تُعد القارة الإفريقية القارة التي تضم أكبر عدد من مستعملي اللغة الفرنسية، فالإحصاءات تقول إن عدد الذين يتقنون اللغة الفرنسية تحدثا وكتابة يتجاوز مائة وعشرين مليون إفريقي - إحصاء 2007 - أي ما يقارب ضعف عدد سكان فرنسا.. في الجزائر الدولة الإفريقية الأكثر فرنكفونية تعاقبت أجيال كثيرة على الكتابة بهذه اللغة، من محمد بن شريف صاحب أول رواية جزائرية مكتوبة بالفرنسية سنة 1920 إلى ياسمينة خضرا الكاتب الفرونكفوني الأكثر مبيعا، ومن مالك حداد الذي سجن داخلها إلى كاتب ياسين الذي عدها غنيمة حرب، تنوعت آراء الكتاب والمبدعين الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية حول هذه اللغة وحول الكتابة بها وتلونت هذه الآراء بلون كل تجربة إبداعية. ارتأى "الفجر الثقافي" بمناسبة صدور كتاب "استقلاليات شاشا" "INDEPENDANCES CHA CHA" أن تطرح تجربة الكتابة بنفس هذه اللغة عند كتاب ذوي خصوصية ثقافية مختلفة، وهم كتاب الدول الإفريقية الأخرى، كيف يرون الكتابة باللغة الفرنسية وكيف بحثوا عن أصواتهم الخاصة في هذه اللغة. كتاب "استقلاليات شاشا" صدر قبل أسابيع قليلة في الجزائر عن دار أبيك للنشر والترجمة بنشر مشترك أجاب فيه ثلاثون كاتبا - من أربعة عشر دولة إفريقية نالت كلها استقلالها سنة 1960 - عن أسئلة تعلقت بذكرياتهم حول هذا الاستقلال وبانعكاس هذا الحدث على ما يكتبون، وكيف يرون مستقبل الأدب في أوطانهم وعن رؤيتهم وموقفهم من اللغة الفرنسية - لغة المستعمر سابقا - التي يكتبون بها. "الفجر الثقافي" اختار آراء بعض الكتاب والأدباء الأفارقة الذين تناولوا مسألة الكتابة بلغة المستعمر، مرة لاكتشاف رأيهم ومرة لملامسة الصوت الإفريقي الذي يشكل بعدا من أبعاد هويتنا الوطنية والثقافية. اختيار و ترجمة : ميلود بن علي الكاميرون أوجان ايبودي: "إن كل هيمنة تمر عبر اللغة" "في القرن السادس عشر كانت اللغة اللاتينية لغة الإمتياز. في فرنسا، هل كوّن هذا لدى الفرنسيين مرارة لم تعرف العلاج؟ إن اللغات تأتي وتذهب وغالبا ما تفرض نفسها في ظرف جيوسياسي محدد.. في قرن لويس الرابع عشر وتحت تأثير الفكر التنويري الأوروبي أزاح الفرنسي من البرامج الدراسية اللغة اللاتينية، وذلك عندما تغير الظرف التاريخي، فالممالك الأجنبية دعت شعوبها للتحدث باللغة الفرنسية لأنها وجدت لغة فيلون - شاعر فرنسي (1431 -1463) - لغة الروح، لغة الروح الجميلة. إن كل هيمنة تمر عبر اللغة، ثم ننقلها إلى الآخر. الآن ليست الفرنسية هي التي تقود الجوق، إنها الانجليزية. بعد غد المانداره - لغة صينية محكية في شمال الصين وفي الجنوب الشرقي - في انتظار اللانغالا - لغة محكية في جمهورية الكونغو الديموقراطية وفي الكونغو وشيئا ما في إفريقيا الوسطى - أو الدوالا - لغة محكية في الكاميرون - من يعلم؟. ينبغي دائما أن نحاول حفظ الجزء