يُقرأ كتاب كهذا من آخره أو من أوَّله لا ضير،ولا ضرر فيه البتَّة، كتابة الطباقات والمتتاليات،كتابة التجوال والترحٌل، نصوص ودوال وأزمنة مختلفات هومى·ك·بابا في /موقع الثقافة/ خاض المغامرة وهي جسورة، آهلة بالمفاهيم، متفرَّعة عن تبويبات غزيرة، هومى·ك·بابا، ناوش، أزاح، ونحت ونحَّت، منحوتات لغويَّة، معمار بلاغة ونظريَّة وقول، تهجينات أسماء ومؤلفات وثقافات، دوران بسبع دورات هذا اللون الكتابي، المانيفستي، ليس أكاديميا من حيث بنيته لكنَه أجهز فيه بمطارق من حديد على المدارس والمؤسسات، كتاب ليس في المعرفة فهو يتضمَّن إحالات على الآخر كأجناس من شعر، من موسيقى ورسم، كتب بروح نقديَّة ومغاير للتجارب الأخرى التي كانت راكدة، ممجوحة، التزاميه أكثر من اللازم، ثقافيًّا يرافع هذا العمل ضدَّ الهويَّات،الطبقات، الدول، ويرافع فيما بعد النسبويَّة، مابعد التفكيك، مابعد الحداثة، مابعد السيميولوجيا، مابعد الغراماتولوجيا، من أوَّله ممكن، من وسطه، من آخره، المهمٌ أنَّ الكتاب عابث رصين، ويقلق خريجي قسم الفلسفة·· المنظومة المابعد الكولونيالية صارت بارعة في الإنزياحات ولا تتوقف في خلخلة المركز الغربي، والأقلويات هي من سيستطيع على بذر بذور جديدة والضرب على الأرض بمفاهيم لا رطانة فيها،والسكنى الهانئة بين البينين· تبحث كتابة هومى·ك·بابا في الهوية والهجنات،في الألوان والبشرات، في زخمَّ الأقلويات وهو يطحن بين أحضانه الوطن الأصل،وفكرة النقاء،وفكرة الحدود· /موقع الثقافة/ في عالم يمور بالتناقضات ويسبح فيها هو هذا النشيد للخاضعين الجدد الذين تقادم وجودهم ولم تُسعفهم الأنسنة في تحقيق المكانة وتثبيت الاعتراف الرغبة هي في مكان آخر وشيء آخر، هي التي تخلق الابتكار وتتقاطع مع مجرَّد حنين أن تكون كما كنت· /أريدك أن تمسٌني في ذلك الجزء منَّي وتدعوني باسمي/، جملة لائقة، مُعبَّرة وفي مكانها، تقولها واحدة من بطلات توني موريسون، الكاتبة الأمريكيَّة السوداء، إنَّها مقاومة العبوديَّة عبر إشراك الآخر في التجربة الحميمة، اختلاط الألوان، اختلاط الأفكار، اختلاس الأحاسيس، هذا الكسر المنهجي للكتابة الاستعمارية ومؤسساتها هو الذي يُدشَّن إقامة وسكن مختلف ويُجسَّر تغايرات بين ثقافات مهيمنة وأخرى واقعة تحت الشرط غير الإنساني·· العمل -الذي كان- الأرشفة ذات المنزع الأكاديمي الرصين تلصَّص عليه /هومي/ بهوامش كثيرة أبانت حسن إطَّلاعه على الفكر الغربي، مغانيه، ومغازيه، ومعانيه ومآلاته، الذي تحكمه دائما علاقات السيطرة فيما يتمترس دائما بالثقافي والثقافوي /وليس في نيَّتي هنا أن أُّقيم تلك الضروب المهمَّة من التمييز بين وضعيَّات قوميَّة مختلفة والأسباب السياسيَّة المتباينة للنفى الثقافي وتواريخه الجمعيَّة، ما أريد هو أن أتَّخذ موقعي على هوامش الانزياح الثقافي