طلعت علينا صحيفة الوطن، كعادتها، بمقال في عدد 03 / 09 / 2008 هاجم فيه دعاة العربية والتعريب والعربية، واعتبرها سبب مآسي الجزائر. وأن استقلال الجزائر أتى به الفرنكفونيون، وأن أمل الجزائر في الفرنكفونية واللغة الفرنسية، ووصل به العدوان إلى أن تطاول على أبي النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس فشتمه بل وخوّنه، ولا يضير ابن باديس ولا العربية أن يهاجمها الفرنكفونيون فإن باديس هو القائل: »لو أن فرنسا طلبت مني أن أنطق بالشهادة فأقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لما نطقت بها«. * وأحبّ أن أوضح أنني أرأس جمعية وطنية تضم سائر الاتجاهات منذ 1989، ولا تنتمي لحزب، تنتمي فقط للهوية الوطنية، ولمفتاحها المتمثل في اللغة العربية، وأنا بهذا المقال لا أدافع عن حزب أو زعيم حزب، وإنما أدافع عن لغة البلاد. هذه الصحيفة سبق لها أن طلعت علينا في عدد 26 / 08 / 2008 وصفت فيه مناصري اللغة العربية بأنهم شياطين، وهكذا صار الشياطين ملائكة والملائكة شياطين في عرف اللوبي الفرنكفوني. وأود أن أرفع أي لبس فأقول، نحن لسنا ضد مستعملي اللغة الفرنسية الوطنيين أمثال مالك حداد، وإنما ضد الفرنكفوني الجزائري المتنكر للهوية الوطنية وللغة الوطنية. أولا: يقول كاتب المقال »رواد الوطنية الجزائرية كانوا من الفرنكفونيين ساردا قائمة طويلة«. الحقيقة التاريخية هي أن الذي أتى بالاستقلال هو الريف الجزائري، وأن الأمير خالد في العشرينيات من القرن الماضي في مراسلة لصديقه التقدمي الفرنسي سبيلمان قال: »لا أمل في سكان المدن، أمل خلاص الجزائر في الريف والفلاحين«، وقد تحققت نبوءته في ثورة أول نوفمبر. فجيش التحرير الوطني تألف في سنواته الثلاث الأولى من عنصرين لا ثالث لهما، من الفلاحين البسطاء كجلود، مؤطرين بطلاب اللغة العربية، من مدارس جمعية العلماء، ومدارس حزب الشعب العربية، والزوايا، وحفظة القرآن الكريم وأن المحافظة السياسي للجيش الذي يحفظ حزب »عمّ...« يجند الجماهير أفضل من حامل الدكتوراه، من جامعة السربون. وأن الذي حقق الاستقلال هم الفلاحون الذين بقوا محصنين في الثقافة الشعبية الوطنية بعيدين عن ثقافة المدينة التي لوثتها لغة المستعمر وثقافة المستعمر، فأسرتي مثلا من الفلاحين، والدتي أنجبت ستة: ولدين أحدهما مات شهيدا والثاني مجاهد، وأربع بنات إثنتين منهن أرملتا شهيدين وأن البنتين الأخريين لم تترملا لأنهما كانتا من سكان المدينة. وابتداء من سنة 1958 وقع الانحراف عندما تجمع المفرنسون في الحكومة المؤقتة بالقاهرة فكونوا نواة لإدارة الدولة الجزائرية باللغة الفرنسية، بينما نجد الفيتناميين في منفاهم بالصين كونوا إدارة باللغة الفيتنامية، وانتهى المطاف بهذا الانحراف أن وقعت اتفاقيات إيفيان بنص واحد هو النص الفرنسي، مثل الوفدين الفرنسي والجزائري، بينما نجد الفيتناميين وقعوا اتفاقيات جنيف سنة 1954 التي أنهت الاستعمار الفرنسي ببلادهم بنصين النص الفيتنامي ومثل الوفد الفيتنامي والنص الفرنسي ومثل الوفد الفرنسي. عاد الجنرال ديغول للحكم في نفس السنة التي تأسست فيها الحكومة المؤقتة سنة 1958، فجمع وجوه السياسة وقال لهم: »الجزائر مستقلة لا محالة، ينبغي أن نفكر في الطريقة التي نضمن فيها بقاء الدولة الجزائرية المستقلة في الفلك الفرنسي، ما رأيكم؟