الذي يجب أن ننقله من هذه اللغات، إن هذا الجزء الذي يجب أن نحافظ عليه هو روح من سبقونا في هذه اللغات. اللغة الفرنسية ليست رجسا، إنها نتاج التاريخ أيضا. هي وعاء وجدته في مهدي وبجانبه وجدت أوعية أخرى: لغتي الأم مثلا التي أفقدها مع الوقت لأن استعمالي لها يقل شيئا فشيئا، اللغة تُكتسب، تُزين، تُعالج، تتطور.. صفحة 43-44 الكاميرون فرانسوا نكيمي: "كتابتي باللغة الفرنسية تفتح لي فضاء أوسع" "أكتب بالفرنسية، لكن في الكاميرون يوجد أكثر من مائتي لغة، إذن كتابتي باللغة الفرنسية تفتح لي فضاء أوسع. بالنسبة لي إذا كتبت بلغتي لن يقرأ لي أكثر من خمسة عشر أو عشرين ألف على الأكثر. الفرنسية أيضا هي اللغة الأولى التي تحدثت بها، أتكلم أيضا لغة أمي، لكني أُعبر بالفرنسية، أنتمي إلى جيل وربما لعائلة تتكلم كثيرا الفرنسية، أبي كان يحدثنا بسهولة أكبر باللغة الفرنسية لأنها كانت لغة المدرسة ولغة المستقبل أي لغة النجاح. في لحظة ما جعل والدَي اللغة الفرنسية لغة مثالية، فقد كانا يعتقدان أن التربية - التي لا يتم النجاح إلا بها - وسيلتها الأجدى هي الفرنسية، إذن لا محالة في أن الطفل الذي يتكلم الفرنسية قبل ذهابه للمدرسة هو طفل له أفضلية بالنسبة للآخرين الذين لا يتكلمون إلا لغتهم الأم.. اليوم أكتبُ بالفرنسية لأنني لا أستطيع الكتابة بلغة أخرى. لكني أشعر بالراحة لأن هذا يفتح لي فضاء لا تستطيع لغتي الوطنية أن تمسه، طبعا نفكر أيضا في عدم ترك لغاتنا تموت لأنها جزء من التراث العالمي من تراثنا المشترك الذي يجب أن نحفظه والذي لا نستطيع أن ننساه وذلك بأن أحاول أن أتكلم بلغتي مع أولادي، لكن هذا يبقى صعبا جدا لأن جيلا كاملا من الكاميرونيين شُكل بالفرنسية". صفحة 66-67 الكونغو ويلفريد نسوندي: "هناك تاريخ للغة الفرنسية لم يبدأ مع الإستعمار" "لا انتظروا، يجب التوقف عن هذا، الفرنسية ليست لغة المستعمر فقط، فيما يخصني أنا فإن الفرنسية هي اللغة التي علمتنيها معلمتيْ سان ومارن اللتان أحببتهما جدا. عندما أتكلم الألمانية فأنا لا أتكلم لغة الجلاد النازي، يجب أن نهدأ! هناك تاريخ للغة الفرنسية لم يبدأ مع الاستعمار، لكنه بدأ مع نساك هم الذين ضبطوا وصححوا هذه اللغة المكتوبة التي أصبحت فيما بعد في خدمة أغراض التوسع والهيمنة.. الفرنسية بالنسبة لي الآن في 2010 هي إحدى اللغات التي أتحدث بها، وهي أداة التواصل التي أتقنها أكثر إن تعلق الأمر بالكتابة، إذن أنا أستعملها في الكتابة، لكنها ليست لغة المستعمر! زيادة على ذبك هي لغة مسجلة في دستور مالي والكاميرون والكونغو.. هي لغة محلية في الكونغو، خاصة بالنسبة لنا نحن الذين ولدنا بعد الاستعمار، يجب أن نتوقف عن اعتبار أن لا شيء حدث منذ خمسين سنة، أن لا شيء حدث منذ ألف سنة". صفحة 96 كوت ديفوار تانيلا بوني: "لا أشعر أن هذه مأساة كبيرة" "عندما