مارست آسيا جبار، إلى جانب الكتابة الروائية، العمل السينمائي وقامت بإخراج فيلم طويل يحمل عنوان "نوبة نساء جبل شنوة" الذي سجلت فيه تقاليد ويوميات نساء المنطقة المحاذية لشرشال مسقط رأسها، واحتفى مهرجان البندقية السينمائي بالفيلم حيث اقتطع سنة 1997 جائزة النقد الدولية، كذلك قدمت فيلم ثاني بعنوان "الزردة وأغاني النساء" سنة 1992 الذي يعالج كذلك الحياة التقليدية للمرأة في الجزائر.. لم نسمع بعد ذلك لفيلم جديد لآسيا جبار، لكنها تبوأت مكانا عليا في الأكاديمية الفرنسية، وذكر اسمها في ترشيحات نوبل سنوات متتالية، وانتصرت ربما الرواية على السينما في حياتها الإبداعية.. على هذه الخلفية نرصد هذا الأسبوع في "حجر الزاوية" أجنحة الإبداع لدى المبدع، عندما يجمع المبدع في حياته أكثر من فن، كيف يكون عطاءه ؟ كيف يؤثر ذلك في ملكاته الإبداعية؟ هل هناك صراع إبداعي.. أم أن الأمر متقارب ولا يفصل فيه غير الإبداع ذاته. حسب التاريخ أول الأعمال الأدبية كانت مرسومة، حكاية الملك مينا وقصته المسجلة على الألواح الفرعونية، تشرح قصة انتصاره على الساحر، الكتابة في حد ذاتها كانت لغة مرسومة قبل أن تصير رمزية، حتى أن بعض المؤرخين يؤكدون أن الإنسان الأول لم يكن بفرق بين الكتابة والتشكيل. ولعل هذا هو الرائج غالبية المبدعين يجمعون بين الأدب وفن التشكيل، لما بينهما من أواصر تاريخية انفصلت لاحقا، لكنها ظلت متواجدة في التجربة الإنسانية. حالة التشكيل قريبة جداً من الحروف لكن تظل الصورة الذهنية صاحبة الامتداد الأكبر.. نجد جبران خليل جبران في كتابه النبي يرسم صوره إلى جانب نصوصه في انسجام تام تتعاقب الصور الذهنية والصور التشكيلية لتخلق لنا إبداعاً كاملاً، تماما كما أوضح أرسطو طاليس أن الرسم شكلا شعريا.. لكن الدهشة تصير كبيرة عندما نصير أمام القصيدة البصرية التي قد تجد أدواتها في التكنولوجيات الحديثة. هاجر قويدري حرب أهلية دون أقنعة الشاعر خالد بن صالح حين أشعلُ تلك السيجارة الأولى أصطدمُ بدخانها الأبيض ككائن هشٍّ لم يكن يتصور يوما أنَّ غجرية تتقن اللَّعب بالنار ستسرق الألوان مني وتمنحني مجزرة من الكلمات. ليست هذه مقدمة قصيرة، شعرية ربما، لتبرير ولوجي عالم الكتابة من الأبواب الخلفية، إنما مراوغة أدبية لأمنحَ الرسام الذي يحتضر بداخلي مساحة ليُذكِّرني بخياناتي المتكررة على مدار سنواتٍ تجاوزت اليوم أصابع اليد الواحدة. أن تكون فنانا تشكيليا وتهوى الكتب والقراءة وجنون الرسامين عدا لوحاتهم معناه أن في دمك شيطان شعر جميل كان يرتبُ أشياءه لينقض على صاحبه في أي لحظة. وبما أنني متطرف في الحب فلا أملك خيار أن أكون الاثنين معا، ليس من باب العجز ولكن لسحرِ الذهاب إلى أقصى حد دون مزاحمة ودون كسل أو تردد في اقتحام ظلمة العالم والرهان على عود ثقاب يكفي ليزرع الشك في العتمة. ومن قالَ أنَّ الأموات لا يرتكبون الحماقات؟ أنا اليومَ أقدم نفسي كشاعر بعد أن أزحت عبارة: وفنان تشكيلي جانباً إلى حين. إيمانا مني بتساؤلي الأول عن الأموات أو الذين هم على فراش الموت، المغيبون بفعل الحياة. من يقرأ قصائد مجموعتي الأولى، سعال ملائكة متعبين، يكتشف دون عناء أن ظلَّ الرسام حاضر خلف القصيدة. فضاء الذاكرة والصور الشعرية المشكلة بيد كانت تعجن الألوان والزيت والطين والماء.. بما في ذلك من عيوبٍ أتجاوزها كلما تماديتُ في الكتابة واقتراف النصوص. لوحات لم تر النور من بعدي. وقد أجهزت عليها في محرقة جماعية لم ينجُ منها إلا القليل. وكم تبدو هذه الخطى حزينة وأنا أعود إلى مرسمي وأستحضر طيف صديقي عمي صالح الذي خانه نبض قلبه ذات صيف وتركني من غير وداع. وكيف للوحات مثل: الأم، أحلام منتصف الطريق، والكاتب أن تنمحي هكذا بقدرة شاعر؟ سؤال الانتصار لا إجابة له في مساري القصير رسماً وكتابة وإن كنت أخلِص الآن بكلِّي للشاعر فيَّ دون أن أسمح له بوضع أي قناع يزيِّف حقيقة وجوده وذاكرته التشكيلية التي تلقي بظلالها عبر مساحات لا تُحد من الحبر المراق على هذا البياض. العناوين التالية: كموديل عار أو أبعد، كوكتيل وخاصة فينوس هي لوحاتي التي لم أكتبها وصارت قصائد رسمتها شعراً واحتفيتُ بها في كتاب. والكلمة أو البقعة اللونية التي أتركها قبل النهاية هي الوفاء والصدق لأنَّ الفن الحقيقي يفضح وإن كان مجرد تمارين للمشي، للحواس، تمارين للإنسان من أجل الإقبال على الحياة كما هي بكل بشاعتها وجمالها المنقوص. ولا أظن أنني سأغفر للفجر الثقافي جريمته الجميلة في إشعال فتيل الفتنة من جديد بيني وبيني. في الحقيقة هي حرب باردة تحتاجُ إلى النار والدفء من حين إلى حين حتى لا أموت أنا بينهما. وإن كانا الشاعر والرسام بداخلي يمارسان لعبهما أو حربهما بصخبٍ كالأطفال، يهزمُ أحدهما الآخر أو ينتصر هذا على هذا.. فتلك ال أنا هي كلاهما وإنَّ الذي يكتب عنها الآن هو الشاعر في هذه المساحة المحايدة. بين فعل الكتابة وفعل الغناء.. أنا من تنتصر ! الشاعرة ربيعة جلطي الكتابة بالنسبة لي انتصرت منذ البدء، لأن جل الأدباء في العالم دائما لديهم إلى جانب الكتابة مخدع آخر يتحدثون فيه ويبوحون له بأشيائهم الصغيرة والكبيرة، إلى جانب الكتابة فنجدهم يمارسون الغناء، الرسم، المسرح أو السينما، في العالم العربي هذا الفعل قليل ولكنه موجود وبدأ يظهر في السنوات الأخيرة، مثلا ماجدة الرومي هي شاعرة قبل أن تكون مطربة ولكن فعل الغناء هو الذي انتصر بالنسبة لها. بالنسبة لي فعل الكتابة هو الذي انتصر وأنا صغيرة، حيث كان الغناء أول أسلحتي لمحاربة القلق الوجودي، كنت أغني كثيرا كثيراً بدون حتى أن أفهم وأعي مفهوم تلك الكلمات التي كنت ألقيها بين الحين والآخر فقد كانت الموسيقى تأسرني جدا جداً لدرجة الجنون، وتواصلت معي هذه الحالة حتى مرحلة المراهقة وقمت بتطوير رغبتي في الموسيقى والعزف على عدد من الآلات الموسيقية وكان أساتذتي في الموسيقى في المتوسطة والثانوية يشجعونني على الغناء، وهم موجودون لحد الآن وهذا شجعني على اقتحام هذا العالم، ولكن تأخر الوقت كثيرا على اقتراف هذه الرغبة، لأن مقومات الكتابة كانت أكبر بالنسبة لي. كما ظل الغناء ساكنا فيَّ وبين الحين والآخر يخرج أظافره فتسكنني جنية الغناء وتستيقظ فأحاول أن أقدم هذه التجربة، على الرغم من أنها تجربة قصيرة إلا أنها كثيرا ما نافست رغبة الكتابة عندي وتفوقت عليها في بعض اللحظات. هي تجربة صادقة بالنسبة لي كما فعل الكتابة، فقد بقيت ساكنة بداخلي كل هذه السنون ولم تخرج إلى العلن إلا حديثا، على الرغم من أنني لم أتوقف عن الغناء ولا لحظة، فقد كنت أغني لعائلتي الصغيرة والكبيرة ولأصدقائي فالغناء وسيلة أساسية بالنسبة لي لراحة النفس، ولكن الغناء المسجل أو للمستمعين لم أكن أريد أن اقترفه، وعلى الرغم من محاولاتي فقد فرض نفسه عليّ فقدمت تجربة "رسالة السلام"، كهدية للشعب الفلسطيني، برفقة محمد رحال سعيد لشلوش ولمين مرباح، وقدمت تجربة أخرى من التراث العالمي تمثلت في أغنية"ليلة صيف"، وأخرى من التراث الجزائري. الغناء بالنسبة لي ليس مهنة، بل هواية أمارسها حينما أريد وأتوقف عن فعلها حينما أريد أيضا، ولا أفكر امتهان الغناء مطلقا. وفي معركة الإبداع هذه، التي تحدث بين الكتابة بمختلف أشكالها والغناء، ينتصر المبدع دوما، أنه من يتحكم في الفعل الإبداعي هذا متى شاء، لأنه وحده من يقدر مدى فاعلية هذا العمل ومن تنتصر، أنا أعرف أنني لو أصبحت مغنية لاشتهرت كثيرا وممكن أن أقدم شيئا للغناء العربي من خلال تجربتي، وهذا ليس رأيي بل رأي المحيطين بي من المختصين في الموسيقى، لكن بالنسبة لي الكتابة لديها ألقها الخاص، أنا سمعت أن ولادة بنت المستكفي كانت تغني وترقص وتعرف كيف تنقر على العود بشكل جميل، ولكن ولادة التي نعرفها هي ولادة الشاعرة، وأعتقد أنني لم أخطئ طريقي حين اخترت الكتابة.