الجميع يعرف أن خطاب نخب البلاطات الذي اختلط بخطاب الغوغاء أو الدهماء على حد تعبير أبي حيان التوحيدي، هذا الخطاب لم يسكت ولم يراجع مفرداته كما تحاول أن تروّج لذلك بعض الجهات والمنابر، إنما خفت لأن هذه النخب دخلت أو تستعد للدخول في بيات شتوي في انتظار فرصة أخرى. * * عتبة أولى: * تألمت كثيرا، كثيرا جدا، لما قاله أو كتبه بعض الكتاب المصريين الذين يشكلون جزءا من رأسمال الرمزية في المخيّلة المصرية، إن قليلا أو كثيرا. * حزنت كثيرا لكلام سمعته من الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي على إحدى القنوات العربية والذي جاء فيه حين الحديث عن الشاعر الجزائري الكبير جمال الدين بن الشيخ، حيث قال عنه، مختزلا تجربة شاعركبير ومنّظر للشعرية العربية ومترجم ومناضل فكري وسفير للثقافة العربية العقلانية في أوروبا منذ نصف قرن:" شاعر فرنسي من أصول جزائرية"؟؟؟؟. وربما كان الأمر سيمر هكذا دون أن نتوقف عنده لولا أن حجازي وبعد ذلك مباشرة حين جاء الحديث عن الروائي المغربي الطاهر بن جلون أغدق عليه كل أوصاف الوطنية ولم يلحقه بفرنسا. ربما نسي حجازي أن جمال الدين بن الشيخ هو مترجم كل من: ألف ليلة و ليلة وقصائد من شعر أبي نواس ومقدمة ابن خلدون وهو رواية الصبار لسحر خليفة * ومترجم الكثير من نماذج الثقافة العربية إلى الفرنسية، سعيا منه لتغيير الرأي العام الثقافي والسياسي والإعلامي الغربي تجاه ما يكتبه العرب. * وربما نسي حجازي أيضا أن هذا الشاعر الكبير والمفكر الجزائري هو الذي ساعده حين ضاقت به السبل في باريس إذ منحه وظيفة قارئ في جامعة باريس 8، ووظيفة (قارئ) في المفهوم الوظيفي الأكاديمي الفرنسي تعني أن يقوم هذا (القارئ) بمهمة مساعدة الأستاذ الجامعي الأساسي في متابعة تحضير الطلبة... وكان جمال الدين بن الشيخ قد حدثني (حين استضفته في واحدة من حلقات برنامج أقواس الذي كنت أعده للتلفزيون الجزائري كان ذلك العام 95) عن إصراره من موقع التضامن الثقافي والسياسي على مساعدة كل من عبد المعطي حجازي والمرحوم محمود أمين العالم على الرغم من معارضة البعض لذلك. أعرف أن كرم الشاعر جمال الدين بن الشيخ وهو الجزائري التلمساني ذو الرقة الأندلسية ما كان له أن يتصرف سوى بذاك السلوك الحضاري والنبيل. * وحزنت لما كتبه الروائي يوسف القعيد من تعسف في حق الجزائر والجزائريين. * وحزنت وتألمت لكتابات يوسف زيدان صاحب جائزة البوكر العربية كتابات طافحة بالحقد والضغينة تجاه الجزائريين والجزائر ( لن أعيد ما قاله لأن ذلك سيؤلمني مرتين). * مرة أخرى، أكدت لي كتابات بعض كتاب مصر على إثر غبار مقابلة في كرة القدم، ما كنت قد صرحت به قبل سنتين في حوار لجريدة بمصر وهو ما أثار وقتها ردود مجموعة من المثقفين المصريين، حيث قلت فيما معناه: * إن الثقافة المصرية الراهنة، باستثناء ما تكتبه بعض الأسماء الجادة والرصينة كالدكتور جابر عصفور والدكتور حسن حنفي وهويدي والروائي جمال الغيطاني وإدوارد الخراط وعزت القمحاوي وأسماء قليلة أخرى، هي ثقافة وصفية وكمية وإنشائية كلامولوجية تغلب عليها التقليدية. * لذا لم أتفاجئ شخصيا لما صرح به بعض مثقفي البلاط المعاصر، وهو ليس أكثر من كشف النقاب