من المتعارف عليه أن تعريف الصحفي في نظام تونس زين العابدين وسائر الأنظمة الدكتاتورية بأنه جاسوس وخطر على الأمن، هذا في الحالات العادية، فما بالك بصحفي دخل تونس عبر بوابتها الرسمية 52 ساعة قبل فرار زين العابدين ليغطي ثورة الياسمين الشعبية ومخاضها وإن كانت تونس قد تخلصت من دكتاتورية الزين والطرابلسية فإن كابوس تقاليد الحزب الواحد ومظاهرها مازالت بادية للعيان. كانت رحلة “الفجر” إلى تونس لتغطية الثورة الشعبية المنددة بنظام زين العابدين وفساد عائلة الطرابلسي، أشقاء حرم الرئيس الفار، ليلى زين العابدين، غير مدروسة مسبقا، كان من المفروض أن تتم إجراءات السفر يوم الأربعاء ولتضارب أنباء حول لجوء نظام العابدين إلى غلق الحدود مع الجزائر تريثت السفرية إلى يوم الخميس، وبعد إتمام إجراءات السفر بصورة استعجالية، توجهنا إلى مطار هواري بومدين، حيث كانت أول الصورة الدالة على قساوة ما يحدث في تونس في مكتب تسجيلات المسافرين لرحلة تونس، تراجع كبير في عدد الجزائريين القاصدين تونس رغم إجراءات التخفيض الخاص بثمن التذكرة التي طبقتها الجوية الجزائرية، حيث لم يكن في الرحلة التي انطلقت في حدود الرابعة مساءً سوى 45 مسافرا أغلبهم من الجزائريين القاصدين تونس لأغراض تنحصر بين الدراسة والاستشفاء وهو حال كثيرين، منهم عبد الله التيارتي، زهرة، فوزية وعماد وآخرون. كابوس بدأ من السماء وكانت الرحلة حسب ما رصدته “الفجر” محفوفة بأحاسيس الرعب والخوف، نظرا لتلك الصور الإعلامية متعددة الوسائط التي كانت تنشرها وسائل الإعلام حول الأوضاع في تونس، حيث لم تخل الرحلة طيلة ساعة و10 دقائق من أسئلة المسافرين فيما بينهم عن أسباب التوجه نحو تونس واستفسارات حول تطورات الأوضاع. ومازاد الوضع رعبا وإحباطا في نفسية المسافرين الصور التي كانت تتناقل هنا وهناك من نوافذ الطائرة وهي تقترب تدريجيا في الهبوط نحو مطار قرطاج الدولي، ومن الصور المرعبة “دبابات الجيش التونسي، لهيب النيران ومظاهرات” وهي صور كانت كافية للتعبير عن وضعية بلد يعيش ظروفا غير عادية. مضايقات النظام ل “الفجر” 52 ساعة قبل انهياره حطت الطائرة التي كانت تقل “الفجر” أرضية قرطاج في حدود الساعة الخامسة و10 دقائق، ومازاد من رعب المسافرين هو الأجواء غير العادية لمطار قرطاج، خاصة لأولئك الذين اعتادوا زيارة تونس لسبب أو لآخر، فقد كان بهو المطار خال من حركة السياح من الوفود الأجنبية المتعددة، ضف إلى ذلك غلق شبه كلي للمتاجر ومكاتب البنوك وباقي الخدمات. ولم يكن لهذه المظاهر أي أثر على المسافرين الذين ختم البوليس على جوازاتهم وغادروا نقطة المرور باستثنائي، حيث سحب جواز سفري وطلب مني الانتظار وبقيت في البهو لمدة تفوق الساعة وأعين البوليس تراقبني باستمرار، شعرت بخوف وانتابني إحساس غريب، قبل أن اقتاد الى مكتب خاص ويواجهني البوليس بوابل من الأسئلة، أولها ماهو سبب حضورك إلى تونس في هذا الظرف ؟ وماهي الجهات التي أوفدتك ؟ ومن الأسئلة الأكثر غرابة: ماهي قراءتكم لما يحدث بتونس ؟ إلى جانب أسئلة أخرى خاصة بتوجهات الجريدة ومن يقف وراءها، وكان في حديث الضابط الذي كان يسألني وسط اثنان من أفراد الشرطة شبه إلمام بجريدة “الفجر”. فاقت مدة الحجز عند هذه المصالح ساعتين من الزمن قبل أن يخلي سبيلي بعد تهديد بعدم نشر ونقل أخبار مسيئة إلى دولة تونس، وسط ظلام دامس ودقائق قبل بداية حظر التجوال الذي كان مقررا يوم الخميس ابتداء من الثامنة مساء، خرجت المطار ولم يكن به وسائل النقل وسط تواجد أمني مكثف. كان وصول “الفجر” إلى فندق “خير الدين باشا” في حدود الساعة الثامنة والنصف ليلا وسط