الحفر.. التفكيك.. القلب.. الإبدال ..الإزاحة.. الإحلال وسوى ذالك من مترادفات "الكتابة والاختلاف" التي كانت تكتنف الجهاز المفاهيمي لمقالات ودراسات بختي بن عودة، التي كنت أتابعها بالملحق الثقافي لجريدة "الجمهورية" الذي كان يشرف عليه هو شخصيا، والحقيقة أني واجهت في البداية صعوبات جمة في استيعاب وتمثل البواطن التي تحيل إليها وعليها هذه اللغة الإصطلاحية العميقة الغائرة التي ينبني عليها مفهوم الكتابة عند "جاك ديريدا" الذي كان يشكل مرجعية مركزية لدى بختي بن عودة بجذورها اليونانية فيما يتصل (باللوغوس اليوناني). الدليل الواحد الذي أقامت عليه العقلانية الغربية مسارها النقدي والأنطولوجي، والتي ناهضها ديريدا انطلاقا مما وفرته له محمولات الخطابات الفلسفية النيتشوية والفرويدية والماركسية التي أقرت جميعها على التصدي لمطلق الدليل الواحد في سرديات التراث الغربي الكلاسيكي، رغم أن ثوريتها هذه في منحاها الإبستمولوجي لم تبلغ ما بلغته التفكيكية في الإجهاز على تجربة (اللوغوس) أو الدليل الواحد في آلياته المركزية عن طريق ما يسميه ديريدا (الإمحاء الإيجابي)، وهي صعوبة سرعان ما تجاوزتها عبر القراءات المتعددة واللقاءات الدورية التي جمعتني بهذا الناقد والباحث المتميز الذي إستطاع في ظرف زمني قصير فتح مجهول الكتابة النقدية على آفاقها المتعددة، من خلال تسلحه بفلسفات نيتشة وهايدغر وديريدا وموريس بلانشو وفيليب سولزر، في مزج إبداعي يستحيل أن نجد له مثيلا ضمن حقول البحث والدراسة في الثقافة الجزائرية، ربما إذ إستثنينا تجربة أحمد بوعلام دلباني في السنوات الأخيرة على صعيد النقد الثقافي، مستحضرا في ذاته الثقافية كل ما يخص ثورية النقد التفكيكي في اعتداده بنسبية المعرفة ورفضه المطلق وجود قراءة صحيحة واعتبار أن كل القراءات هي نوع من (إساءة القراءة)، كما يقر بذلك ديريدا وكشفه لأوهام العلمية والصرامة التي قام عليها التراث الفلسفي الغربي، مثلما هو بارز لدى الشكليين الروس أو جيرار جينيت أو جون كوين أو غريماس، طالما أن التفكيكية ليست نظرية بل هي مجرد تصور أو رؤية، والذي التمس فيها بن عودة قول ما لم يقل كنسق ثقافي إجرائي وليس كحقيقة معاشة، وهو الذي يختزن في كينونته عربيته التي لا تخفى على أحد ولم تمنعه من أن ينزل ضيفا من موقع المحاور بدل المتلقي السلبي المنسجم مع ذاته التواقة إلى مزيد من إثارة الأسئلة ومع محيطه العربي والمغاربي بامتداداته الأرو متوسطية على فكر الحداثة، وما بعدها الذي تبلور في أفق البنيوية والمدارس النقدية الجديدة، وبصفة خاصة لدى فلاسفة ونقاد، على غرار رولان بارت وفيليب سولزر وتودوروف وغيرهم، وما تحيل إليه حفريات ميشال فوكو فيما يسميه (كينونة اللغة) والتي تنطوي عليها معظم بنيات الخطاب الفلسفي لديريدا وجيل دولوز في ( الكتابة والتكرار والتناثر والإختلاف والتشتيت والبعثرة والتحيين وغيرها)، أوبعبارة أخرى فالغرب عند بختي بن عودة التنويري المعرب المزدوج اللغة، ليس فقط (أوساريس) أو السفاح (بوبون)، إنه أيضا هذه العائلة الكونية من تودوروف إلى رولان بارت ونيتشة وموريس بلانشو، صاحب كتاب "كتابة الكارثة"، والذي قرأمن خلاله بن عودة (اللحظة الجزائرية) في مقاله الشهير اللحظة الجزائرية بين قدر المعنى وواجب المفهوم) بكل دلالاتها الثقافية والمجتمعية والحركية لتفكيك مكونات الواقع وقد انعدمت فيه القوى التي تشده إلى القاع بنفس الدهشة التي أو قعته في (علامية) بارت وغريماس وجوزيف كورتيس لاستقراء منطوق (التبيين) بالعودة إلى مفهوم (السمة) عند الجاحظ، كمعادل موضوعي لما أصبح يسمى بعلم العلامات أو (العلامية)، وهذا ما نلمسه في افتتاحية مجلة التبيين وهو يرأس تحريرها، ثم