرية، وكل ما كتب من تاريخ لا يرقى إلى أن يسمى مدرسة، ولذلك فإن تاريخنا سيظل يكتب بأقلام غيرنا من أقلام المدرسة الكولونيالية.. سعد الله شيخ المؤرخين الجزائريين، لا يجب أن يفتى في التاريخ وهو موجود، فهو أحد العقول الجزائرية التي لا يمكن مقارنتها إلا بجيل العمالقة من أمثال أركون ووطار، ولا يمكن ألاّ نستفيد من معرفته التي تشكّل رصيد عمر كامل أمضاه باحثا ومنقبا في تاريخ الجزائر. أحمد عبدالكريم