«. قال أحدهم بإقامة قواعد عسكرية فرنسية بالجزائر، وقال آخر: بتطوير مشروع قسنطينة لربط اقتصاد الجزائر المستقلة بالاقتصاد الفرنسي. فأجاب ديغول ذو العقل الاستراتيجي: »لا هذا ولا ذاك، لنحافظ على بقاء اللغة الفرنسية، لنضمن أن تكون الدولة الجزائرية في الفلك Orbite الفرنسي«، ثم أمر بأن توسع بروموسيون لاكوست التي كونت خمسة وثلاثين ألف (35000) شاب في مراكز إدارية فرنسية ليخلفوا الأقدام السوداء بالإدارة ويضمن بقاءها مفرنسة. وعاد صناديد الحكومة المؤقتة من القاهرة بمن فيهم الماركسيون والتروتسكيون محصنين في الفرنسية، لم يستغلوا وجودهم بالقاهرة مدة أربع سنوات فيتعلموا العربية بل تعلم بعضهم بالقاهرة الإنجليزية والإسبانية دون التفكير في تعلم لغة الشعب الجزائري. عادوا للجزائر سنة 1962 فوجدوا أنفسهم يعزفون على نغم نشاز واحد مع عناصر بروموسيون لاكوست الذين تركهم ديغول وراءه. وأنا لا أشكك في وطنية هؤلاء الصناديد، ولكن أقول أنه تحت تخدير اللغة الفرنسية فسروا الاستقلال تفسيرا سطحيا يتمثل في العلم والأرض بلا هوية وبلا لغة التي تعتبر مفتاح الهوية الوطنية. وتأسست بذلك الدولة الجزائرية الفرنكفونية. ثانيا: يشير كاتب المقال إلى أن الفرنكفونيين ثوريون. والتاريخ يقول بأن أعظم ثورتين عرفهما القرن العشرون هما ثورة الجزائر وثورة الفيتنام، ولا يمكن لأي ثورة أن تعتبر نفسها ناجحة إلا إذا حققت هدفين: تحرير الأرض وتحرير الذات. الفيتناميون حققوا الهدفين بالفتنمة الفورية الشاملة التي يسميها كاتب المقال المتوحشة. انطلاقا من مقوله (هو شي مينه) في وصاياه لمواطنيه عندما أصدر أمره بالفتنمة الفورية والشاملة: »حافظوا على صفاء اللغة الفيتنامية كما تحافظون على صفاء عيونكم...«، ومن مقولة الرجل الثاني في الثورة فام فان دونغ: »إن اللغة الفيتنامية عبرت عن الثورة الفيتنامية ورافقتها وكبرت معها«. أما الثورة الجزائرية فقد أجهضها المفرنسون فحققوا تحرير الأرض فقط دون تحرير الذات التي لازالت تحت الاستعمار حتى الآن. انطلاقا من المقولة المشؤمة للكاتب الماركسي كاتب ياسين: »الفرنسية غنيمة حرب«، والحقيقة أن الجزائر المستقلة كلها تحولت إلى غنيمة حرب بين أيدي الفرنسيين عن طريق هيمنة اللغة الفرنسية على الدولة الجزائرية، فالميزان التجاري الجزائري الفرنسي وعلى طول سنوات الاستقلال كان دائما لصالح فرنسا، بسبب الفرنسية. العالم كله يشهد أن العلم والتكنولوجية والاقتصاد بالجزائر مفرنسة وغير معربة، وأن المعربين متواجدون بمدارس التعليم العام فقط، ومؤسسة التعليم العام هي الوحيدة التي تعمل في الجزائر بصورة طبيعية، والدولة الجزائرية مفلسة بالفرنسة لا بالعربية، فإحصائية 2006 تقول بأن الفيتناميين صدروا مواد صناعية وزراعية بالفتنمة بما قيمته ستة وعشرون مليار دولار خارج المحروقات، وأن الجزائر بالفرنسة صدرت في هذه السنة خارج المحروقات بما قيمته ستمائة مليون دولار ثلثها خردة حديد ونحاس من الكابلات الهاتفية والكهربائية المسروقة. ومقياس أي بلد هو ماذا ينتج وليس كيف ينطق الراء غينا... كل ماركسيي العالم كانوا مع لغتهم الوطنية ماعدا الماركسيين الجزائريين. ثالثا: اللغة الوطنية هي غرفة الوطن، تكون مجهزة بنوافذ: نافذة اللغة الفرنسية، ونافذة اللغة الإنجليزية، ونافذة اللغة الإسبانية، ونافذة اللغة اليابانية، ونوافذ أخرى للغات العصر، يدخل من هذه النوافذ ما يستجد من أبحاث فتترجم على الفور وتنشر باللغة الوطنية في دوريات توضع بين أيدي الإطارات والباحثين. وهذا هو الوضع السوي الذي يسير عليه اليابانيون والصينيون والفيتناميون وغيرهم والفرنسيون والألمان. لكن مأساة الجزائر أن اللوبي الفرنكفوني أراد للجزائر أن تكون أسيرة لنافذة من هذه النوافذ وهي اللغة الفرنسية، وألا تقيم كالأمم الأخرى في أرض غرفة الوطن. علم العصر يمر في الأمم بين ثلاث مراحل: مضغ وهضم وتمثّل، يمكن لأمة أن تمضغ علم عصرها بلغة أجنبية، يمكن لها أن تهضم علم عصرها نصف الهضم وليس الهضم كله بلغة أجنبية، لكن لا يمكن لها أبدا أن تتمثل علم عصرها إلا باللغة الوطنية، والذي يؤكد هذه الحقيقة هو أن الطلبة الجزائريين الذين يشاركون في المسابقات الدولية في الرياضيات يفوز فيها طلبة المدرسة العليا للأساتذة بالقبة لأنهم يدرسون بالعربية. في الثمنانينيات من القرن الماضي صرح مدير كلية جراحة الأسنان في باريس »بأن كليته يأتيها طلاب من سائر البلدان العربية، وأن أفضل طلاب يكتسبون العلم بسهولة هم الطلبة السوريون لأنهم درسوا الطب بلغة الأم بالرغم من ضعفهم في اللغة الفرنسية مقارنة مع الطلاب الآتين من شمال إفريقيا«. إن فشل البحث العلمي في الجزائر متأتٍّ عن فرنسة العلوم والتكنولوجيا، وكاتب المقال نشر مقالا عن إفلاس البحث العلمي في جريدة الوطن بتاريخ 16 / 08 / 2008. حاول الوزير الأسبق على بن محمد إدخال اللغة الإنجليزية للتعليم وذلك بجعلها مع الفرنسية تدرس في السنة الرابعة الابتدائية، مع ترك الخيار لأولياء التلاميذ أن يختاروا إحداهما لتعليم أبنائهم، وقام اللوبي الفرنكفوني بالتآمر عليه فسرب امتحانات البكالوريا للشارع، فأعفي الوزير، وألغي قراره، وبقيت الفرنسية وحدها. رابعا: يذكر كاتب المقال وغيره من الفرنكفونيين أنهم يستعملون لغة فولتير، والحقيقة أنهم يستعملون لغة لاكوست، لأنهم معادون للغة العربية، نحن هم الذين نستعمل لغة فولتير، لأننا نقرأ بالفرنسية ونكتب بالعربية، فنحن ظاهرة طبيعة للثقافة. ثم إن الشبان بل والكهول الجزائريين الذين وبعد ست وأربعين سنة من الاستقلال لم يفقهوا العربية ولازالوا يكتبون بالفرنسية ويتخذون موقفا معاديا من لغة البلاد والعباد مشكوك في سلامة نواياهم الوطنية. فالسيد ميشيل فيشيه رئيس الجمعية العامة لمستعملي اللغة الفرنسية (AGULF) يقول: »إن اللاوطنية بالنسبة للوطن هي نفسها مسخ الشخصية بالنسبة للفرد«. "La denationlisation est a un pays ce que la depersonnalisation est a l'individu" ويعني مسخ الشخصية اللغوي. ومعنى هذا أنه يضع كل متنكر للغته الوطنية في مستوى واحد مع الخيانة العظمى. ولا ندري في أي خانة يوضع من كتب مقالا في صحيفة الوطن بتاريخ 26 / 08 / 2008 فلقب أنصار العربية بالشياطين، وأنصار الفرنسية طبعا بالملائكة. وفي أية خانة يوضع كاتب المقال عندما يقلل من وطنية عبد الحميد بن باديس أبي النهضة الجزائرية ويسبّه ويشتمه. وأحب أن أوضح له بأنني مناضل في حزب الشعب الجزائري، درست في مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأن الوطنية الجزائرية عملة لها وجهان: حزب الشعب الجزائري من وجه، وجمعية العلماء في الوجه الآخر، حزب الشعب هو سيف الوطنية، وجمعية العلماء ضمير الوطنية. وكاتب المقال والفرنكفونيون يحقدون على إبن باديس وجمعية العلماء لأنها حافظت على العربية وأبقتها حيّة حتى عهد الاستقلال. خامسا: لم يتخد الفرنكفونيون الجزائريون الفرنسيين كمثل أعلى في الدفاع عن لغة وطنهم، شعار الثورة الفرنسية: »اللغة الفرنسية هي فرنسا«. الكاتب الفرنسي جيلبير كونت عضو الأكاديمية الفرنسية في مقال نشره بجريدة لوموند سنة 1978 تحت عنوان: »اللغة هي الجنسية«، يقول عن الانفتاح الذي يردده الفرنكفونيون عندنا: »كل انفتاح على العالم يفرض أولا ثقة في النفس راسخة ووطيدة، إن اللغة هي الجنسية نفسها، هي الوطن حيّا ومنغما في ذات كل واحد منا«. الرئيس ميتران يعلق معتزا بالقوانين التي وقعها لحماية اللغة الفرنسية فيقول: »كلها تهدف إلى الاستعمال الحسن للغة الفرنسية le bon usage« وسئل شيراك خصمه السياسي عن رأيه في هذه المقولة الجميلة فأجاب: »هذا غير كاف، كان المفروض أن يقال: الاستعمال الجميل للغة الفرنسية le bel usage«. الثورة الفرنسية أصدرت قانون تعميم استعمال اللغة الفرنسية سنة 1794 ينص في مادته الثالثة على ما يلي: »كل من يوقع وثيقة بلغة غير الفرنسية يطرد من الوظيف ويسجن ستة أشهر«. احتفلت فرنسا سنة 1994 بالذكرى المائتين لهذا القانون، فأصدرت قانون »حماية اللغة الفرنسية« الذي أخذ اسم »قانون توبون« نسبة إلى وزير الثقافة الفرنسية الذي كان وراء صدوره. الفرنسيون الأصلاء يستعملون الفرنكفونيين الجزائريين لكن لا يحترمونهم، يروي جون لاكوتير المستشار والصديق للجنرال ديغول أنه قال له: »لماذا لا تحترم فرحات عباس؟ فهو بشبهك، إنه رئيس للحكومة الجزائرية بالمنفى وأنت كنت رئيسا للحكومة الفرنسية بالمنفى«. فأجاب ديغول: »ثلاثة أشياء تجعل البون شاسعا بيني وبين فرحات عباس: أولا: أنا لم أبحث عن هويتي في المقابر، ثانيا: لم أتزوج بعدوة أي بألمانية، ثالثا: لم أخاطب شعبي بلغة عدوي«. مع تقديري لفرحات عباس، فقد كان وطنيا مخلصا، كان محبّا للغة العربية، كلما خطب اعتذر للناس بأنه لا يحسن العربية، وأحيانا تدمع عيناه. إن فرحات عباس ليس فرنكفونيا، وإنما هو مفرنس يستعمل اللغة الفرنسية كما يستعملها وطنيو جيله دون معادة للعربية. الخلاصة: لك الله يا شعب الجزائر، قدمت الملايين من أبنائك شهداء في حروب المقاومة وفي ثورة التحرير دفاعا عن كرامتك وهويتك ودينك، ثم يأتي بعد ست وأربعين سنة من استقلالك الاندماجيون الجدد كما سماهم المناضل عبد السلام بلعيد يتهجمون على لغتك، وعلى أبي نهضتك عبد الحميد بن باديس، ويدافعون عن خطة الاستعمار الفرنسي الجديد. لكن تأكد يا شعبنا المجاهد أنه لن يفلح من تنكر لهويتك ودينك، وستنتصر لغتك العربية، على الفرنكفونية العميلة، فثمانية ملايين تلميذ وتلميذة، من أبنائك هم الآن في قلعة هويتك: المدرسة الوطنية، هم بمثابة المدحلة التي ستسحق كل متآمر على لغتك وعلى هويتك وعلى دينك وعلى تراثك المجيد، يحاول الفرنكفونيون التآمر على القلعة المذكورة التي أخرجت وتخرج الملايين لحماية لغتك وهويتك، لكنهم فاشلون في تآمرهم، فلن ينالوا منها، فكيدهم سيعود إلى أعناقهم