“لحظات قليلة وتحطّ بنا الطائرة على مطار جربة جرجيس الدولي، درجة الحرارة في الخارج 32 درجة مئوية.. شكرا على اختياركم للخطوط الجوية التونسية”.. بهذه العبارات تعلن مضيفة الطائرة عن وصولنا إلى الجزيرة التونسية التي لا تبعد عن الحدود الليبية الشرقية بأكثر من 120 كلم، أين يقع الممر الحدودي المسمّى راس جدير وهو وجهتنا التي كنّا نظنّ أنها ستكون محطة لأولى خطواتنا في الطريق إلى طرابلس، عاصمة الجماهيرية الليبية، لكننا اكتشفنا أن هذه الجزيرة التي حطّت بها طائرتنا، في حدود الساعة الثامنة من مساء الأحد، هي الساحة المتقدّمة لما يحدث في البيت الليبي.. على بوّابة الطريق إلى طرابلس على بعد أمتار من مخرج مطار جربة، اصطفت بعض سيارات الأجرة الصفراء، منتظرة وفود السيّاح المتعاقبة طائراتهم من مختلف مطارات العالم، على غرار مطار أورلي الفرنسي الذي وصلت منه طائرة الخطوط الفرنسية محمّلة بسيّاح فرنسيين؛ تبيّن لنا أن أغلبهم من المغتربين الجزائريين، الذين اختاروا الشواطئ التونسية لصرف “تحويشة” عامهم.. فضول الدم الجزائري؛ ورغم خصوصية سفرتنا، دفعتنا إلى أن نتجاهل، ظرفيا، عروض سائقي سيارات بيضاء تقلّ إلى راس جدير الليبية مقابل 100 أورو، ونفتح نافذة الأسئلة على أحوال السياحة التونسية وتيرمومتر التواجد الجزائري في تونس ما بعد الثورة، وهي الأسئلة التي كان نور الدين، كفيلا بالإجابة عن أغلبها.. يقول نور الدين؛ ابن المنطقة الذي رافقنا طيلة تواجدنا في جربة، “إن الجزائريين، وخصوصا المغتربين منهم؛ لم يفرّطوا في الصيف التونسي رغم ما يتداول في الإعلام عن أخبار الانفلات الأمني في تونس”، ويضيف ابن جربة؛ بكثير من التفاؤل “السياحة رأس مال التونسيين وهبة الله لهم، وحبّ الجزائريين للتونسيين هبة أيضا، ما تروحش بالساهل”.. لم نتفاجأ بحماسة نور الدين ومكابرته التي حاول أن يقنعنا من خلالها بأن مسلسل الثورة التونسية انتهى نهاية سعيدة، وأن “ما ثمّات شي”. لذلك قبلنا كلامه مجاملة، كما قبلنا من قبل تصريحات الغنوشي؛ زعيم حزب النهضة التونسي، الذي قال إن أيادي حزبه لن تطال لا الخمر ولا البيكيني، إذا وصل إلى السلطة.. قلت؛ قبلنا كلام نور الدين مجاملة، ونحن نمسح بنظراتنا وجوه التونسيين التي لم تقدر بعد على الاستفاقة من دوخة الثورة، رغم مظاهر الاحتفاء بالصيف المنتشرة في بعض زوايا الجزيرة الساحلية، وخصوصا في محيط منتجع مارينا جربة، الذي خلا، على غير العادة، من أقدام رجال الشرطة أو “رجال الحاكم” كما يسميهم التونسيون. يقول نور الدين، بشيء من الفخر، “الشعب يحكم الشعب اليوم، لا حاكم في جربة، خلاص القزّول بعد الثورة..”. كلام نور الدين أعاد إلى أذهاننا أخبار الاعتداءات والبلطجة، واختطاف العرائس من أحضان أزواجهن، ومزاعم قطع الطرق، التي وصلت إلى آذان الجزائريين، عبر بعض وسائل الإعلام المحليّة.. وهي التهويلات التي وقفنا على ضدّها خلال جولة ليلية في قلب الجزيرة، التي فقدت كثيرا من حركتها الليلية، لكن الأكيد أنها لم تفقد أمنها بعد.. في خضم هذه المقاربات التسجيلية، استفقنا على مشهد متكرّر في جربة، أعادنا إلى مغزى تواجدنا في هذه الجزيرة القريبة من الحدود الليبية، ووجّه أنظارنا مجددا إلى الشرق؛ حيث تنتظرنا طرابلس.. المشهد المتكرر حولنا، كان في وجوه العابرين.. في لهجتهم.. في لوحات ترقيم سياراتهم.. مشهد يقول إننا في إحدى مقاطعات ليبيا.. “هذي في خاطر العقيد .. وهذي في خاطر