استقل ساحل العاج لم يفعل ما كان يجب فعله، وهو اختيار إحدى اللغات الوطنية وفرضها كلغة رسمية. طبعا هناك لغات محكية، كالديولا مثلا والنوشي اللغة المحكية والمغناه من طرف الشباب المتمدنين. نعم كانت هناك تجارب لتدريس بعض اللغات المحلية لكن هذا لا يكفي في الحقيقة. أستعمل الفرنسية لأني أحتاج لها، فأنا لا أملك لغة أخرى أستطيع الكتابة بها. لا أشعر أن هذه مأساة كبيرة لأني أكيف لغة الآخر على حسب مخيالي الخاص. قد أستطيع الكتابة بلغة استعمار آخر، وهي اللغة الإنجليزية المعروفة عالميا لكن يلزمني تمرين أكثر. الفرنسية هي لغة الكتابة عندي لأني بهذه اللغة درست المراحل التعليمية الأولى والجامعة، وأنا الآن أستاذة جامعية أدرس وألقي محاضراتي باللغة الفرنسية. هذا يخلق عادات في التفكير وفي الكتابة، لكن هناك شيء أساسي ينقصن : انها لغتنا الأدبية الخاصة بنا." صفحة 105-106 الغابون جوستين مينستا: "اللغة الفرنسية هي أيضا فضاء للحرية" "اللغة الفرنسية هي حبل نجاة بالنسبة لنا في الغابون، أنتم تعرفون أنه في بلد صغير مثل الغابون - يحصي بتضخيم الأرقام مليون ونصف مليون ساكن - هناك أكثر من أربعين لهجة محلية التي لا يستطيع متحدثوها أن يتواصلوا. إذن بفضل اللغة الفرنسية - يجب أن نقول هذا- أصبح هذا التواصل ممكنا، لكن الفرنسية التي نتكلمها ليست فرنسية موليير، إنها الفرنسية الغابونية التي تتماهى مع مجازاتنا و مع كل رموزنا الشفوية. إنها لغة جديدة اخترعناها لنكيفها على حسب حاجاتنا الثقافية، أجد هذا رائعا. اللغة الفرنسية هي أداة أيضا للوحدة بفضلها يمكننا أن نوجد معا وأن يعرف كل واحد منا ما يجري عند الآخر. ككاتبة، أجد أحيانا تعبيرا جميلا أثناء عملي الإبداعي، تعبير جميل في لغتي أعجز عن نقله إلى الفرنسية. كيف يمكنني أن أتجنب هذا؟، أجرب أن أتجنبه أن أحاول إعادة تشكيل اللغة الفرنسية الأصلية قد يجعلها هذا تعاني، وأعرف أنني هكذا أفقد شيئا من الألق لكني بهذه المحاولة أدخل اللغة إلى واقعي. هذا هو التمرين الذي يعجبني أكثر.. أتحرر عندما أتكلم هكذا، قد يقول المنتقدون: "لكن ليست هته لغة فرنسية"، وهذا لا يصنع عندي فارقا لأني أشعر حقا أني متخمة، أنا متحررة، سعيدة ولم يعد هنالك هذا الإحساس بالإحباط. إذن اللغة الفرنسية هي أيضا فضاء للحرية". صفحة 124 بوركينافاسو سايوبا تراووري: "أرأيتم عمق الإحتقار؟" ".. في إفريقيا تجد البعض يتكلم بسهولة ثلاث، أربع أو خمس لغات. المشكل ليس اللغة، المشكل هو ما تحويه هذه اللغة، ما تقوله. الكلمات هي كتل والأهم هو أي نكهة لهذه الكتل، هل هي حارة؟ ما الذي تقوله عني؟ ما الذي تقوله عن الآخر؟ هل المُخاطِب في اللغة الفرنسية يضع نفسه في المشهد والآخرين هم في خدمته؟ كيف ترغبون في أن أتوجه إليكم ونحن لا نتكلم اللسان نفسه؟ أين هو المشكل؟ ببساطة لقد تعلمنا أن نحط من قدر القيم ومن ثقافة الآخر. لقد قيل إن ما كان في إفريقيا هو اثنيات وقبائل بلهجات محلية وليس لغات. لم يسموها حتى لغات عامية بل مجرد لهجات.. إن لغة مثل البامبارا على سبيل المثال - لغة وطنية في مالي واللغة الأكثر شيوعا في غرب إفريقيا - هي لغة يتكلم بها الملايين المتوزعين على ملايين الكيلومترات المربعة. كيف لبلد من ثلاثين مليون نسمة، مثل فرنسا، في عهد الإستعمار مع لغة فرنسية يتكلمها ثلاثون مليون إنسان فقط أن تقول عن لغة، مثل البامبارا التي يتكلمها قرابة الخمس مائة مليون نسمة أنها لهجة؟ باسم أي تفوق؟ الأمر أسوء من هذا فمنذ أكثر من سبعمائة سنة والأوروبيون في أرضنا، لقد بقوا عندنا كل هذا الوقت وعندما غادروا فعلوا ذلك دون حتى أن يقولوا كلمة واحدة عن لغاتنا نحن ! أرأيتم عمق الاحتقار؟! صفحة 35 مالي أوسمان ديارا: "أنا أناضل لأجل أدبي الخاص فقط" "كنت أود لو أطبع في الفرنسية إيقاع ونبض لغتي، وهذا ما أحاول فعله عبر ما أكتبه، بغض النظر عن هذا أنا أستطيع أن أكتب بالفرنسية أو بلغتي الأم، أنا لست في موقع مناضل، أنا أناضل لأجل أدبي الخاص فقط، لأعبر عن نفسي أنا. أناضل لأجل اللغة لكن عندما أجد الوقت لذلك. حاليا أنا أكتب، أكتب بأي لغة كانت، تعلمت الكتابة في المدرسة باللغة الفرنسية وليس بالبانبارا، هذه اللغة الفرنسية هي التي ساهمت بقدر كبير في تكوين رجل الثقافة البامبارية الذي أكونه". صفحة 142 موريتانيا بيروك: "حول هذه الغنيمة أقمت خيمتي أين تسكن مخيلتي الآن" "الفرنسية لم تكن أبدا عندي لغة المستعمر، هي لغة اكتشفتها مبكرا، أحببتها، لم أحس أبدا بحاجز بيني وبينها. قرأت أول رواية لي وأنا في الثانية عشر من عمري وأحببتها فعلا، لأن هذه الرواية كانت رواية "البؤساء" منذ ذلك الوقت وأنا أكن حبا منقطع النظير لفيكتور هيغو. هذا لم يمنعني من أن أحب الشعر العربي، قدماء الشعراء، المعلقات، الشعر الجاهلي، هذا لم يمنعني من أن أجد شعر نزار قباني شعرا رائعا. اللغة الفرنسية ليست نتاج الإستعمار بل بالعكس هي نتاج الحرية، فرنسا ليست فقط مستعمرة إنها أيضا فولتير، روسو، أراغون. الفرنسية ليست لغة الإستعمار، المستعمرون لم تكن لهم لغة، كانت لهم بنادق.. وإدارة، الفرنسية هي غنيمة ظفرناها، حول هذه الغنيمة أقمت خيمتي أين تسكن مخيلتي الآن. عندما أكتب باللغة الفرنسية فأنا لا أترك على الإطلاق ثقافتي، أنا أعطي مفردات جديدة للعناصر المكوِّنة لها، أعيد تسميتها، هذا الاسم الفرنسي الذي أعطيه لشيء ما أو لفكرة ما لا يظهر لي على أنه استعارة فقط بل أراه إبداعا في كل مرة أستعمله فيها. عندما أكتب ثقافتي باللغة الفرنسية أنا أعيد إبداع هذه اللغة أيضا لأني أكتب لغتي الخاصة. لا أحس أبدا أني متشظ، لا يوجد انفصامٌ ما، أقترب من اللغة الفرنسية كما أقترب من ثقافتي أو من اللغة العربية".