برزت عدة مبادرات سياسية تزامنا مع اتساع رقعة الاحتجاجات وتطورها إلى مسيرات، بعضها تبنته أحزاب في الحكومة وأخرى قادتها أحزاب في المعارضة، وأخرى أطلقتها شخصيات وطنية معروفة إلى جانب مبادرات نواب سابقين وإطارات وجامعيين، وكلها جاءت بأفكار متباينة، تتقاطع كلها في الرغبة في تحقيق هدف واحد، هو إرساء تغيير ديمقراطي، مبني على مزيد من الانفتاح السياسي، وضمان الحريات الفردية والإعلامية، حتى أنها حملت تسميات متشابهة، والأهداف نفسها، وتتحرك بنفس الأسلوب “السلمي” وفي وقت متزامن. ولا يوجد خلاف على أن هذه المبادرات كانت وليدة الاحتجاجات التي شهدها الشارع الجزائري شهر جانفي المنصرم، في محاولة لتعميق الرؤية والمطالب، وتجنب اعتماد المسيرات والعنف لإثارتها، فالإعلان عنها تم مباشرة بعد أسبوع من توقف أعمال الشغب وعودة الهدوء، ولعل “مبادرة دعم الاستقرار الوطني” لحركة مجتمع السلم كانت أول هذه المبادرات، وجاءت بعدها مبادرة حركة الإصلاح الوطني المسماة “أرضية ميثاق الحقوق والحريات الديمقراطية في الجزائر”، وبالتزامن أعلن عن ميلاد “التنسيقية الوطنية من أجل التغيير والديمقراطية” الداعية إلى مسيرة 12 فيفري، ثم “البيان من أجل الحقوق والحريات”، ومبادرة “جميعا من أجل التغيير الديمقراطي”، وأخيرا ميلاد “التحالف الوطني للتغيير” الذي يجمع بين مبادرة حركة الإصلاح ومبادرة رئيس الحكومة الأسبق، أحمد بن بيتور، الذي سبق الجميع في طرح مبادرته “تحالف قوى التغيير” في صيف 2010، والتي أعلن مؤخرا من خلالها عن “بيان من أجل جزائر جديدة”، في خضم تسارع الأحداث في تونس ومصر. وتتقاطع كل هذه المبادرات في تسميات “شعاراتية”، مدلولاتها واضحة، تلخص الأهداف التي أنشئت لأجلها، وتصب كلها في خدمة مصلحة الوطن والأمة، والخروج بالجزائر من وضعها المتأزم، خاصة على صعيد الجبهة الاجتماعية التي أضحت تهدد بالانفجار في أي وقت، وأصبحت من زاوية أخرى “بارومترا” تقاس عليه تفاعلات الساحة السياسية، وعلى أساسه تصاغ هذه المبادرات، وتتخذ القرارات في مجلس الوزراء. وتلتقي هذه المبادرات في كونها تتميز بطابعها السلمي الداعي إلى التهدئة، وفتح أبواب الحوار بين مختلف الفعاليات السياسية والإطارات والتنظيمات. فبالإضافة إلى كونها أعادت الحراك للساحة السياسية، فإنها كسرت احتكار الأحزاب لمثل هكذا مبادرات، ووحدت العمل السياسي بين المجتمع المدني والطبقة السياسية. فكما أقحمت بعض التنظيمات الوطنية والحركات الجمعوية، والإطارات غير المتحزبة في التفكير في إيجاد حلول ومخارج للوضع الراهن في البلاد تحت قبعتها، وبعيدا عن كل تحركات غير سلمية، فإنها من جهة أخرى خلقت نوعا من التلاحم السياسي بين مختلف قوى المجتمع حول التغيير المطلوب في الجزائر. وجاءت هذه المبادرات على اختلاف تسمياتها وأصحابها لتؤكد القطيعة الموجودة بين الشعب والطبقة السياسية، فأتت بأفكار كان يفترض أن تتبناها الأحزاب الفاعلة في الساحة السياسية، كل باسمه، لكن أزمة فقدان الثقة فيها من قبل المواطنين جعلت بعض هذه الأحزاب تتخندق مع تنظيمات وجمعيات وشخصيات وطنية، لم يكن هناك إطار أو فضاء يجمعها بها في يوم من الأيام، لا مواقف أو مصالح مشتركة، بل إن بعضها لم يتفق يوما في أبسط القضايا، وهذا ما يحيل إلى التشكيك في مصداقية بعض هذه المبادرات، حتى لا نقول كلها، ويبعث على التساؤل حول الخلفيات التي تقف وراء تحركات بعض المبادرين بها أو المنضمين إليها، خاصة وأنهم يطالبون وبإجماع بإعادة فتح المجال السياسي، من خلال السماح باعتماد أحزاب جديدة، في مقدمة مطالبهم، والتي يأتي في ذيل ترتيبها تحقيق العدالة الاجتماعية التي اهتز لها الشارع في جانفي المنصرم، وكان أحد أهم أسباب إطلاق هذه المبادرات. فليس خافيا أن ما يتبناه هؤلاء، حسب البيانات التي أصدروها للصحافة الوطنية، هي مطالب سياسية تتقدم المطالب الاجتماعي، التي انتفض لأجلها المواطنون، كالمطالبة برفع حالة الطوارئ وإقرار مزيد من التعددية الحزبية والإعلامية. وأقل ما يعنيه هذا الأمر، أن الذي حدث هو “استثمار سياسي في مطالب شعبية”. ويحق في هذه الحالة التكهن بأن بعض هذه المبادرات سيكون أرضية لتشكيل أحزاب جديدة في شكل تكتلات عائلات سياسية، وفرصة لإعادة بعث الروح في الأحزاب “المنسية”، أو ما يعرف بالأحزاب “المجهرية”، خاصة أن الجو السياسي العام ساعدها على البروز والعودة بوجه آخر تحت غطاء هذه المبادرات التي انضمت إليها، دون أن ننسى المواعيد الانتخابية المقبلة، فهي تمثل ظرفا مواتيا وعلى المقاس لتحقيق هذا الهدف غير المعلن لهذا الأحزاب، وربما لبعض إطارات الدولة التي وجدت الباب مفتوحا لها بمصراعيه لدخول عالم السياسية.