يقولون إذا أردت أن تَحْجر على حقيقة ما وفّر لها ظروف ''الوضوح'' التام الذي يلغي أي شك حول جذورها. والطريقة ''السينمائية'' التي سقط بها الرئيس التونسي من الحكم بعيدا عن معطيات تعليبها وتأطيرها الإعلامي الذي قدمها كانتفاضة شعبية أطاحت بدكتاتور فاسد، تبعث على الريبة أكثر مما تبعث على الاطمئنان الأعمى على أن ما حدث كان هو ''الحقيقة'' المطلقة. فسيناريو السقوط المدوي لحاكم من أعتى وأقوى وأحصن الحكام العرب، بتلك الطريقة ''الكاريكاتورية'' المروجة لمخدر بأن شعبا مرصودا بالحديد والنار امتلك القدرة بين ''قهر'' وضحاه على إسقاط الرئيس، هو نفخ في جثة عنتر ''شبع موتا''.. فماذا حدث بالضبط في تونس..؟ وهل حقا أن ثلاثمائة ألف مواطن، وهو أقصى حد لعدد المحتجين الذين احتلوا شوارع تونس، قد تمكن عبر ''صراخ'' شهر من تغيير نظام عمره خمسون سنة من القهر والاستبداد؟ في المشهد المسوق محليا وعربيا ودوليا حلقة مفقودة، فالحدث التونسي بما عليه من وضوح وجروح يبعث على الشك بأن هناك ''يقينا'' متخفيا وراء الأحداث، فحتى ''فاتورة'' الخمسين أو المائة قتيل، على أقصى تقدير، التي قدمت كقرابين للانتفاضة وكمبرر لتنحي زين العابدين عن الحكم، فاتورة بسيطة جدا مقارنة بالمحصول المتمثل في رأس رئيس عربي كان دكتاتورا قولا وفعلا، لتضيق به الأرض بما رحبت فجأة ويعجز عن إيجاد مطار يستقبله.. فأين الحقيقة في هذا ''الوضوح'' الواضح والراسخ جدا ومن أزاح زين العابدين من السلطة هل هو الشعب أم أنه بعض من نظام خادع الجميع بعدما قرر وخطط فنفذ انقلابه الصامت تحت تغطية شعبية مؤطرة تم تسييرها وفق إرادة وأدوات ''خفية'' حتى يظهر الأمر على أنه انقلاب شعبي وليس انقلابا عسكريا طهته مخابر السلطة والزمر من داخل النظام التونسي بعدما غلفته بتوابل شعبية حتى يسهل ابتلاعه بعيدا عن أية ردود فعل دولية متوقعة، لو أنه جاء من على ظهر دبابة..ما يؤكد أن زين العابدين قد تعرض ل''تصفية'' من داخل السلطة وليس من خارجها، كما هو مروج ومسوق له الآن، هو العودة إلى ظروف وطبيعة وتكوين النسيج الاجتماعي في تونس، فالمتعارف والمفصول فيه أن إنسان تونس، كأي نسيج عربي، إنسان مهادن يؤمن بأن الحاكم ''قدر'' من السماء، وشواهد الرضى بالقضاء والقدر أكبر من أن تحصى أو ترسو على قضية أو موقف ما. فعمر القهر التونسي المتعايش معه خمسون عاما مقسمة بين حكم بورفيبة وحكم زين العابدين، قهر رسمي وتسلطي طال حتى تأطير عدد الركعات التي يمكن لأي مواطن أن يصليها بالمسجد، بعد أن أصبحت الصلاة في المساجد تتم بعد استخراج بطاقة ''ممغنطة'' توقعها سلطات أمنية تراقب حتى دعاء السجود، ناهيك عن الحظر السلطوي للحجاب. ببساطة، لا يمكن لعاقل أن يقتنع بأن شعبا تم تحييده أمنيا لنصف قرن من الاستعباد والاسترقاق يتحرر فجأة ودون سابق إشعار من كافة قيوده وخنوعه وخوفه، لينصب مقصلة في الشارع لدكتاتور يعلم أن أبسط ''بوليسي'' من شرطته يمكنه أن يجر عبر صفارة و''قزولة'' مطاطية مدينة كاملة إلى المخفر يحاسبها ويعاقبها، ولا معترض أو ممتعض. ليس معقولا ولا بهذه السذاجة المعروضة الآن أن