ذالك القلق الأنطولوجي، وهو يقرأ (الجزائرالجديدة) (كمدونة ثقافية وتاريخية وسوسيولوجية من وهم الدولنة إلى رج الكبوتات)، مثلما يرى فيما يسميه (التأزم البنيوي للمجتمع وهو محتار في شؤونه وظلال المعارك الفاصلة بين دور العقل - النخبة - الإيديولوجيا) - رنين الحداثة - ص 139- هنا يأخذ بختي بن عودة موقع هايدغر وخوف هايدغر على ألمانيا من التشتت وخوف بن عودة على الجزائر من التمزق والضياع، خاصة أنه كتب هذه المقالات في عز الأزمة الأمنية من تسعينيات القرن المنصرم، حيث انسحاب مؤسسات الدولة الشبه كلي من الحياة العامة ولذالك ظل سؤال (الكينونة والوجود) يسكنهما كالوجع المزمن، واستطاعت ألمانيا النهوض أكثر من مرة من كبواتها، وهكذا هي الجزائر تعرضت لأكثر من محاولة إضعاف ولكنها ظلت مميزة الحضور كالعنقاء سرعان ما تخرج من رمادها. وليس من شك في أننا حين نعيد قراءة المنجز النقدي لبختي بن عودة الذي نشر بعضه والبعض الآخر لايزال متناثرا ومتباعدا في بطون المجلات والدوريات العربية، فإننا نقرأ مقدمات أو نواة لمشروع نقدي كان يمكن له أن يرمم بعض فجوات النص الإبداعي الجزائري ومساحات تمفصله القاعدية، ومن ثم اكتشاف قواعد (إنتاجية نصية) بتعبير جوليا كريستيفا لا على شكل متواليات أوارتدادات ماقبلية على النص كوصفة جاهزة وإنما في صورة إعادة إنتاج (وإمحاء إيجابي) بالمعنى الذي أشار إليه ديريدا أو(كتابة محو) بتعبير محمد بنيس، تعمل على فتح منافذ النص والإبقاء عليه قابلا للقراءة المستمرة المتعددة النواحي والأبعاد بما هي (قراءة مزدوجة) على رأي عبد الكبير الخطيبي، لا نتمكن قط من الإنتهاء منها واستنفاذ أسئلتنا اللاشعورية حولها ضمن دائرة (التعاضد التأويلي للنصوص) مثلما يسميها أمبيرتو إيكو التي أصبحت الموجه الأساسي لتيار التفكيك في النقد الذي كرس له بن عودة كل جهوده بواسطة (إزدواجية الرؤية) أوما يسميه ديريدا (الجلسة المزدوجة) لولا أنه طموح انتهى به المطاف وهو في أول الطريق ولم يكتب له التجسيد الأمثل، هذا فضلا عن جهوده في حقلي الترجمة والشعر الذي كان مقلا فيه بالنظر للكتابة النقدية التي أخذت حيزا واسعا من تجربته في الكتابة عموما ولا بأس هنا أسجل في هذه الورقة - الشهادة أن (بختي بن عودة الإنسان )، كما يعلم كل من عرفه عن قرب، كان رجلا متواضعا إلى أبعد الحدود وكريما وسخيا حتى مع أولئك الذين كان يختلف معهم إيديولوجيا وثقافيا أو الذين ناصبوه العداء المجاني فقد تسنى لي شخصيا أن أقرأ في بيته بأعالي عمارة سان شارل بوهران، رفقة الصديقين عبدالله الهامل ومحمد بن زيان عددا من العناوين المهمة لرموز فكرية اكتشفتها لأول مرة، على غرار الخطيبي وديريدا وجيل دولوز وميشال فوكو، ولولاه ما كان يمكن لي أن أتعرف عليها أو على مجهول الكتابة لديها أو أن أفر من أطواق مركزية (المؤسسة الذوقية) للمركز التراثي المتمسكة بأصولية رفض الآخر تحت حجة الإستقلال والمحافظة على ما هو موجود لدينا، حتى وإن كان هذا الموجود هو الوجه الآخر للطمأنينة العمياء بإنتفاء الحلول والبدائل ضمن مجادلات عقيمة لتأصيل، أو ما يشبهه لا يحقق من التراث كنظام إلا بعض النتائج الهزيلة عبر مجادلات عقيمة عادة ما تختفي فيها الأفكار وحوارية النصوص لتستبد المحفوظات وثقافة الإجترار الممل برغبة التفكير والحفر والمساءلة الجذرية المحايثة لما هو متداول لدينا من معلومات عامة يعمها التسطيح والتراكم، جنبا إلى جنب مع قيم التماثل والإجترار كقناع ليس إلا دون إضافات أو إختراقات شكلية على الأقل. الكاتب قلولي بن ساعد ما أتذكره عن بختي الذين لم يعرفوا بختى بن عودة لن يتحسروا كما نتحسر نحن الذين جمعتنا به الحياة، وتحدثنا معه، وتقربنا