عندما ينزاح الكلام عن طبيعته فيتحول إلى كائن حي يعبر من مكان إلى آخر أو من جهة إلى أخرى، بدل أن يبقى ذبذبات صوتية تنتقل عبر الأثير بين أفواه الناس وآذانهم يصبح للقصيدة شكل آخر وطعم آخر أيضا.. أما الشكل فهذه المقاطع التي يبدأ أولها وثانيها بالجملة الإسمية الدالة على الثبات، ثبات التحدي إصرارا عليه وتعلقا به.. وثبات الذكريات التي لا تزول والتي تصر الشاعرة على التواصل معها حقول مودة دائمة.. ليأتي ما بعدهما بادئا بالجملة الفعلية المضارعية الدالة على الحاضر، حاضر المودة حيث ريح الذكريات تشتغل في الداخل كل لحظة، وحيث الخطى تتعثر مرتبكة لا تعرف أين تتجه، وحيث الرصيف / الهامش وحده الأثر الباقي الدال على مرور الأرجل.. أما الجولات وما كان فيها من أحاديث التواصل الحميمي فقد اختفت متحنطة، ولم يبق إلا الصدى العميق الذي يدفع إلى تذكر الذي كان.. هل هي إشارة غير مباشرة إلى أننا مازلنا كمجتمع على الرصيف/ الهامش/ هامش الحضارة البشرية المعاصرة وسنبقى وسوف نبقى، مادمنا نرفض تحرر نصفنا ونصر على بقائنا في مجتمع الذكورة الذي برهن ويبرهن دائما على فشله الأبدي في الخروج من نفق التخلف الطويل؟.. ربما.. وإذ تنتهي تلك المقاطع أخيرا بتحول الأحاديث المختفية البعيدة التي كانت تراها العيون إلى خطى تائهة تعانق علامة استفهام كبرى مليئة بحيرة السؤال: أين أنا؟ ماذا أفعل؟ فإنما لتوحي لنا بمهزلة ما نحن فيه، حيث تفشل كل المبادرات التي تحاول تغيير وضعنا المترهل هذا نتيجة سيطرة قوى الاستبداد والأصولية المتحالفتين طبيعيا، لأن هدفهما في النهاية واحد هو البقاء في السلطة بالنسية للقوى الأولى ومن ثمة العمل على إبقاء الأوضاع على حالها كما هي، مجتمعا ذكوريا مستبدا في كل مستوياته، والعمل على الإستيلاء عليها والبقاء فيها بعد ذلك إلى الأبد بدعوى تطبيق الدين باعتبارها القوى الناطقة باسمه والمدعية تمثيله بإطلاق بالنسبة للقوى الثانية.. وأما الطعم فهو هذا الضيق الذي يحاول الكلام لا اللغو، الكلام الذي له هدفه ومسؤوليته العبور فيه ومن خلاله، وهو الضيق المتعدد، وكأن الشاعرة تطرح السؤال: من أين نبدأ العبور إلى جهة الخلاص، جهة التقدم والازدهار؟ هل من نقد الموروث؟ أم من نقد التناول السائد لهذا الموروث؟ هل من نقد خطاب السلطة المستبدة أم من نقد العقلية الجمعية عقلية الاتكال واللامبالاة؟ أم من نقد علاقة الارتباط التبعية بالغرب ؟ أم..أم..؟ يبدأ النص بامتلاك الأنثى إرادة تحدي العادة السائدة، عادة ان الذكر هو الذي يبادر إلى طلب إقامة العلاقة مع الأنثى، فتبادر مزيلة خجل تلك العادة إلى طلب تلك العلاقة، مزهوة بذاتها المتحدية.. ولا يهم بعد ذلك نوع العلاقة، هل هي علاقة صداقة ام علاقة حب؟ وأي حب؟ هل هو الحب العذري الذي تبوح فيه بحبها لكنها لا تذهب فيه بعيدا، أم هو حب ممارسة إشباع شهوة الجسد.. وأشير هنا إلى أنني لست ضد أي نوع من أنواع الحب المذكورة، شرط أن تبنى على أساس الرضى المتبادل بين كائنين حرين واعيين ومسؤولين عن نتائج اختيارهما.. تنجح الأنثى في تحديها وتقيم فعلا تلك العلاقة ولا يهمنا نوعها هنا لكنها العلاقة التي لا يمكنها الاستمرار، حيث تبقى في النهاية أصداء ذكريات تسترجعها وتجترها بألم.. لماذا؟ كل الاحتمالات ممكنة.. وهكذا ينتهي النص بوقوف تلك المتحدية على رأسها، وكانها تمثل علامة استفهام كبرى تشي بالكثير من الحيرة.. ربما هي حيرتها الممثلة في الأسئلة: لماذا يرفض المجتمع إرادة الأنثى في المبادرة إلى طلب إقامة العلاقة مع الذكر، فيما يقبلها منه هو (الذكر)؟ ما الذي يميز الذكر عن الأنثى في مجتمعنا حتى يعطى ذلك الحق الذي تحرم المرأة منه؟ أليس الرجل هو الذي يسير أمور مجتمعاتنا العربية دائما وأبدا ، ولم نحصد من تسييره ذاك سوى الهزائم تلو الهزائم؟ لماذا إذن لاتعطى المرأة ذلك الامتياز فلعلها تنجح فيما عجز الرجل عنه؟.. لكن.. كيف وهي لم تحصل حتى على حق الاعتراف بها ككائن حر يمتلك إرادته في الفعل وحريته في الاختيار، على الأقل في أمورها الشخصية..؟ ما يلاحظ في النص عموما، بدءا من العنوان إلى آخر كلمة فيه، هذه اللغة الانزياحية بإفراط ووعي يجعل من الشاعرة كنزة مباركي واحدة من الشاعرات القليلات اللواتي يمتلكن لغة خاصة مميزة، جميلة وراقية، حيث الكلام كائن حي يعبر من مكان إلى آخر وبوعي فاعل، أو من جهة إلى أخرى ، من جهة الخضوع إلى جهة التحدي كما قلت سابقا..ومن هنا يأتي ربما مبرر الضيق.. وحيث الخجل نقاب يغطي الوجه الذي يعمل (الوجه) بدوره على تمزيقه.. وحيث اللغة خرائط متعددة تجعل مستعملها يتوه بين الأمكنة، ربما هي الأمكنة التي تأتي منها أحاديث الذكريات،، وربما هي خرائط التصورات / الأفكار/ المواقف المتعددة التي تبدي نفسها باحتشام وخوف في هذا الضيق، ضيق الاستبداد والأصولية، طارحة ما تعتقد أنه طريق العبور إلى الجهة الأخرى.. وكأننا نسترجع هنا خليل حاوي حين قال متوهما حالما قبل حتى انتشار هذا المد الأصولي الرهيب وزحفه على الشارع الاجتماعي العربي: يعبرون الجسر في الصبح خفافا.. أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد.. من كهوف الشرق، من مستنقع الشرق.. إلى الشرق الجديد.. أضلعي امتدت لهم جسرا وطيد.. لتأتي بعد ذلك سنابل القمح بما تعنيه من جمال وانتظار حصاد الفرح المتوج باللقاء الأبدي الذي يؤكده ترديد الأغنيات ربما لكنه اللقاء الذي كانت الأنثى المتكلمة المتحدية تنتظره ولم يكن..الأمر الذي حوله إلى لحن حزين يجرفها بأمواج ذاك الذي لم يتحقق.. ولأنه لا بديل يحل محل الذي انتهى ربما بحكم نظرة المجتمع السيئة إليها لا يبقى أمامها سوى الإصرار على الصبر والتعلق بالذكريات كنوع من السلاح الخفي لمواجهة قساوة هذا الحاضر.. وعلى الرغم من أن تلك الأنثى المتألمة تتواجد في المدن / الحضارة المعاصرة حيث الشوارع الواسعة وحيث تعدد الأصوات والواجهات والخيارات والأشياء، وهي التي يمكنها مجتمعة المساهمة في جعلها تنسى، إلا أن ذلك كله لا يزيدها إلا شعورا بالوحدة لا يمكن حتى لرذاذ المطر الناعم أن يزيله (هل هي هذا الضيق الذي نواجه به نحن العرب المسلمين الآخر إجمالا خوفا منه وهروبا