مدينة الدوحة بدولة قطر حملا همّ الجزائر في زيارتهما إلى قطر، لدرجة جعلت الهم القومي يتراجع لدى العربي، ويختفي الهم الإسلامي عند شهرزاد، ذلك لأن بلديهما، ورغم خروجها من المحن ومن تفجيرات القنابل في وقت مبكر، كانت لا تزال تحت وقع أفعال السفهاء حين حولوها الى وطن يحترق، * حملا همّ الجزائر في زيارتهما إلى قطر، لدرجة جعلت الهم القومي يتراجع لدى العربي، ويختفي الهم الإسلامي عند شهرزاد، ذلك لأن بلديهما، ورغم خروجها من المحن ومن تفجيرات القنابل في وقت مبكر، كانت لا تزال تحت وقع أفعال السفهاء حين حولوها الى وطن يحترق، آنذاك كانت القوات الأمريكية تواصل حط رحالها في قاعدة "السيلية"، لذلك سأل العربي أحد المنظمين القطريين: * - عن أي تعاون سنتحدث، والقوات الأمريكية تحل بديلاً، وبعدد أكبر من عدد السكان؟ * - أجاب المسؤول القطري دون أن يبدي أسف أو حزن، بل كان مبتسماً: علينا ألا نخجل من الاعتراف بوجودها، ولنفكر في التعاون معها بشكل جماعي. * علقت شهرزاد بحزن: * - نحن الآن في "زمن الكتابة على لحم يحترق" فلتقل ما تشاء. * نظر إليها المسؤول القطري ملياً، ثم قال: * - يجب ألا تنسين أن قطر هي التي أنتجت المسلسل التاريخي "الكتابة على لحم يحترق". * - هل هذا يعني أن قطر تسعى مرة أخرى للقيام بدور مثل الذي قاموا به من جعلونا ندفع الثمن! * - ليست قطر وحدها بل كل الدول العربية، هذا اختيار قومي. * - تقصد استسلاما قوميا.. قالت شهرزاد بغضب. * بدا المسؤول القطري مندهشاً أمام زائرين لا يعرفان حدود الضيف، ولا التزامه بسياسة البلاد، غير أنه لم يعد على استعداد لإيقاف صرخات الإعلام التي تبنتها قطر، والتي تتعارض مع الحرية المفروضة وإن جاءت رد فعل ضد الموقف السياسي العربي، وشهرزاد أيضاً.. لذلك أعطى انطباعاً عاماً برحابة صدر لم يكن يسمح بمرور نملة، ولا مكان فيه لحشرة، فما بالك بأقوال شخصين لم يستطيعا التخلص من ارث بلادهم المتراكم لأكثر من عشر سنوات، بدأ بالتعددية الحزبية، وانتهى إلى الفوضى. * قبيلة لها صوت إعلامي * * المحامي “أحمد”، متوسط القامة، صبوح الوجه على هامش الندوة، التي شارك فيها عدد من المسؤولين العرب، والمثقفين ناهيك عن مراقبين أجانب، هم في مظهرهم أقرب الى الباحثين، وفي باطنهم ضباط مخابرات كما جاء في شهادة أحد المحامين القطريين يدعى “أحمد”، الذي أبلغ العربي أن المراقبين الأجانب هم أصحاب فكرة الندوة، والمراقبين لردود الأفعال، والحاصين للآراء ولقياس درجة التباعد و الاختلاف بين الدول العربية. * تبدو عليه في صمته، وعند حديثه علامات الجد والتميز، لا يؤمن بوجود دولة اسمها قطر، يختصرها في قبيلة لها صوت إعلامي، ولهذه القبيلة السيادة والحكم والنفط، وكل من يخرج على شيخها، حتى عندما يبيع الشرف عليه أن يقبل بالنفي في صحراء النفط باعتبارها جنة شيخ القبيلة، بعيداً فيتغرب داخلها، ويصبح أثراً بعد ذكر. * للمحامي “أحمد” آراء في كل شيء، يعلن بعضها أمام الملأ، وأخرى يسرها “خلسة” للصحافة، وثالثة يحدث بها نفسه، ورابعة- وما أكثرها- يتوجس خيفة من يسرها على نفسه جهراً، فتأتي في أحلامه، وتطهر كلمات نابية ومزعجة تأتي قدحاً في كل أهل السلطة، استغلتها زوجته، وهددته