لكل كاتب خيارات سردية لعرض الحكاية وفق متخيل له مسوغاته الفنية والفكرانية في سياقات مخصوصة، بصرف النظر عن تأثيراتها الجمالية في المتلقي ومدى عدولها عن المعيار المتواتر· أما حالة مالك حداد فتعد، من منظوري، حالة استثنائية جدا في السرد الجزائري، لأنها مختلفة ولها منطلقات أخرى قد نجد لها مبررا في الشاعر الذي يلزم المتخيل، في هذا الشاعر اليقظ باستمرار· يؤسس الكاتب على الصورة في كل تجاربه الإبداعية: التلميذ والدرس، سأهبك غزالة، رصيف الأزهار لا يجيب، الإنطباع الأخير، الأصفار تراوح مكانها (طبع الكتاب الأخير مرة واحدة ولم يترجم إلى العربية)· وسم هذا الخيار رواياته بتضخمات نصية تجاور خصوصيات القصيدة القائمة على عرض الحالة، حالة الأنا أو حالة الشخصية المبأرة، دون أن تكون الأحداث جوهر الحكاية أو غايتها الأولى· يمكننا، جوازا، الحديث عن السرد المسرود، ليس السرد الناقل لمجموعة من الوقائع في سرديتها، بالمفهوم السيميائي، بل السرد - الهدف· أو السرد - الموضوع بالمفهوم اللساني· ما يعني أن تحولات الفعل، على مستوى سطح الخطاب، ليست ذات أهمية مقارنة بتحولات الحالة، وهي الخاصية المهيمنة صورة وسردا· لقد راهن مالك حداد على قوة التصوير، ومن ثمة شحذ المتخيل لتقوية الرسم بعلامات مفارقة للاستعمال المتعارف عليه في أغلب النصوص الأدبية التي تتخذ الفعل السردي أداة ناقلة، ليس إلا· لقد كان اهتمام مالك حداد بالتصوير المفارق قضية فكرية وجمالية وبلاغية وفنية وفلسفية، لذلك جعله يتبوأ منطق السرد، سرده الخاص به من حيث أنه لا يتجاور مع الجهود الغيرية، ولا يتقاطع معها إلا لماما· والواقع أن هذا الجهد العقلي هو الذي سينقله من الملفوظ النثري إلى الملفوظ الشعري، لكن هذا الانتقال لا يتم عبر القنوات العادية، المساوقة للإخبار، في أشكاله وصوره ومرجعياته البلاغية، بل بتشظية المعيار الصوري وقلبه، وبمراجعة التشبيهات والكنايات والإستعارات التي تآكلت بفعل المعاودات الباهتة لاستعمالات فقدت تأثيرها،كما خفت جانبها الجمالي من التكرارالذى لا جهد فيه· لو أننا افترضنا وجود محور استبدالي للصورة وحدها، على شاكلة المحور الإستبدالى الذي يخص المعجم في مستواه الأفقي، لاستنتجنا الطريقة التي يعتمدها مالك حداد في توليد الصور وقلبها، وفى طريقة التعامل مع ثنائية المشبه والمشبه به· اللافت للانتباه أن هناك مسافة بين الأول والثاني، من حيث أن الثاني يجئ مفاجئا، غير ذي علاقة بأفق الانتظار· يتعلق الأمر ها هنا بجهد إضافي في تقوية الصورة بتحريف التوقع الفرضي وزعزعته· يتحدث بعض النقاد الجدد عن الإستعارة الحية، في مقابل الإستعارة القديمة التي أصبحت مكشوفة، ميتة إذن· ربما أدرك الكاتب الواقع البلاغي بالممارسة فعمل على تجاوز القالب بحس شاعري كبير بحثا عما هو مختلف وأصيل لتنبيه الذائقة ومسألة المرجع· لم يحدث ذاك بالشكل العبثي الذي يمكن تخيله· هناك منطق ما في طريقة السرد بالصورة المفارقة للمعيار، إذ لا مجال للحديث عن الإعتباطية، كل الأخيلة لها أسس· ثمة تصور واضح للإتكاء على سؤدد البلاغة، بل إن البلاغة تحل محل الموضوعات في سياقات سردية كثيرة، وهي بلاغة لها شخصيتها الخاصة بها، بلاغة مالك حداد خصيصا· لا أتذكر أني قرأت مؤلفات