الثوّار” ما يثير الاهتمام حقا بجزيرة جربة، هو ذلك التواجد المكثّف لليبيين بها، إلى درجة أنك قد تعتبر السيارات التونسية ذات اللوحات الترقيمية السوداء دخيلة على المنطقة، رغم أن نور الدين يؤكّد أن التواجد الكبير للّيبيين في جربة ليس استثناء وإنّما هو قاعدة صيفية ألفها السكان الجرباويّون. لكن؛ يضيف نور الدين أن الاختلاف في هذه السنة، يكمن في تلك المناوشات والصدامات التي سجّلت في الأيام القليلة الماضية، بين مناوئين لنظام القذافي ومؤيّدين له، تطلّبت تدخل التونسيين لفضّها، ومن ذلك ما حصل قبل أسبوع تقريبا في إحدى الملاهي الليلية؛ حيث تصاعدت وتيرة التبراح أو “الرشقة“، بين الطرفين الليبيين، أحدهما يبرّح في خاطر العقيد والآخر يبرّح في خاطر “الثوّار”، فتطّورت الأمور من التبراح إلى شجار دموي احتواه بعض التونسيين، وسيطروا عليه، في الوقت الذي تخرج فيه بعض المناوشات الأخرى عن السيطرة، حسب نور الدين وبعض أبناء المنطقة الذين التقيناهم. ومنهم الهادي، الذي يتعاطف كثيرا مع العقيد الليبي، وحجته في ذلك أن أغلب الليبيين الذين يتمتعون بصيف تونس ويحجزون أفخم الفنادق ويؤجّرون أحسن الشقق في الجزيرة، في الوقت الذي يقصف فيه الناتو بيوت الليبيين، هم من أبناء المنطقة الجنوبية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة، لكن نور الدين يرى خلاف ذلك، مشيرا إلى أن أصحاب الملايير التي تصرف في جربة هم أبناء الليبيين الموالين للقذافي.. وأيّا كانت الحقيقة بين الرأيين، فإن الأمر المؤكّد الذي وقفنا عليه، هو أنّ الكثير من الليبيين المحظوظين، وجدوا في الجزيرة التونسية مهربا لهم من سماء ليبيا التي تقول مذيعة قناة الجزيرة القطريّة، التي تطل علينا من تلفاز إحدى المقاهي المفتوحة ليلا في وسط مدينة جربة، تقول إنها تمطر قصفا على طرابلس، في الوقت الذي ندخل فيه فندقنا، لنسلم فيه أعيننا للنوم، في انتظار شمس يوم جديد سندخل فيه إلى راس جدير الليبية من الحدود التونسية، في الطريق إلى طرابلس.. موسم الثورة يلغي موسم اليهود الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الإثنين، وعيون جربة لا تزال نائمة، ننتظر نور الدين ليقلّنا إلى منطقة بن قردان الحدودية، قبل أن ندخل إلى راس جدير.. لا تزال مذيعة قناة الجزيرة مستيقظة في تلفاز إحدى المقاهي التي أخرجت طاولاتها باكرا، ولا زالت المذيعة تؤكّد أن سماء طرابلس تمطر قصفا، وكأنها تحذّرنا بنهاية مقصوفة، نحن الذين خبُلنا لأننا فكّرنا في الوصول إلى طرابلس.. ينظر إليها النادل وهو يعصر القهوة، ثم يبتسم في وجوهنا وكأنه يقول لنا “أعرف أنكم ذاهبون إلى طرابلس.. سيقصفونكم إذن”(...) عندما تلتقي فصاحة مذيعة وبسمة نادل، في أمر يخصّك، فلا تستبعد أن تكون أنت موضوع النشرة القادمة.. على كلّ؛ حضور نور الدين في تمام الساعة السابعة صباحا، أخرجنا من جوّ الأخبار الصباحية المكهربة، وأدخلنا في “كرهبة”(سيّارة) متوجّهة بلا ريب إلى الحدود الليبية، بعد أن تحطّ رحالها في منطقة بن قردان، هذه المقاطعة التونسية الخارجة عن القانون .. حوالي 120 كلم من السير، تنتظرنا قبل الدخول على بوّابة راس جدير، الطريق فارغة ومحفوفة بأشجار الزيتون، مصدر رزق الكثير من التونسيين القاطنين في منطقة جرجيس المتاخمة لجربة.. يقول نور الدين إن “قيمة الشجرة الواحدة تقدّر بأكثر من 200 أورو، وأن الكثير من اليهود الجرباويين المغتربين يفضلون استثمار أموالهم، في