بها، وتمكنت بها من حماية نفسها من زواجه مرة أخرى بامرأة ثانية. * أحمد المحامي، بين نار نظام يمقته منذ أن شاهد مآسي الأطفال الوافدين من عدة دول، من باكستان خاصة، وقد استغلوا عبيداً في سباق “الهجن”، حيث الاهتمام بالإبل، مرابطها، أكلها، ومعدتها، وتحليل برازها، وتجويع الأطفال ليقل وزنهم، ويحقق المشاهدون والمشاركون في السباق رغبة دفينة من ألم قرون القهر، حيث كانت رياح الصحراء تعمي العيون، وتغرق البعض في رمال الربع الخالي. * حين زاره العربي رفقة شهرزاد، المهتمة بالأجرام بحكم الدراسة وبحكم متابعتها السلوك البشري، قال المحامي “أحمد”: إجابة عن سؤال العربي، ما موقفك من وجود مكتب اسرائيلي في الدوحة؟: * - - هذا السؤال يوجه لمن يشارك، وأي شخص فرد من الشعب في قطر يجيبك عنه يكون مدعياً، فنحن لم نشارك في اتخاذ القرار، لقد أصبحنا ذات يوم فوجدنا مكتبا تجاريا اسرائيليا، وفد لا نجده غداً، وفي الحالتين لا نسأل. * قالت شهرزاد معلقة: هذه حال كل الدول العربية. * قاطعها أحمد قائلاً: * - ليس كل حال الدول العربية واحدة، فهناك حماية للدولة من المجتمع، حين تنهار النظم، حيث التاريخ والآثار والثقافة تنوب عن السياسة فماذا سيكون حال قطر، حين ينتزع منها قرارها؟ * - هل يمكن توضيح ما تعنيه؟.. سألت شهرزاد * - لأضرب لكما مثلاً، الحاكم في هذه البلاد يملك الأرض وما عليها من البشر، ولا يملك خصوصيات الأفراد، فمثلاً هو الذي يسمح أو لا يسمح للمرأة أن تقود السيارة، ومع أن هذا حق خاص فقد حوّله إلى ملكية عامة، الحاكم هنا يمكن أن يعلم الناس في الخارج الحرية، ويبلغ رسالة الإعلام، ثم يحرم منها رعاياه، وما أقل عددهم، وأقول هذا لأنهم لو جاءوا لمحاربته على قلب رجل واحد، ما أسقطوه لقلة عددهم. * - لماذا كل هذا؟.. سأل العربي * - لأن الحاكم قرر أن ينفتح على الآخر القوي، ويحتمي به إذا دعت الضرورة لذلك مع أن هذا الأخير قد يلغيه في اليم ويتركه يغرق، ومن هنا يمكن أن نفهم تمركز آلاف الجنود الأمريكيين الذين تمركزوا في قاعدة السيلية. * - هل هذا يعني أن الحرب ضد العراق واقعة لا محالة؟.. سأل العربي * - وهل عندك شك في ذلك؟!.. فما جاءت تلك القوات للفسحة عندنا، وهناك من يستعجلها لضرب العراق بحجة اسقاط “صدام”، وبسقوطه سينهار النظام العربي كله. * - أليست تلك أيضاً رغبة الشعب العراقي؟ سأل العربي: * - قد تكون كذلك، لكن حين تحل المصيبة سيعرفون أيهما أكثر شرا الاحتلال أم النظام الحاكم؟ * - ولكن ألا يشكل صدام ونظامه خطراً على المنطقة؟.. سألت شهرزاد. * - من أي ناحية؟ * - من ناحية أنه سبق له القيام بغزو الكويت؟ * - تلك واقعة تتعلق بالمصالح الدولية في المنطقة، وقد حلت بتدخل قوات أجنبية، ولكن نظام بغداد لا يشكل خطراً على أي دولة من دول الجوار ولا دول العالم في الوقت الراهن. * - كيف وهو يملك أسلحة دمار شامل؟.. سألت شهرزاد * - لو كان العراق يملك أسلحة دمار شامل، لما حوصر كل هذه السنوات وما جاءت القوات التي ترينها في المنطقة.. قدومها بعشرات الآلاف يؤكد عدم وجودها، والأيام بيننا. * - حينها سترفض دول العالم ما قامت به أمريكا.. قال العربي * - لن يحدث أي شيء حتى لو قامت بجرائم متعددة ضد