من هذا النوع، وبهذا الجهد الكبير، النادر في تاريخ كتاباتنا، مع الإشارة إلى وجود جهد آخر غاية في الأهمية، لكنه مختلف، أي أن له عالمه الخاص وفلسفته اللغوية· ربما وجدت مجاورة بين إبداعات مالك حداد وبين أشعار محمد الماغوط في سوريا، أو بينها وبين التشكيل الصوري عند كل من الأمريكي هنري ميللر واليوناني كازانتزاكي، وإلى حد ما الكاتب الألماني هرمان هيسه والقاص حيدر حيدر· لا أشير إلى المقابسات أو التناصات القريبة والبعيدة، كما يسميها الدكتور طه عبد الرحمن في كتابه أصول الكلام، إنما إلى قرابة تخييل الصورة الواخزة، دون حصول أي تأثير مباشر من هذا أو ذاك· لفت انتباهي مالك حداد عندما قارنت أعماله بالأعمال الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، ثم بالأعمال المكتوبة بالعربية، وطنيا وعربيا·لم أعثر في ذاكراتي على ما يشبه ذلك التشكيل الخارق، وفهمت وقتها أنّه كان يبحث لنفسه عن محرف للتمايز· ثم ازدادت قناعتي بذلك عندما ترجمت الإنطباع الأخير قبل سنين، كان في نيتي آنذاك أن أقدم للمتلقي نوعا أديبا قويا ومختلفا، ولم تكن الترجمة سوى إحدى الوسائل المتاحة· لا أستطيع اليوم تحديد ما يشدني إلى مؤلفات هذا المبدع، هناك أشياء كثيرة تستحق دراسات أكاديمية محترفة، أو قراءات انطباعية لا تحتكم إلى أي منهج صارم يتجاوز الذائقة والمفاضلة· هناك في هذا العالم السفلي عبقريات أدبية لا يمكن لأي منهج أن ينصفها، لأنها أكبر من المناهج قاطبة· ليس بمقدور بعض الإنضباط المنهجي أن ينقل إلى الآخر مواطن التشكيل الخارق في رواية من نوع الإنطباع الأخير، على سبيل التمثيل، لا غير· إنها عمل متقن من هذا الجانب، وليس بوسع علاماتنا اللغوية، في كثير من الأحيان، أن تعلق على هذه الجمل التي مثل اللآلئ، ولا على هذه التشبيهات التي لا نعثر لها على تكافؤات في نصوصنا أو في مخيالنا· لن أزعم أبدا بأن أدبنا مقصر لأن هناك تجارب ذات شأن كبير، وهي تجارب تمثيلية في كل الأحوال، بيد أن تجربة مالك حداد تجربة مثيرة سابقة لأوانها، إن نحن أخذنا في الحسبان عمر الرواية الجزائرية· وليس السبق سوى منتوج حصافة وخبرة ونباهة وصناعة متئدة، إضافة إلى عنصر الموهبة الذي لن يكفي، مستقلا، لكتابة عمل يصف نفسه بنفسه· أؤكد على الصناعة لأن لها علاقة ببناء الصورة وفق نزعة مغايرة، ولا يمكن من دونها أن ننسج التلميذ والدرس أو سأهبك غزالة أو رصيف الأزهار لا يجيب· أتصور أن مالك حداد كان يجلس إلى مكتبه، يخرج القلم والأوراق، يسند جبهته إلى راحة يده اليسرى ويكتب الجملة الأولى و الثانية فالثالثة والرابعة، ثم يقرأها بعينه ليكتشف أنه كتب حلازين مجففة لا دلالة لها· يشطب السطور أو يمزق الورقة، ثم يفكر بطريقة أخرى· سيفكر في أهمية العلاقات الداخلية، في جدواها وعدم جدواها، في العلاقة المباشرة بين الجملة والأخرى، بين اللفظة واللفظة، بين المشبه والمشبه به، في القدرة على قلب البناء، قلب القناعات، في محو العلاقات السببية التي تحكم السرد، في التشخيص والتشييء، في قيمة الفعل والحركة والحدث والحالة والواقع والفرضي، ثم يكتب مقطعا من هذا النوع: '' تلك الوجوه المرتابة وفي طرف عيونها سخرية لطيفة مستسلمة، تلك الوجوه السمراء الدائمة الفتوة كفواكه