منه أيضا إلى جحور الماضي التي تعمق ضيقنا أكثر؟) تلك الوحدة / الضيق التي تجعلها تندفع للإنغراس في ماضيهما أكثر حين كانت وهو يسرعان الخطى هروبا من ذلك المطر فيتعثران ويضحكان، وربما يضمان بعضهما فرحا وزهوا أكثر.. أكثر.. لكنه في كل الحالات وقتا كان.. ولا يعود.. وهكذا يغيب في النهاية كل الكلام ولا يبقى على لسانها سوى تلك اللحظة الجميلة التي تراها أمامها وترى فيها أحاديث الذكرى التي تبزغ في ذهنها أسئلة حائرة، تقلب كل كيانها لتجد نفسها رأسا على عقب كما يقال.. ألا يتميز العرب أيضا بأنهم لم يبق لهم سوى الكلام المكرر عن ماض كان.. ولا يعود ابدا إلا كأوهام نتشبث بها دلالة على عجزنا الكلي في هذا الحاضر، وخوفنا المرضي الذي تغذيه الأصولية أكثر من ذلك الآخر.. لا شك أن السؤال الأساس الذي يفرض نفسه حتما من منطلق ما تقدم هو: لماذا كل هذا الإصرار على تجسيد المعاني والمجردات والحالات؟ ألا يدل ذلك على مدى إصرار تلك الأنثى المتحدية على التمسك وبكل كيانها بلحظات الماضي الجميلة المفتقدة وضمها بحرارة إلى صدرها؟ أليس في ذلك (ما تقدم) الرفضُ المطلق نفسيا وذهنيا لإرادة المجتمع الذي لا إرادة له، والذي يصر على جعلها تخضع وتقبل بأن تسير كالأخريات في طريق اللاسير؟ هل فشلت الأنثى أم نجحت في مسعاها المتحدي؟ والإجابة هنا ثتائية: فشلت ظاهريا كون ما حققته بتحديها ذاك قد ضاع منها.. ونجحت، لأنها تصر على التواصل مع ما حققته مطمئنة إلى أنها ستجده حتما، خاصة وأن شمس الوضوح ، شمس الأمل المزيلة لظلام العماء قد أشرقت.. ولعل في وقوفها على رأسها استفهاميا الدلالةَ القاطعةَ على تواصل إصرارها ورفضها التشبه المستمر بالقطيع.. ختاما أقول: مازالت الشاعرة المميزة كنزة مباركي تحقق التلاحم التام بين عناوين نصوصها ومتون تلك النصوص، موفقة بشكل عجيب في اختيار تلك العناوين، وهو ما تحقق في هذا النص أيضا، حيث التوافق التام بين العنوان ممرات ضيقة للكلام الذي يوحي بالعبور من جهة إلى أخرى، ربما من جهة الخفوت، خفوت الصوت إلى جهة ارتفاعه عاليا متحديا معلنا عن وجوده الإرادي المسؤول، وما في المتن من عمل تواصلي على التحدي، حيث الانتقال من عالم الخضوع إلى عالم الرفض الإيجابي.. بقلم: الطيب طهوري
النص ممرات ضيقة للكلام تقاليد الخجل مزقها وجهي.. وعلَّق على جبيني لائحة تحديات.. لون عينيَّ كالحروف التي توزعت.. على خرائط اللغة. للقصائد شكل الوهم.. ولون اللعنة.. للموت دائما.. لون اليقين. سنابل القمح ردّدت أغنياتك.. وذرفتني لحنا في موج الألم. التقط صوتك.. من أجراس الآهات التي تركتها،، تستفز هدوئي. الصبر أثمر بداخلي،، فلا تخشَ أن تنضب حقول مودتي . أجوب شارع الكلام وحدي.. وجه المطر أصبح غريبا.. يستأذن الطريق. وجرأة الريح توارت خلف ارتباك الثواني.. تعثرت خطانا.. وآثار الرصيف ذاك.. مازالت عالقة باقدامنا. جولاتنا صارت أحداثَ محنطة، في صمت الوقت الذي كان . في لساني.. سكنت الخطى.. ومع رجليَّ سارت أحاديثنا .. ورقصت الأغنيات.. أشرقت شمس هذا اليوم، فوجدتني أقف على رأسي.