الشعب العراقي،بما في ذلك ضربه بقنبلة ذرية، كالتي استعملها في الحرب العالمية الثانية ضد اليابانيين. * الوزيران.. القصير والطويل * * في مساء نفس اليوم الذي استمع فيه العربي وشهرزاد، إلى رأي جريء من رجل واحد، لكنه كان جملة من المواقف، بدا الخزي ظاهراً على العربي، من هول ما ستراه المنطقة، ومن أفعال أهل البلاد، الذين نسوا الأيام الخوالي، وطال بهم الأمد، مع أن حياتهم ليست قروناً، فإلى وقت قريب كانوا يعبرون عن حال الأمة في أفعال معينة وإعلامية، جاءت واضحة في مجلة “الأمة”، لكن شهرزاد كانت على خلاف ذلك، لكونها ربطت الحاضر بالماضي، مذكرة بما قام به الملوك والأمراء العرب على طول التاريخ، وما يقوم به الرؤساء أيضاً في الجمهوريات، قائلة للعربي: * - هون عليك، فليس حال الجزائر بأحسن من غيرها، فغياب الشرعية ظاهرة عامة وأن حكمت القوانين، ودان الناس بالولاء إلى الحاكم وضحوا من أجله، وطوعوا أنفسهم لهواهم، وابتعدوا عن دينهم، ألم يسب المؤمنين تحت أنظمته حكم جاءت بالقوة لعقود الإمام على كل المنابر. * قاطعها العربي: * - لا يزعجني غياب الشرعية، وليس مهماً من يحكم، ولكن ضياع الأوطان والتحالف مع القوى الخارجية هو الأمر المخيف. * - قالت شهرزاد معقبة: * - لماذا لا تصر على النظر أمامك فقط؟ فليست قطر وحدها من تقوم بهذا، هناك في الجزائر ودول المغرب العربي، أليس سكوتهم عن الحرب القادمة ضد العراق موقف تخاذلي، والسفن المارة عبر قناة السويس والبحر الأحمر، وتلك القواعد الموجودة في الدول الأخرى، أليست جميعها تدل على اجتماع الدول العربية على الحرب ضد العراق، وما اجتماع القادة العرب في شرم الشيخ الأيام الماضية، إلا بداية لعد تنازلي لحرب أراها لا تبقي ولا تذر. * - هي الحرب أذن! سأل العربي شهرزاد. * - وعلينا أن نستعد لها، فقد تدوم لسنوات أو لعقود. * * قطر تطرد المصريين * * لم يواصلا الحديث، فقد دنا منهما وزيرين كان أحدهما على معرفة سابقة بالعربي، فحياه، وجلسا معهما لبرهة من الزمان، ثم انتحبا جانباً عنهما لمواصلة الحديث، غير أن الحديث شد انتباههما , فاسترقا السمع، كان أحد الوزيرين، أسمر اللون طويل القامة، مهذب إلى أبعد الحدود، وكان الآخر قصير القامة، تسبقه بطنه , كبير الرأس وعيناه صغيرتان، يسقي رئيسه أفكارا وتوجهات تظهر في خطاباته . * كان الوزيران قد عملا معاً في السابق من أجل الوحدة، وفشلا واختلفت دولتهما أكثر من مرة، لكنهما بقيا على عهدها وصحبتها، يلتقيان في الجلسات المشتركة علناً، ويلتقيان سراً في ليالي السهر، وحفلات العشاء، قال الطويل الأسمر: * - أسمعت آخر الأخبار؟ * واعتقد العربي وشهرزاد، أن “آخر الأخبار” سيكون بلاشك يتعلق بالحرب القادمة ضد العرب، غير أن ظنهما خاب. وبلغ بهما الغضب ذروته، حين جاءت إجابة الطويل للقصير في القول: * - لقد طردت السلطات القطرية معظم المصريين من وظائفهم. * - هذا خبر جيد.. فهؤلاء القوم ما أن يأتوا الى بلد لا يتركوه إلا بشق الأنفس. * بدا الأمر غريباً بالنسبة للعربي وشهرزاد ، فقد عاشا في مصر سنوات، ويعرفان حب المصريين لبلد الوزير الطويل وأهله، فلماذا يجد في مثل هذا الخبر سعادة؟ ولماذا يجد الوزير القصير سعادة، وبلاده غير معنية بالعمل في الخارج، فلديها من الخيرات ما يكفيها وجيرانها؟ واسترقا السمع مرة أخرى، فوجدا الطويل يواصل حديثه قائلا: * - هكذا تتاح الفرصة لباقي الجنسيات الأخرى، والحقيقة يا صديقي نحن في أمس الحاجة الى مثل تلك الوظائف، ثم ألا يكفي المصريون ما نهبوه خلال عقود من الزمن. * - أوافقك على كل ما ذكرت ، فتجربتنا معهم ثلاث عقود كانت مرة وسببوا لنا العديد من المشاكل، وعثوا في البلاد فساداً، ونقلوا إلينا أمراضهم. * يواصل الوزير الطويل حديثه والسعادة تغمره، على أمل أن يلتقي أحد المسؤولين القطريين، ويستوضح منه الأمر. * - أود منك يا صديقي أن تساهم معي في إقناع المسؤولين القطريين بالتعاون معنا في هذا المجال. * - تقصد في استقدام موظفين من بلدكم؟.. سأل الوزير القصير. * - نعم، ذاك ما أعنيه. * - كن مطمئناً، فسأبذل كل ما في وسعي من أجل ذلك، وأعتقد أنهم سيقومون بذلك بعد أن تخلصوا من المصريين، الذين نهبوا هذه البلاد، وأكلوا كل خيراتها. * أراد العربي أن يذهب الى الوزير، شاتماً أو معلناً غضبه، وقد عرف من أحدهم أنه قومي حتى النخاع، لكن شهرزاد منعته، خوفاً من رد فعل الوزيرين، خصوصاً وأنهنا اعتقدا بعدم سماع أي كان لحديثهما الخاص، وحين سكت عن العربي الغضب, قال موجها كلامه لشهرزاد: * - مالي أرى بدّه عيشوش يبعث من قبره مرة أخرى؟ لماذا تطاردني نصيحته الأولى، وتحذيره من المصريين؟ ماذا أصابنا؟ * وسألته شهرزاد للمرة الأولى من يكون بدّه عيشوش؟ * - هو كل شخص، قائد، أو زعيم، حاكم أو معارض، مثقف أو شخص عادي يحذر العرب من أنفسهم، كانت بداية ظهوره في قريتي العتيقة في الستينيات، ثم غاب، قيل إنه مات، وماتت أفكاره معه، ولكن ظلت تطاردني كظلي، وها أنا أراه اليوم مرة أخرى. * - هون عليك، فالأمة لا تحل مشكلاتها بموقف شخص واحد، والأصل في هذه الأمة “الاتحاد”، ولن يكون إلا ضمن الوعاء الديني.. قالت شهرزاد: * - كيف أهون علي والحرب على الأبواب، والمسؤولين العرب ممثلين في الوزيرين السابقين، لا يزالوا يعيشون أجواء التآمر، وما كاد أن ينهي كلامه، حتى لاحظ قدوم مسؤول قطري كبير، قيل إنه الخليفة المرشح، والحاكم الفعلي، والحبيب الأوحد لأمريكا، ومن رآه الوزيران - الطويل والقصير- حتى اقتربا منه والابتسامة تخفي المطالب، وتقدم منه الوزير القصير قائلاً: * - حسناً قراركم الأخير؟ * - عن أي قرار تتحدث؟ .. هكذا سأل المسؤول القطري * - قرار طرد المصريين؟ * - لا يمكن أن تقول إنه طرداً، وإنما لم نعد في حاجة الى خدماتهم، وكثير منهم عمروا في البلاد أكثر من عقدين. * وسأل الوزير الطويل: * - أهذا نتيجة خلاف مع السلطات المصرية؟ * - دع النظام المصري يتأدب ولا يتطاول علينا؟ * علق القصير قائلاً: * - لا أدري لماذا لا يعترف المصريون بانتهاء زمن مصر، وحلول زمن الدول الفاعلة بغض النظر عن حجمها؟