كبيرة سقطت من شجرة، شجرة قررت أن تزهر ثانية في أحد أيام نوفمبر''· وعليك أنت القارئ أن تبحث عن العلاقة بين الوجوه السمراء الفتية وبين الفواكه التي سقطت من شجرة، وكيف قررت تلك الشجرة أن تزهر،لم تزهر فحسب، بل فكرت جيدا واتخذت قرارها· يتعامل مالك حداد مع الأشخاص والأشياء والموضوعات والأخيلة والكلمات والجمل بعناية خاصة، ومن الصعب أن نتوقع ما سيقوله، نظام المتواليات، كيفيات الربط، القلب· انه مقتنع بعدم الإنضباط، بعدم إتباع النسيج المنوالي· مقتنع بأن عليه أن يكون هو، لا غيره· لذا سنقتنع، مع الوقت، أن ما كتبه كذلك يجب أن يكون كذلك، دون إضافة ودون حذف، لأنه جاد وشاعري، عميق ومختلف، فيه الروائي والشاعر، وفيه الفيلسوف والإنسان بمفهومه الحقيقي· يقول في أحد المقاطع: '' كان أولياء لوسيا مثل سدادات تطفو على نهر· سدادات طيبة، سدادات ودودة، سدادات ناعمة كقلب بلوط الفلين، سدادات بألف عذر، ولكن سدادات على أي حال· سدادات ببساطة، سدادات لا توجد إلا برئاسة قنينة· إنه لمن الصعب جدا التفاهم مع ناس طيبين كالسدادات، مع ناس بؤساء كزجاجة مشقوقة''· هناك تبئير سردي على المفارقة البعيدة، ما يعني أنه يبحث عنها في الجهات غير المتوقعة، بمنأى عن العلاقات الآلية التي تجعل من التشبيه دلالة مألوفة، مكررة، ليست ذات معنى من حيث أنها مستهلكة ولا تثير انتباه القارئ· سيبذل أكبر جهد على هذا المستوى تماما· لذلك نلاحظ ميل النص نحو الحالات، ومن ثمة خفوت الأفعال وركون السرد نحو هيئات قارة، من جانب النمو الحدثي· وما ظهور المعاودات اللفظية والجملية إلاّ علامات دالة على نوعية السرد· ما يعكسه هذا المقطع: '' مع ذلك اخترع لوسيا في كل مكان، بيديه اللتين تدققان على المتراس، بركبتيه اللتين ترتعدان خفية· كانت له لوسيا في كل جهة، في شعره الذي ابتل بالهواء البحري، في عينيه، تعرفون هذه العيون التي تبتل دون أن نعرف إن كان بللها ناتجا عن ريح صرصر، عن سيجارة أو عن زهرة مغتالة''· أشرنا في العنوان إلى السرد بالصورة، والظاهر للعيان أن ذلك ما كان يشغل بال مالك حداد· البحث عن الصور الممكنة لنقل الحالة أو المشهد، ومن هنا هيمنة السرد البطيء على كل أعماله الروائية، دون استثناء· المؤكد أن هناك أحداثا وأفعالا وحبكة وعقدا وحركات، لكنها تأتي في الدرجة الثانية أو الثالثة، لأن الكاتب كان منشغلا بطرائق نقلها إلى الملتقى، بالكيفية التي تبرز هذا العدول الوظيفي المتنامي· هل يمكن التأكيد على أنه أسس على انزياح الصورة؟ نعم· يبدو أن مالك حداد وجد ضالته في الشاعر الذي كانه، في هذا الجانب البلاغي الذي شحذه كثيرا ومنحه الأولوية، على حساب السرود الأخرى· بيد أن ذلك لا ينفيها ولا ينفي نمو الأحداث والشخصيات، إنها تنمو في كنف الصورة، في هذا الجهد المبذول من أجل إيجاد قرابة بين الأشياء المتنافرة، بين ما هو مادي وبين ما هو مجرد، بين الواقعي والفرضي· وهنا تكمن عبقرية المرحوم مالك حداد· أكان يكتب رواية شعرية أم قصيدة روائية؟ سؤال طرحه النقاد مرارا· أما الإجابة فستكون كالآتي: أهملنا مالك حداد، أهمله الأصدقاء والنقاد والمقربون لأنه روائي قدير وبليغ··· ومختلف· هذا هو السؤال الذي يجب طرحه على الذاكرة الأدبية· كيف حدث ذلك ولماذا؟