المتحوَّلة/،تلك الهوامش التي تربك وتبلبل أيَّ إحساس عميق أو /مؤصَّل/ بثقافة قوميَّة أو مثقَّف /عضوي/ ·· إنَّ هومى يقدَّر الأمور ذاتها كما قدَّرها إدوارد سعيد وقبله فرانز فانون أومالك بن نبي أو علي مزروعي أو طريف الخالدي أو أنور عبد الملك أوعبد الله العروي أواعجاز أحمد أوطارق علي إذ المعرفة واقعة تحت سطوة الغرب ولا تأتي التقسيمات المفهوميَّة (كالسيميائيَّة،وما بعد البنيوية والتفكيكية وسواها) إلاَّ مناورة من مناورات النخبة الغربيَّة المتميَّزة ثقافيًّا والتي تقدَّم خطابا عن الآخر، يخدمها،يُسعَّر نارها، يؤجَّج فيها فتيل الحرب· الغرب خطر في ألاعيبه الخطابيَّة ولم يكن سهلا على هؤلاء الألمعيين من أمثال هومي تحرير مواضع النزاع في كلامه ومنطوقه،في مراميه واستراتيجياته،في رُفاته وفي حياته قبل ذلك،ولذلك كلما أردت أن تعيد جملة من جمل هذا الكتاب ما وجدت أمامك إلاَّ السؤال /ماالعمل؟/ حيال هذا الغرب، اللاَّعب، المراوغ، المدنَّس، العبثي، المغوي بالاستعارات والترسيمات وهنا يقول هومي أنَّ النظريَّة النقديَّة تتعالق وتتلاقى مع الأنتروبولوجيا الكولونياليَّة وشروطها المألوفة،إنَّها تصادر الآخرية، لا تنحني ولا تجثو إلاَّ مجرَّد استيهام ثقافي،أو صراع رهيب يخوضه فرع علمي لا يقرٌ بالفضاء أو القوَّة أو التنوٌع،استراتيجيَّة الإحتواء هذه كانت واضحة في أعمال المستبد التركي عند مونتسكيو،اليبان عند بارت،الصين عند كريستيفا،هنود النامبيكوارا عند ديريدا، ووثنيٌو الكاشيناو عند ليوتار· تنغلق المعرفة عند أفق اللَّقطة،مجرد اللقطة،فالهامش هم جماعة متخيَّلة يشتغل على تواريخها،تؤطَّر لها المفاهيم الناجزة تلك التي تُدار من وراء مؤسَّسات القوَة،وهي مؤسَّسات لم تأت من فراغ نظري،بائس، عاثر، بل تدشيناته كانت معرفية صرفه،هكذا تحتاج دائما المجتمعات المابعد الكولونياليَّة إلى قراءة فوكو ولاكان ودريدا وكل السرديات الهائمة التي تاخمت الغرب المؤسساتي، الامبريالي، المتروبولي،مثلما يتضمن الكتاب فقرات مدهشة في قراءة القراءات العديدة عن الفكر والغرب والطبقة والعرق والنسويَّة والبشرة برؤى وتعليقات كُتَّاب كثيرين من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكيَّة وفرنسا،كذلك يتقاطع هومي تقاطعا بالغ الأثر والجاذبيَّة والعمق مع فانون، إنَّ هومي كأنَّه يُدبلج فرانز فانون،مؤسَّس الكتابة البيضاء،الكتابة السجاليَّة،المنخرطة تحت عظام المستعمر،تحت طيَّات لا وعيه،فعن الخطاب وقناعه،لا يكون فانون في /الجزائر السافرة/ إلاَّ فاضحا للحيلة الإستعمارية التي انطوت على الدعوة إلى نزع المرأة الجزائريَّة للحجاب،فالمرأة الفدائيَّة هتكت حدود البطرياركيَّة والكولونياليَّة فهي أكثر من كونها /موضع شبهة/،هي مخزن أسلحة وفي حقيبتها اليدويَّة قنابل