، * - لم يجب المسؤول القطري عن السؤال , ولكنه أضاف : * - لم يعد التاريخ مهما ولا الموقع ولا المواقف ولا حتى الإنجازات, وإنما المهم المشاركة في العولمة , والأهم من كل ذلك هو الخضوع لأوامر الكبار فلكل زمن دوله ورجاله. * توقف المسؤول القطري لحظة, ُثم أضاف قائلاً: * - هذه البداية فقط، وإن لم يتوقف المصريون وغيرهم عن نقدنا ويلتزموا حدود العصر ومتطلبات المرحلة سيرون ما هو أكبر وأعنف * - تدخل القصير مرة أخرى: * - أقترح على سيادتكم الاستعانة بعمالة أخرى فنية ومثقفة والوزير الطويل على استعداد أن يمدكم بذلك. * أشكركم على هذا الاقتراح، لكن نيتنا استبدال العمالة العربية كلها، بتعيين أجانب، فالدوحة لم تعد عاصمة عربية, ولكنها الآن عاصمة كونية يمكن أن توظف أمريكان, إنجليز, ألمان, فرنسيين أو حتى يبانيين , لكنها لا يمكن أن تتخلف على الركب الحضاري ونوظف عربا, بعد الملتقى لحركة العالم كله، خصوصاً بالنسبة للدول المتقدمة * بُهت القصير ثم ازداد قصراً حتى دخل في الأرض، وأصفر وجهه، وتسمر الوزير الطويل في مكانه،وغرب وجهه واعترته مسحة من الحزن فهو كظيم , في ذلك الوقت كان العربي وشهرزاد يشاهدان الموقف، وفي حلقيهما وقلبيهما مرارة من حال الأمة العربية. * يد الطاغوت * * ضاقت الأرض على العرب بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وزادت مطاردة بعضهم بعضا، وغالبهم الخوف، وأحسوا بالجوع كما هو في البدايات الأولى مع أن دعوة النبي إبراهيم شملتهم ، وأخذت في الامتداد حتى جمعت بين اليابسة والبحر، وتجاوزت فضاء أصداء أصوات أهل العبادة المخلصين. * هكذا كان العربي يرى حال أمة اعتبر نفسه ابنها الشرعي، وتلك مسألة خلاف جوهرية مع شهرزاد التي رأت على طول رحلتها معه، أن الأمة لا تعني تجمع شعوب وقبائل للتعارف فقط والانتماء الى عرق واحد وإنما للتعارف بهدف الاستخلاف والعبادة، غير أن هذا كان في وقت سابق، أما الآن، فلا هذه ولا تلك، فها هي أفيال الفرس تعود من الزمن الماضي محملة بالجبروت والقوة، وبحضور وإشراف ودعم من شيوخ القبائل الذين أصبحوا ملوكاً ورؤساء للدول مع اختلاف أسلوب الرفض، فلقد أجمعوا بالقول والفعل، بالظاهر والخفي، بالمال والأرض على قتل الحضارة والتاريخ الماضي والحاضر من خلال إبعاد من نصبوه في المستقبل القريب حامي الجبهة الشرقية وعلقت صوره في القصور وكتبت فيه مئات القصائد من الرجال والنساء اعترافا بفحولته ورجولته وشجاعته ، لأنه كشف السحرة أمثاله، ومنافسوه في الهوى وعبادة الذات، حتى إذا ما رأوا الجبابرة قادمون، وبطل السحر لبوا أوامرهم عن ذلة وهم صاغرون * لم يمكث العربي وشهرزاد في الدوحة إلا خمسة أيام فقط، يوم الوصول، وثلاثة أيام للندوة، ويوم الترحال خامس، وحين كانا في طريق العودة على متن الطائرة، تسلما عدداً من الجرائد، منها واحدة، جاءت تحقيق مفصل عن بغداد، وهي تعد نفسها للمواجهة أو للانكسار دون أن تتوضأ في دجلة والفرات، ومن بين ما جاء فيه، استجواب لآراء عدد من المثقفين والسياسيين، وقد استرعى انتباه العربي، وجود صورة أستاذه الدكتور يوسف، ذلك الشيوعي المناضل والثابت على المواقف والمناصر للوحدة الوطنية، والذي التقى به منذ تسع سنوات خلت في بغداد. * تابع ما جاء في التحقيق الميداني، لمراسل الجريدة في بغداد، كانت الإجابات جميعها تذهب في اتجاه المقاومة، وعدم استسلام العراقيين مهما كان الثمن مع تركيز واضح على بغداد، لم يأت أحد على ذكر العرب ولا غيرهم، وإنما الرهان كله على الزعيم القائد، البطل المبجل الذي لم تلده امرأة “الرئيس صدام