تجارة الزيتون”، في الحقيقة؛ لم نهتم لحكاية الزيتون بقدر اهتمامنا بذكر نور الدين لليهود الذين كنا نعرف أنهم يحجّون كل سنة إلى هذه المنطقة، في عيد يطلقون عليه اسم “الغريبة”، وفي هذا الصدد؛ يؤكّد نور الدين أن موسم “الغريبة” ألغي هذه السنة؛ لأول مرة منذ عقود كثيرة، وأن الكثير من اليهود اعتبروا غياب يد الحاكم عن المنطقة، أمرا يهدد أمنهم، مع العلم أن جزيرة جربة قبل الثورة، كانت ممنوعة على الزوّار الذين لا يصنّفون في خانة السيّاح، ولا يملكون بطاقة حجز مسبق في إحدى فنادق الجزيرة، وهو الأمر الذي لم يعد قائما بعد سقوط بن علي. بعد حوالي ثلاثين دقيقة، من المسير، جنبا إلى جنب مع الكثير من السيارات الليبية التي بدا من حمولتها أنها متجهة أيضا إلى ليبيا لنقل بعض المؤونة والبنزين، وصلنا إلى الجسر البحري الروماني، الذي يربط جربة بجرجيس. يقول نور الدين إن حركية السيارات الليبية المحمّلة بمختلف السلع من تونس إلى ليبيا ليست استثناء أيضا، لكنها ارتفعت أكثر منذ خمسة أشهر بعد انفجار الأوضاع الليبية، وقبل ذلك، كان التونسيون يعودون من ليبيا محمّلين بغالونات البنزين الرخيص، وبعض الأجهزة الكهربائية والإلكترونية، وهي الحركية التجارية التي صنعت أمجاد منطقة بن قردان التونسية وأكسبتها شهرة إفريقية كبيرة، وقفنا على صيتها عند وصولنا إليها بعد مسيرة ساعة ونصف من جربة. بن قردان.. داخل العُرف خارج القانون عندما تصادفك طاولات حديدية زرقاء اللون، متشابهة إلى درجة التطابق، وهي متصدّرة كلّ محلات شوارع مدينة صغيرة، فاعلم أنك في بن قردان التونسية، هذه المقاطعة الهاربة من سلطة القانون، حتى في عهد نظام بن علي، الذي أحكم قبضته على كامل التراب التونسي باستثناء هذه المنطقة التي فرضت على الجميع قانونها الداخلي. “غير الوالد والوالدة، ما تلقاهمش هنا”.. يقول البنقردانيون باعتزاز.. صرف عملات، بيع سيارات، أجهزة كهربائية، إلكترونية، غذائية.. سوق حرّة لا ترتبط بالوثيقة بقدر ما ترتبط بالكلمة.. يقول حميد الذي اقتربنا من طاولته الزرقاء لنسأل عن بورصة صرف العملة في بن قردان، إن الأورو طاح هذه الأيام، وأن 100 أورو صارت تقابل 193 دينار تونسي، أو 232 دينار ليبي، ويضيف وهو يحمل آلته الحاسبة، بأن باستطاعته أن يوفّر لنا من المئة دينار إلى المليار.. أكثر من 200 صرّاف في شارعين، باستطاعتهم أن يوفّروا لك من المئة أورو إلى المليون أورو.. أمر يفتح شهيّة الأسئلة، خصوصا مع تواجد الكثير من السيارات ذات الترقيم الليبي في هذه المنطقة التي لا تبعد عن الحدود الليبية بأكثر من 30 كلم، منطقة لا يعرف سائقو السيارات فيها شيئا اسمه رخصة سياقة، أو شهادة تأمين أو ضرائب.. منطقة داخل العُرف الاجتماعي وكلمة كبار القوم، لكنها خارج القانون.. راس جدير ترحّب بكم نترك بن قردان لربّ يحميها، وسوق يُغنيها، ونستأنف طريقنا إلى طرابلس، نحو بوابة راس جدير، وها نحن بعد كيلومترات قليلة من بن قردان، نصطدم بأولى مشاهد الأوضاع الليبية المتأزّمة، بعيدا عن صيف مارينا جربة، قريبا من هذه المخيمات التي نصبت في الأراضي التونسية وخصوصا بمنطقة شوشة الحدودية، التي تؤوي حسب السائق الذي أقلّنا إلى راس جدير، أكثر من 70 ألف لاجئ ليبي.. إنها الحرب في ليبيا وها هي مشاهدها أمامنا على مشارف معبر راس جدير.. نتذكّر في هذه اللحظات كلمات مذيعة الجزيرة، ونقرأ فاتحة الدخول. .../... يتبع مبعوث ”الفجر” إلى طرابلس / رشدي رضوان