يدويَّة،إنَّ الاستعمار رغبة وحاجة وآلة ولا تقع التمثٌلات إلاَّ على الأجساد،أجساد بيضاء وأجساد سوداء،وجوه محجوبة ووجوه غير محجوبة كما هو الحال مع المرأة السافرة في حقيقتها التي أخفت هويَّتها كمقاتلة رفيعة المستوى وهي ألقت بالنيران في الحيَ الأوروبي · عرَّج هومي بابا على ثنائيَّة،الهندي والإنجليزي وهاهو يقرأها بمنظور الأسود والأبيض،فضْح وتعرية وقف عندهما كثيرا،فإنَّ أسوأ منطقة يقف فيها المفكَّر والفكر هي منطقة الضباب حيث يبدو حاضر الحكومة الكولونيالية ناطقا بأسمى رسائل الثقاافويَّة والتمدين،ثم يجري تحرير الدَّال كهند قديمة هي بحاجة إلى امتلاء زمنها،إذ يصير زمنا امبراطوريَّا،تاريخيًّا، كولونياليًّا،كما جرى المكر و الشذوذ في غير ما مرة مع رواية آيات شيطانيَّة وإرهابات المعنى التي مورست، بشأنها،إمَّا أن تكونوا مع الرواية وتخيلاتها أو تكونوا مع مؤسسة الحقيقة العديمة الجدوى كما هي إيران والخميني وآيات الله وولاية الفقيه، أي متابعة النسق إلى آخر عرينه لطرده من الجنَّة· يجدَّد هومي الإستشراق بمنظوراته وتجاربه وتطبيقاته، ففي أغلب صفحات هذا /المجمَّع الفكري/ نقل الخطاب الثقافي الكولونيالي وما بعد الكولونيالي -بوصفيهما خطَّان لا يلتقيان- إلى إتَّساعات محلَّقة وأجواء ومناخات مرنة تستوعب وتتقبَّل مجيء المفاهيم التاريخيَّة وغير التاريخيَّة من لغات المهاجرين من لهجات المنفيَّين من متخيَّلات لفظيَّة،قوميَّة أو من شتات كما هو الخطاب الفلسطيني حول الوطن والآخر، المنفى، البيت، الإنتماء،العودة، الاقتلاع، الجذور· أن نكون لازمنيَّين،تأويليَّين،يمكننا العيش في فضاءات أخرى،وأزمنة ملحميَّة أي هذا ما يجب أن نكون عليه /··كنت غريبا فما آويتموني، عاديا فما دثرتموني، مريضا وسجينا فما زرتموني·· فاغربوا عنَّي بعيدا، نازلة بكم اللَّعنة في النار الأبديَّة التي أُعدَّت للشيطان وملاكته/ هكذا يُسبغ إنجيل متى على حالة المنفي، الغريب، الوافد، الأسود، النسوي، المابعد كولونيالي كل المواصفات الفوكويَّة الممكنة، العقاب، العزل، السجن، التأنيب، التوبيخ، مواصفات وآليات وأنظمة في المعنى وفي الأسلوب تضع الحدَّ بين الإنسان الأسمى وهو الشرَّير الطاغي والساحر واللعوب الذي ينام بجانب دويَّ العساكر وأهازيج الثكنات والإنسان الأدنى الحقير،المقصي،الماضوي،السهل الإنقياد لشهواته تشبه قراءة كتاب كهذا الطيران بالمنطاد من غير اجراءات أوَّلية وخطَّة استعمال وتمرينات استعداد،المدهش أنَّ هومي راوغ الأكاديميَّات الخاملة، المعقَّمة، المليئة بالحشو والإطناب، كتب هذا الشيء الأخَّاذ، النبيل، اللاَّمصنَّف، إنَّه تجريد الثقافة من استعمالاتها المغرضة التي سيبقى الساسة دائما مفجوعين من لفظتها وهي كلفظة نابوليون أو حملته الشهيرة /أسمع الثقافة،أتحسَّس مسدَّسي/·