حسين”. * لم يهتم العربي كثيراً بآراء المثقفين العراقيين، واعتبرها نوعاً من المدح أو تعبيراً عن الخوف، إلا رأي أستاذه القديم الدكتور يوسف حيث جاء واثقاً بحاله، حين قال: * - حين نصبر على الحرب فلابد أن نقاوم حتى النهاية، وأتصور أن العراق ستكون مقبرة للأمريكيين * ويسأله الصحفي: * - لقد اقتربت الحرب، فماذا أعددنا لها؟! * - نحن على استعداد للمنازلة الكبرى، وسنهزم أمريكا وحلفاءها على أسوار بغداد. * - هل تقسيم العراق لمقاطعات كما فعل السيد القائد الرئيس صدام حسين سيساعد ذلك على المواجهة؟.. هكذا سأل الصحفي. * - لاشك في ذلك، وقد اختار أحسن القادة الميدانيين، والذين أثبتوا خيرة ودفاعاً وصبراً في الحروب الماضية، وعملوا على استقرار الدولة. * - وهل سيكون للشعب دور في المواجهة والمنازلة الكبرى؟ * - الجماهير مساندة للقائد الرئيس صدام حسين، ولولا إيمانه بدورها وحبها الكبير له، لما كانت العراق في هذه الحال من الاستقرار، ولما صبرت لحصار السنوات الماضية. * - على من تراهنون، والحرب إذا وقعت لن تكون متكافئة؟.. هكذا سأل الصحفي. * - الرهان كله على الزعيم القائد، وعلى الشعب من ورائه، وتوازن القوى ليس مهماً ما دامت هناك عزيمة، وسننتصر بكل تأكيد. * بعد الانتهاء من قراءة الجريدة، التفت العربي نحو شهرزاد وقال معلقاً: * - يبدو أن اخواننا في العراق على استعداد كامل، وروحهم المعنوية مرتفعة. * سألته شهرزاد مستغربة: * - من أين جئت بهذا؟ * - لقد جاء واضحاً في الاستجواب الذي نشرته هذه الجريدة مع بعض المثقفين والسياسيين العراقيين، ومنهم أستاذي د. يوسف. * صمتت شهرزاد برهة من الوقت ثم قالت: * - ما قرأته في الجريدة ينطبق عليه المثل الجزائري القائل: “كلام الليل مثل الزبدة إذا طلعت عليه شمس النهار ذاب”. * - ماذا تقصدين؟ * - أنا التي عليَّ أن أسألك، في بلد محكوم بالحديد والنار، وقد زرناها ورأيناها على الطبيعة، ماذا تنتظر أن يقول المعذبون هناك؟ * - في حال الحرب والمواجهة مع عدو خارجي الأمر مختلف. * - هذا ما يُخيَّل إليك، ولكن الواقع غير هذا، إذ لا يمكن أن تأتي العزة والشجاعة فجأة دون مقدمات، وحين يذل القائد شعبه عقوداً من الزمن، فعليه أن لا ينتظر منه نصرته. * - ولكن هي العراق، وليست صدام، فكيف تتصورين عدم دفاع أهلها عنها؟.. سأل العربي. * - لم أقل أن العراقيين لن يدافعوا عن بلادهم، ولكن حديثي منصب على شهادة أستاذك القديم، إذ كيف لنا أن ننتظر من شيوعي، زيف الحياة، والفكر أن يقول الحقيقة والنظام يتمتع بكامل قوة الآن؟. * - أنت تشككين في كل شيء ما دام لا يعبّر عن الدين أو ينطلق منه. * - هذا صحيح، لأننا قبل الإسلام كنا أموات، وبعد أن بعث الله محمد (صلى الله عليه وسلم) فينا ومناصرنا أحياء، وبالشهادة نحيا أيضاً، فمن أجل من سيضحي العراقيون؟ * - من أجل وطنهم. * - ليصير في يد الطاغوت مرة أخرى.. هكذا قالت شهرزاد. * - أفضل من أن يصبح في يد قوى أجنبية. * - وجوده في حرب ضد قوى خارجية، دون النظام أفضل من فتنة نظام أرعن جرَّ البلاد والعباد الى المهالك، ومع ذلك أقر أن الخطيئة ليست خاصة به، فكما تكونوا يولى عليكم. * مفاتن بغداد.. والغبن الأمريكي * * استغرق النقاش بينهما زمناً طويلاً أثناء رحلة العودة، ووقف كل منهما بعيداً على الشاطىء المقابل، فمنذ أن تعرفا على بعض، وشقا طريق الحياة سوياً، من قسنطينة الى القاهرة، فدمشق، فالجزائر العاصمة، وبغداد وقطر، اختلاف دائماً، ووضعا بحق أو بباطل القوم في مواجهة الأمة، القوم في مواجهة الدين، وحين يقتربان، يحاولان الجمع بينهما، لكن يظل الخلاف قائماً حول أسبقية كل منهما عن “الآخر” ..كان ذلك في زمن قدر بعشرين سنة، جاءت أيامه الأخيرة حبلى بالمفاجآت المرتقبة، حيث الحرب باتت على الأبواب، والدول العربية جميعها معنية بها، فإما مؤيدة لأمريكا وبريطانيا، وإما معادية لهما، وجاء التأييد واضحاً في تلك الدعوات المتواصلة لتحذير نظام بغداد بالقول: * - عليكم في العراق بفتح كل الأبواب، والبيوت والمصانع والقصور، وغرف النوم، وفتح أنفسكم لكل داخل أو حتى لمن يفكر في الدخول مستقبلاً. * تأتي إجابات بغداد متقطعة، محاولة الحفاظ على بقية من كرامة لم تبق إلا آثارها، كرامة من ذلك الزمن الجميل، فيدعوها العرب والعالم مرة أخرى الكشف المستور، وإظهار العورة وإثارة الراغب فيها. * تحاول بغداد البحث عن ورقة، ورقة فقط من شجرة التوت لتستر جزءاً من عورتها، فيرفض العرب بدعوة الحفاظ على بكارتها وعذريتها، قائلين: * - أظهري ما لديك من مفاتن فتلك طريق النجاة، إلا سيكون مصيرك الوأد * تحاول بغداد هاربة من المصير المحتوم القول: * - إنني طاهرة حتى لو بدا الدنس على جسمي، فيا أخوتي حافظوا على كرامتي. * يقول قادة دول العالم والعرب وأشباه القادة فيهم: * - لقد اقتربت ساعة الحرب، وقد قبلنا قبلك بإلغاء الطهر والشرف، وقبلنا بالغبن الأمريكي، فكيف لا تقبلين به، عليك يا بغداد الرشيد، أن تكوني راشدة، فتتساوى معنا في الرذيلة والسقوط،.. فالحماية في حضن ما لا أصل لهم. * توالت الأيام عاصفة، وبغداد تحاول الهروب من قدرها المحتوم وقادتها ينزعون أسلحتهم، وكلما فتحوا الأبواب، زادت مطالب قوة الشر، لأن سعيها نحو لذة السرير العراقي أكبر من كل قضايا الحق أو العدل، أو الخوف من أسلحة الدمار الشامل. * ها هي الأصوات ترتفع في كل عواصم العالم، تزيد مساحتها، وعدد أفرادها , وبشعورهم العفوي يحسون أن الحرب قد قربت، وفي الشوارع العربية بقايا من بشر هنا وهناك تأتي محصلة مهموم بلقمة العيش وضيق المساكن والبطالة وسنوات القهر، خائفة من الحاضر، مسترجعة الماضي وآلامه، وغير آملة ولا عائبة بالمستقبل القريب . * وعلى شاشة التلفاز، وعبر فضائيات عربية اختارت أن تكون شريكاً في الحروب, وً منذ أن أصبحت منافسة للقنوات الأمريكية في حرب أفغانستان، تظهر شخصيات فاعلة، من بريطانيا تدعو العرب للنهوض ورفض الحرب، وفي الدول العربية يراهن الطيبون على المنازلة الكبرى، وعلى أقوال الرئيس صدام وتأكيده على الانتصار. * يظهر د. يوسف مرة أخرىعلى شاشة التلفزيون داعيا العراقيين والعرب وكل أحرار العالم إلى دعم الزعيم القائد، والالتفاف حوله، معبرا عن أصوات جماعات المعارضة الوطنية التي اختارت المصالحة مع النظام. * يستمع العربي إليه ملياً، يشده ثبات الرجل وصدق مواقفه، فمنذ سنوات ماسكا عليها مثل الماسك على الجمر من أجل الدين كما هو في الحديث النبوي، يقول: * - لقد تكالبت الأمم على العراق، لذلك علينا أن نقف الى جانب القائد، من أجل العراق. * تهز هذه العبارات وغيرها الشباب العربي، ومنهم الجزائريون فيشدون الحيل إلى العراق عبر سوريا والأردن، وبعدها بأيام قليلة يبدأ قصف بغداد، فالعراق كلها، يتحول أهلهإ لأى وقود للحرب , لنهم يثبتون في أم القصر، كانوا فيها أسطورة الأساطير التي فاقت ملاحم التاريخ العالمي ..