عما كان وراء النقاب. * * خلاصات: * * إن ما يمكننا الخروج به من خلاصة على المستوى الثقافي من كل هذه الحرب المريضة والهستيرية التي قادتها بعض فيالق "الأنتلجانسيا" المصرية ضد الجزائر شعبا وثقافة وتاريخا ورمزية هو أن هذه الإنتلجانسيا بشكل عام تشعر بخيبة مركزية ناتجة أساسا عن شعورها بموت وانقضاء المركزية الثقافية المصرية وهو ما خطف عنها الأضواء، وأن ما بقي من أطلال هذه ال"مركزية" هي أطلال ورسوم نوسطالجيا تعود وتحيل على زمن انتهى، زمن ولى، برحيل جيل طه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وآخرهم نجيب محفوظ، دون أن تتمكن مصر الأدب والثقافة من صناعة أسماء جديدة تكون قادرة على دخول تجربة الحداثة التي بدأت تستوطن جغرافيات إبداعية أخرى في بلدان المغرب العربي وبلاد الشام. * كانت هزيمة 67 هي الإعلان الرسمي عن نهاية المركزية الثقافية المصرية. ولقد كشفت هذه الهجمة الشرسة، من قبل بعض الكتاب وأشباه الفنانين على الجزائر والجزائريين، كشفت ملامح الشيخوخة التي استوطنت مفاصل مصر حتى بدت في حالها شبيهة بحال تركيا العثمانية، حين أفل نجم إمبراطوريتها الخلافية فأطلق عليها العالم آنذاك وهي تتقهقر وتتراجع اسم "الرجل المريض" بعد أن كانت الباب العالي. * ماذا حدث لبعض هؤلاء الكتاب المصريين؟ * ماذا حدث للروائي يوسف القعيد؟ * ماذا حدث للشاعر عبد المعطي حجازي؟ * ماذا حدث للروائي يوسف زيدان؟ * ماذا حدث لعلاء الأسواني؟ * إنها الامتحان والمحطة التاريخية التي من خلالها نكتشف عمق كاتب من عدمه. * ..والآن: * .... الآن وبعد أن سمعنا وقرأنا وشاهدنا من بعض النخب المصرية القناطير المقنطرة من الكراهيات بكل "ماركاتها" العجيبة السياسية * والعرقية والتاريخية واللغوية والدينية والأنتربولوجية ماذا علينا أن نفعل كنخب جزائرية دون السقوط في فخ رد الفعل الذي يعوق عملية التأمل التي يحتاجها كل إعمال للفكر؟ * لا يمكننا كنخب جزائرية أن نطوي الملف ونعتبره مسألة "مشاكسات إعلامية" تنقصها المهنية ثم نضع هذا الملف في الدرج كالقنبلة الموقوتة التي ستعود، لا محالة بعد فترة لاحقة، للانفجار في وجوهنا. * ... وعليه، ومن موقعنا كمنتجي القيم الجمالية والفكرية والفلسفية أن نأخذ هذا الذي حدث كدرس تاريخي وانطلاقا من ذلك علينا القيام بما يلي: * 1- أنها الفرصة المواتية لكي نفتح نقاشا حقيقيا وجادا وجديدا (خارج لغة الخشب أو لغة الدكاكين السياسية) حول مفهوم الهوية الوطنية ومفهوم * "الجزائرية". وأعتقد أن هذا الحدث الرياضي الكروي، وما تبعه من حراك شعبي بشعارات كانت تحيل دائما على مجموعة من القيم الوطنية العميقة، استطاع ولأول مرة أن يضعنا نحن النخب صانعي المخيال * ومهندسيه، وبشكل تاريخي مسؤول، أمام حيرة سؤال الهوية. * 2- انطلاقا من هذا الحراك الشعبي الشباني الثري في رمزيته علينا أن نعود لقراءة ما تعرضت له وما تتعرض له الآن "الهوية الوطنية" من مسخ وتلوث واختراق، وبكل شجاعة فكرية علينا أن نشخص الداء وأن نطرح البدائل. * 3- كشفت لنا أحداث الأيام الماضية، أن كثيرا من الذين كنا نعتقد بأنهم داخل خانة الأخ "اللغوي" خانونا وخرجوا فجأة من قمقم العدو وأن كثيرا من الذين كنا نعتقد