منه، وتبادلنا معه الكلمات والأحلام والأفكار. ربما لا يعني لهم بختى بن عودة إلا ذلك المثقف الذي اغتيل في سنوات الدم والعنف، شأنه شأن العشرات من المثقفين والفنانين والصحافيين لا غير، وأنه ذهب ضحية كغيره من الضحايا في تراجيديا بلد لم يعرف بعد طريقه للتقدم والخلاص.. الآن بعد كل هذه السنوات الطويلة على رحيله، لم يبق للرثاء أي معنى أو دور ولم يعد محبذا بالنسبة لي على الأقل رثاءه، ولكن التذكير بخصاله الحميدة، فأنا أتذكر فقط أنني بكيت كثيرا يوم سمعت خبر مقتله، وهو الذي كان قد كلمني قبل تلك الحادثة الأليمة بأسبوعين فقط لأحضر ملتقى عن القصة القصيرة بوهران.. فلقد بقي صوته يرن في أذني ووجداني بصخب وألم بقيا يلازمانني لوقت طويل.. ما أتذكره عن بختي هو سماحته الفذة التي لم يكن لها مثيل، حيث لم يكن يعاديه إلا أصحاب النفوس العليلة أي الذين يغارون من فكره وثقافته، ومما يعتقدونه نجاحا وشهرة كسبها بدماثة أخلاقه وسمو روحه وكبر عقله وجمالية نصوصه وعمق دراساته، ومع ذلك كان يسامحهم باستمرار، ولم يكن يدخل معهم في سجالات عقيمة أو خصومات تافهة ربما لأنه كان يعيش عاليا في السماء وهم ملتصقون بالأرض على منوال ما قاله نيتشه: "أنظر للأرض لأنني أحلق عاليا". كما أذكر روحه الكريمة التي لم أبصرها عند غيره من الكتاب الجزائريين، فهو يمكنه أن يبقى لساعات وساعات طوال وهو يتحدث معك بكرم كبير عن الفكر والشعر والفن دون أن يشعرك بالاضطهاد، كما قد تشعر به مع غيره ممن يحبون استعراض المعلومات دون ثقافة حقيقية. كان الاستماع إليه من جهتي عرسا ثقافيا بالفعل وكنت أستلذ تلك البهجة التي تقطر من عقله وهو يتحدث دون نرجسية مضخمة عن آخر الكتب التي قرأها، لقد كان رغم بؤس ظروفه الحياتية سعيدا في عالمه الخاص وفردوسه المتميز. ما أتذكره عن بختى هو هشاشته، والتي كانت تجعله يتأثر بالكلمات الحسنة كما السيئة ويتألم لأبسط النعوت المؤذية، كما لأبسط كلمات الثناء التي تقال بحقه. لا أذكر متى بالضبط تعرفت عليه، ولكن كنت طالبا بالجامعة المركزية معهد الآداب، وأعمل في عدة صحف متعاونا في الأقسام الثقافية بأجر زهيد للغاية لا يسعف في أي شيء، ومرة سمعت بمحاضرته التي سيلقيها بالجاحظية فذهبت وشغفت بأفكار الشخص وإلمامه الواسع بالمعرفة الفلسفية والأدبية، وكتبت عنه مقالا في جريدة "السياسة" التي اختفت بعد شهر من ظهورها، وعندما قرأه أعجب به كثيرا ومدحني بدوره حتى خجلت، ولم يكن في مدحه لي مجاملة أو نفاقا بقدر ما كان تعبيرا منه عن فرح باكتشافه لي هو أيضاً. ما ندمت عليه دائما، ولم أسامح نفسي عليه قط، أنه في ملتقى بوهران طلب مني أن أصاحبه للبيت ليحضر بعض الكتب للأصدقاء فاعتذرت كما اعتذر غيري، ورأيناه يذهب لوحده رغم طول المسافة ويعود في المساء، وهكذا حرمت من رؤية بيته الذي استغرب الجميع من عدد الكتب التي كانت به. إثر مقتله كتبت مقالا عن الفقيد بجريدة "الحدث" التي اغتيلت بعد عدة أشهر قليلة من ظهورها شتمت فيه القتلة الذين اغتالوا حلما من أحلام الجزائر الواعدة، وأذكر أن صاحب الجريدة أخبرني أن شخصا تكلم معه في الهاتف وهددني حينها. التقيت ببختي في عدة ملتقيات بوهران، بعنابة، بالعلمة، بالجزائر العاصمة، وكنت في كل مرة ألتقي به أجدد مكتبتي الفكرية ونبضي الإبداعي، لقد كان يعرف كيف يبعث فيك روح الكتابة والقراءة من جديد. بعد يومين من مقتله الحزين التقيت بصديقي عمارة لخوص بالجامعة المركزية، فلم نجد ما نقوله لبعضنا البعض لنشاهد من بعيد طيف امرأة أحبها بختي كثيرا ذات يوم تبكي في زاوية، فزاد صمتنا على صمت، وبعد أسبوع وصلتني رسالة من عمارة وقد سافر إلى روما يودعني فيها وهو يتحسر على جيلنا اليتيم/جيل الذبيحة..