تتواصل الحرب، وكلما ابتعدت قوات التحالف عن أم القصر قلت مواجهتها.. لقد كانت أم قصرمثل الابن الأول . كبير العائلة بعد الوالد , الذي يتحمل كل أعباءالأسرة. * وتتوالى الأيام والليالي، حتى إذا ما طوّقت قوات التحالف بغداد, سقطت في وقت وجيز، وقال قائل: * - هكذا تسقط العواصم العربية في زمن القادة الأبطال ، ويفرون من المعركة قبل وقوعها. * يوم واحد فقط بعد السقوط يظهر الدكتور يوسف على قناة “البحيرة” قائلاً بصوت عال مؤثر: * - لقد سقط النظام الديكتاتوري، هكذا أزيحت عنا غمة وجبروت صدام، فليذهب غير مأسوف عليه، لقد تحقق التحرير، وهذا يوم جديد في حياة العراقيين. * استمع إليه العربي باكياً، متأثراً، متسائلاً: * - ماذا جرى، هل سقطت بغداد أم سقط الناس والمبادىء, ثم يصمت وداخله تتقد النار والبركان يكاد ينفجر، وواصل حواره مع النفس: * - ماذا حدث؟ أين أهل العراق؟ وقبل ذلك أين العرب ؟ * جاءت الإجابة من صوت يسمعه ولا يرى صاحبه: * - لقد حذرتك منذ ثماني وثلاثين سنة خلت من المصريين، * يرد العربي دون أن يعرف صاحب الصوت القادم من بعيد! * - نعم، ولكن لم تحذرني من العرب. * يواصل الصوت- المجهول الهوية في إرسال نبراته: * - كل العرب سواء. * فجأة يتذكر العربي أن صوت “يده عيشوش” هو الذي يعطيه الإجابة داخل النفس، ويدرك أنه عاش في الوهم مدة ثماني وثلاثين سنة، فيقول: * - ليتك لم تحذرني من المصريين، فقد كان الواقع كفيلاً بالتحذير من الجميع. * يتوقف لحظة، ثم يتساءل: * - ما فائدة التحذير؟ وقد انتهى العرب جميعاً لخوفهم من بعضهم بعضاً ومن أنفسهم للرحيل من التاريخ؟ * يبكي، يشد ملابسه، يمد يده الى عنقه، يود لو مات قبل هذا وكان نسيا منسياً، تزيد آهاته، تكاد تسمع، يبدو كأنه مثل لهاث الكلب، يتقدم الصوت لديه، يحس بدخول زمن جديد، ويذهب به الى الشعور الى الإحساس بالانتهاء. ويردد: * - ما أقسى الشعور بالموت لمن يحس أنه حي. * حين عاد, ارتد إليه طرفه، يبصر شهرزاد عن قرب والدموع تنساب من عينيها الخضراوين، يمد إليها يده، فتمسك بها, ثم تقول له بصوتها الهادىء: * - لا تحذر أحداً ولا تبحث عنه بعد اليوم، ف"زمن بدّه عيشوش قد ولى”.. لقد سقطت أشرعة السفن في بحور الخزي والعار، وما بغداد وأهلها، إلا مدينة قد خلت من قبلها المدن والأمم، فهل نولي على أعقابنا؟ * يسألها العربي بصوت هو أقرب إلى الهمس : * -وماذا عن العواصم العربية الأخرى وأهلها؟ * _ لا أدري ما الله فاعل بها.. تقول شهرزاد * يعلق العربي للمرة الأخيرة : * أنا أقول لك ما عليها أن تفعل ..لتنتظر دورها حين يمتد زمن الغزاة الى القرى العتيقة، باحثبن عن عظام بده عيشوش، ليجعل من رميمها تمثالاً يشهد عن بداية ديموقراطية التقسيم والهزائم والفتنة. * * انتهت الرواية بحمد الله وقدرته