أنهم من الأخوة الدينية كفرّونا وأخرجونا من ملة محمد عليه الصلوات والتسليم. * 4- إن ما عاشه الجزائريون بعد ماتش كرة القدم بين مصر والجزائر، في الخرطوم، جعلهم ولأول مرة منذ الاستقلال يجتمعون ويتوّحدون حول شعارات "الهوية" وبها على الرغم من اختلافاتهم السياسية والأيديولوجية، لا لشيء إلا لأنهم استشعروا شيئا يهدد "هويتهم". * 5- سؤال اللغة: ليست اللغة وحدها هي محدد الهوية ومع ذلك فهذه فرصة لتأكيد شيء أساسي هو أن لهذه البلاد ثراءها اللغوي وتجربتها التاريخية العتيقة وتجربتها المعاصرة المريرة والذي يجعلها متميزة وعلينا أن نحمي هذا الثراء الذي هو جزء من تعريفية "الجزائرية" وندعمه بترسانة قانونية وأيضا بحماية ثقافية ومؤسساتية جادة ومدروسة، قادرة على قراءة ما يجري وما جرى وما تخبئه لنا الأيام القادمة. * 5- لذا علينا دراسة موقع اللغة العربية وتكريسها كمقوم من مقومات الهوية الوطنية وقطع الطريق، في مثل هذه الظروف، أمام بعض المتسللين والسابحين في الماء العكر الباحثين عن حجة لضربها. * 6- وعلينا أيضا دعم اللغة الأمازيغية التي هي الإسمنت الحقيقي والأولي لجزائريتنا، وانطلاقا من ذلك وعلى ضوء ما جرى علينا أن نراجع موقعها * ومكانتها في المنظومة التربوية مراجعة جادة. وأن نعمل على تدريسها لجميع الجزائريين وبالتالي إخراجها من جهويتها وإقليميتها. وأقترح أن يكون تدريسها إجباريا لكل أطفال المدارس، وأقتراح تسمية سنة 2010 بسنة اللغة والثقافة الأمازيغيتين. * 7- الدعوة إلى تأسيس أكاديمية علمية للثقافة والفنون الأمازيغية، وأن تكون مؤسسة علمية تشتغل بعيدا عن الأمراض السياسوية، حيث لا سلطة فيها إلا لسلطة العلم والعلماء. وتشتغل أيضا بعيدا عن الفلكلوروية التي صبغت الثقافة الأمازيغية وقزّمت تراثاتها الأدبية والفكرية. * 8- ولدعم تواجد اللغة الأمازيغية تربويا وثقافيا علينا أن ندعم ذلك بالإعلام المحترف والثقيل، ولا بد لي هنا من إشارة إلى تجربة القناة الأمازيغية الجديدة "القناة الرابعة" التي تم إطلاقها مؤخرا من قبل الدولة الجزائرية، وأعتقد أنه يجب الذهاب بهذه التجربة نحو الاحترافية حتى لا نقتل التجربة في المهد ونفقد بالتالي ثقة المشاهد. * 9- وعلينا وفي الوقت نفسه أن نفهم ما دور اللغة الأجنبية وما موقعها * ووزنها داخل الهوية الثقافية الجزائرية، إذ لا يمكننا تغطية الشمس بالغربال فاللغة الفرنسية واقع ثقافي ولغوي وسيكولوجي ومخيالي في الجزائرالمعاصرة. إن الصحافة الوطنية باللغة الفرنسية كأختها باللغة العربية وقفت وقفة شجاعة ضد ما حصل من تشويه للرموز الوطنية * ولتاريخ الشهداء. أعتقد أن علينا اليوم أن نفتح حوارا جادا، بعيدا عن الصراعات الأيديولوجوية الفارغة، بعيدا عن أحكام التخوين، للتدارس وبهدوء تام ما تقدمه الفرنسية كلغة للهوية الثقافية الجزائرية والوقوف على خصوصياتها الجزائرية وقراءة حجم وجودها وتأثيرها في صناعة الرمزية لدى الجيل الجديد. وهو وجود يختلف، دون شك، عما كان عليه مع جيل خمسينات القرن الماضي. * 10- سئل ابن خلدون: كيف تعرف الحدود المغاربية؟ فأجاب: تبدأ وتنتهي حيث يبدأ وينتهي الكسكس والبرنوس. وهو تأكيد على أهمية اللباس * والأكل في تحديد معالم الهوية، لذا وانطلاقا مما سمعناه وشاهدناه وقرأناه من القناطير المقنطرة من ثقافة الكراهيات التي تمس شخصيتنا وجزائريتنا، بعد مباراة كرة القدم بالخرطوم بين الجزائر ومصر، علينا أن نراجع طريقة لباسنا وهندامنا الذي اندثر و"تبهدل"؟؟؟ أو كاد أمام زحف أشكال اللباس السعودي والمصري والأفغاني، حيث اختفى أو كاد كل جمال هندام الشخصية الجزائرية وبدا الشارع الجزائري، من باب الواد مرورا ببلكور أو شارع بن مهيدي، وفي مدن أخرى من عنابة مرورا بتيزي وزو، وصولا إلى وهران وغيرها، من حيث هندام الرجل والمرأة شبيها بشارع في الرياض أو القاهرة أو كابول، أعتقد أن على الجزائري والجزائرية وعلى ضوء ما حدث أن يراجعا مفهوم جمال وخصوصية الهندام دفاعا عن جزائريتهما. * 11- والأمر أيضا يتعلق بطريقة قراءة كتاب الله العزيز الحكيم، لقد كانت لنا تلاوتنا وقراءاتنا الجزائرية والمغاربية، الخاصة بنا، قراءة جميلة * ومتميزة، عليها تربت أذننا الموسيقية، منذ الطفولة، اليوم، حتى قراءاتنا المغاربية للقرآن الكريم وطرق التلاوة والتجويد والتي أدهشت طويلا، هاهي قد تراجعت أمام قراءات المشارقة، لذا أقول إن من خصوصيات هويتنا استعادة فن قراءات آبائنا وأجدادنا. لكم كان صوت مهلل الفجر مسبحا يسحر القلب والأذن، أما اليوم فقد ذهبت تلك الطقوس جميعها أمام زحف النجومية الدينية على الشاشات المصرية والوهابية والتي تقودها مجموعة من بائعي كلام الله بلهجات وإيقاعات مقعرة ومنفرة. * 12- إن موقف الإخوة في المغرب الأقصى، على الرغم من مشكلة الصحراء الغربية التي تحشر فيها وفي كل مرة الجزائر من قبل الإعلام المغربي * وعلى الرغم من الحدود البرية المغلقة بين البلدين، على الرغم من كل ذلك، فإن الشعب المغربي وقف، بقوة الإنتماء للهوية المغاربية، ضد الحملة الظالمة التي قادتها بعض النخب المصرية ضد شعب وتاريخ الجزائر * والموقف نفسه عبّر عنه الشعب التونسي الشقيق، وحين أشير إلى هذا فإني أريد أن أبين بأن سؤال الهوية ومفهوم الجزائرية الثقافية عليه أن يأخذ أيضا في الحسبان البعد المغاربي العميق، مهما كانت الخلافات * والاختلافات في أنظمة الحكم وفي الأنظمة السياسية المغاربية الطارئة. * إن العودة إلى سؤال الهوية والوطنية هو أيضا سؤال الساعة في دول أوروبية كثيرة كفرنسا مثلا التي خصصت وزارة لذلك، لذا أعتقد أن مباراة كرة القدم ما بين الجزائر ومصر وما تبعها من تجند شعبي وتعبئة شبانية وغير شبانية حول شعارات عميقة ودالة ك: "الوجود" و"الكرامة" و"الشخصية" و"الوطنية" و"الالتزام" وغيرها وما أحاطها من نقاشات * ولا تزال تجعلنا كنخب مضطرين للذهاب إلى طرح السؤال الجارح وهو سؤال "الهوية" و"التعريفية" وما يتبعهما من مفاهيم مرتبطة ب"الشخصية" الوطنية. وحين أقول ذلك فإن دعوتي هذه لا تعني مطلقا التقوقع حول الذات وحول الوطنية الضيقة إنما الغرض من نقاش من هذا القبيل هو البحث عن "ذهاب" إلى "الآخر"، ونحن ندرك من نحن. إذ لا وجود لهوية معزولة ولا لثقافة سجينة مربع الاكتفاء بمباهجها الذاتية مهما كانت هذه المباهج. إننا ونحن ندعو إلى طرح جديد لسؤال الهوية فإننا ندرك جيدا أن طرحه لا يستقيم إلا إذا وضعناه في إطاره الإنساني الشامل.