صمت رهيب بالشوارع على مسافة 5 كيلومترات، تزامن والخطاب الأخير للرئيس زين العابدين بن علي ، وهو الخطاب الذي اعترف فيه بأخطائه على مدار 23 سنة من قبضته الحديدية ، وما أن أنهى الرئيس خطابه حتى امتلأ الشارع المحاذي للفندق عن آخره بالجموع التي قيل إنها من تنظيم مناضلين من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي أرادوا كسر غضب ثائري الياسمين. جمعة سوداء كانت الساعات الأولى لنهار الجمعة هادئة وسط غياب كلي لمظاهر الحياة، حتى في بهو الفندق، فلا مقاه ولا جرائد ولا محلات ولا وسائل نقل واتصال. وفي حدود الساعة العاشرة بدأت وفود كبيرة من الشباب والنساء والمحامين تتوجه إلى شارع لحبيب بورقيبة أمام مبنى وزارة الداخلية وهي الوزارة التي يتنفس بها نظام بن علي سابقا، حيث حولت هذه الجمعة اللون الأخضر لتونس الى سواد، زادته عتمة نيران الغازات المسيلة للدموع والطلقات النارية التي لم تثن من عزيمة الثائرين في وجه نظام بن علي، وتحولت موسيقى الشوارع الى دوي الرصاص، ولم تتوقف مضايقات الأمن التونسي ل”الفجر”، بل طالتها الى محل الاتصالات التي أرسلت منه أوراق الفاكس، وهو المحل الذي قالت لي صاحبته “أنت ترسل تقريرا وهذا ممنوع”، ماجعلها تنادي عناصر الشرطة الذين اقتادوني إلى مقر مخفي تبيّن لي لاحقا أنه مقر أمن. وبعد تفتيشي وإعادة طرح وابل من الأسئلة تصب في نفس سياق الأسئلة الأولى أطلقا سبيلي وسط تهديدات بعقوبات أندم عليها، حسب تعبير أحد عناصر الأمن، إن أرسلت أي موضوع يسيء الى تونس. طوارئ ورصاص بعد انتشار خبر فرار زين العابدين كان انتشار خبر فرار الرئيس زين العابدين إلى خارج البلاد الأثر البالغ في نفسية الشعب التونسي الذي خرج إلى الشوارع باتجاه طريق مطار قرطاج رغم حالة الطوارئ القصوى التي قلصت حظر التجول الى حدود الخامسة والنصف، ومازاد الطين بلة هو تلك الطلقات النارية التي كانت تطال المدنيين من جهات لم يتم التعرف عليها، وكذا حالات الاعتداءات على المواطنين قبل أن يتضح أن هؤلاء هم من عصابات وميليشيات الرئيس الفار من الحزب الحاكم ومن أفراد الأمن الرئاسي.. وباقتراب الساعات فقدت تونس ثقة شعبها، حيث كانت طلقات الرصاص تتواصل من سيارات الإسعاف وسيارة التأجير ...الخ، وهي الاعمال التي قابلها الشعب بتخريب ممتلكات الحزب الحاكم وزوجة الرئيس وأشقائها. صورة للتضامن الجزائري في عز محنتهم وكانت لصور تضامن الجزائريين سواء في الشوارع والطرقات، لاسيما طريق شارع عنابة وسط العاصمة، الذي كان يضم عشرات من العائلات جاءت لذويها في السجون أو بالفنادق ومقر القنصلية العامة وسط شارع النيجر، استثناء، من خلال صور تقاسم الطعام والشراب حتى وان كان نادرا في تونس بالإضافة الى صور وفود الجزائريين الذين كانوا يحجون الى بيت الشهيد المرغيني لأداء واجب التعزية بحي الكرم الغربي على بعد 9 كيلومترات من العاصمة تونس وهو البيت الذي صنع جوا جزائريا خالصا، هذه الصور جعلت من الجزائريين يلقنون التونسين قاموس الجود والكرم وهو ماجعل الحاجة مريم تستدعي عشرات الجزائريين الى بيتها وتجمعهم على طاولة “البركوكس” و”اللبلابي” الأكلة التونسية الشعبية الشهيرة. ترسبّات نظام وحتى وإن كانت تونس وشعبها تخلص من عقدة اسمها القبضة الحديدة لزين العابدين، إلا أن بعض فعاليات الشعب التونسي لاتزال لم تتخلص بعد من عقدة الدكتاتورية، وهو ما توقفت عنده “الفجر” طيلة 4 أيام من احتكاكها بمختلف فعاليات الشعب التونسي الذين لايزال البعض منهم يرفض الإجابة عن الأسئلة التي تدور حول أسرار الرئيس بن علي وزوجته ليلى بالإضافة الى حاشيته وباقي أفراد أسرته.