يبتلع أيا كان أن حادثة الشاب ''البوعزيزي'' الذي أضرم النار في نفسه هي التي وحدت ''أمة'' من الراضين بقدرهم لكي تتحدى وتتوحد على كلمة ومسيرة رجل واحد مطالبة برأس رجل واحد هو زين العابدين. فلولا أن هناك ''قوة'' ثقيلة وأجهزة محترفة تعرف ماذا تفعل وكيف تفعل، أطرت الشارع وأبقت عليه مشتعلا طيلة شهر من الاحتجاج المنظم والمهيكل والمتجدد، لانتهت حادثة الضحية ''البوعزيزي'' كما انتهت مدينة ''بن بوزيد'' ذاتها. فماذا يعني احتراق مواطن بل مائة، وماذا يعني أن تزول ''سيدي بوزيد'' وحتى ''سوسة'' من معالم الكون كله، في عرف حاكم أثبتت السنون الخوالي أنه أزال من الوجود المئات من معارضيه؟ هناك طرف في النظام أرادها هكذا، طرف فاعل، أرادها انقلابا ''عسكريا'' بلا دبابات ولا صدامات، انقلابا معطرا بتوابل شعبية.. وهو الأمر الذي فهمه زين العابدين بعد فوات الأوان.. وبعدما تجاوزته الأحداث، حيث لجأ إلى الشعب للتحصن به بعدما تواضع ''الدكتاتور'' ونزل إلى المستشفى وإلى الشارع وإلى سيدي بوزيد ومد يده مستجديا ''التوانسة'' أن ينصروه على ''الطرف الآخر''.. لكن ''ولات حين ندم''.. زين العابدين بن علي، الذي لم يجد طيلة ليلة كاملة من تحليقه بين السماء والأرض مطارا ينزل فيه، هو نفسه ''بن علي'' الرئيس الذي لا صوت ولا ''سوط'' كان يعلو صوته.. فهل يمكن أن نقتنع بأن رجلا يحمل تاريخا عسكريا زاخرا بالردع و''الكنس'' الفوري لأي مشتبه في معارضته، يتنازل بهذه البساطة عن عرش بناه 23 عاما، خوفا من الشارع أو تأثرا لسقوط مائة ضحية من مواطنيه؟ القضية أكبر وأعمق.. لقد فهم الرئيس المخلوع سيناريو الانقلاب متأخرا وخطابه الأخير الذي ردد فيه ''لقد فهمتكم'' لم يكن يقصد به المحتجين، فعددهم لا يتجاوز الثلاثمائة ألف من أربعة عشر مليون تونسي، ولكن الرسالة كانت موجهة إلى من وراء ''الثلاثمائة ألف''، إلى القوة الحقيقية التي أطرت ودعمت وحركت الانتفاضة، والأمر لا يتعلق بنقابات مفلسة كانت تقتات على ''مدح'' الدكتاتور، ولا على أحزاب ''معارضة'' كانت تنشط على مستوى برقيات الفاكس الإعلامية، وإنما على ''الطرف'' الخفي في اللعبة برمتها، الطرف الذي رفض أن يعري ملامحه ويكشف هويته واكتفى بتسيير الانقلاب باحترافية كبيرة ودون أن يسمع صوت لمحرك دبابة أو ''ذبابة''، وحده هدير الشارع من فعلها، ومن فصل في ''موضوع'' لم يشارك في صياغته ولا إخراجه..ليصفق العالم على أن ما حدث كان ''ثورة الشعب'' والحقيقة أنها ''ثورة نظام'' ضد بعضه وليس ضد كله. حكاية النيران الصديقة والمفارقة أن الرئيس ''الجديد'' محمد الغنوشي الذي عين نفسه بنفسه قبل أن تقلب عليه الطاولة مجددا، اكتفى بوعد احترام الدستور فهدأ الشارع، رغم أن الرئيس المخلوع كان قد وعد بأكثر من ذلك كثيرا لو أن تونس أخذت بتهاويه وفهمت رسالته.. لكن لا أحد فهم ما فهمه زين العابدين متأخرا، لقد سقط الدكتاتور لكنه خلف وراءه ''تونس'' خدعوها بقولهم.. إن الشعب كان هو بطل المعركة، فلا بطل فيما حدث، لم يكن إلا إطلاق نيران صديقة مركزة باحترافية متقنة ووضوح استطاع أن يخدع الجميع بالتساوي الممل..