تمر، اليوم، الذكرى الخمسون لرحيل الطبيب النفسي والفيلسوف الاجتماعي الفرنسي الشهير، فرانز فانون، صاحب المقولة الشهيرة ”لا خطاب ولا إعلان ثقافي يمكنه أن يبعدنا عن المهام الأساسية المتعلقة بتحرير الوطن والكفاح في كل لحظة ضد الأشكال الجديدة من الاستعمار”، هذه المقولة التي ألهمت الكثير من المفكرين والتيارات الفكرية في مختلف بقاع العالم وفي الجزائر بشكل خاص، وهو ما حاولنا الوقوف عليه في عددنا اليوم من خلال شهادات حية لشخصيات فكرية وأدبية تأثرت به وبأعماله. سليمان جوادي: ”من أجل مؤسسة فرانز فانون” يجب أن نقر في البدء أن الجزائر، سواء الرسمية أو الشعبية، ظلت وفية لجميع أحرار العالم الذين وقفوا إلى جانبها أثناء حربها ضد المستعمر الفرنسي الغاشم وساندوها بدمائهم وبنادقهم وكتاباتهم وأفكارهم، ولم يدخروا أي وسيلة لكشف بشاعته وفظاعته وهول جرائمه التي ارتكبها ضد الشعب الجزائري والإنسانية جمعاء جرائم، لم تحل دون إقرار النواب الفرنسيين الحاليين من سن قانون لتمجيد هذا الاستعمار و(كشف) فضائله على البلدان والشعوب التي كانت ترزح تحت قهره وجبروته.. الجزائر المستقلة احتفت وقدرت ”مايو” و”أودان” و”فانون”، وغيرهم من المناضلين الكبار وسمت بأسمائهم الشوارع الكبرى والساحات الهامة والمستشفيات.. وهكذا أطلقت السلطات اسم فرانز فانون على أهم وأكبر مؤسسة فكرية، وهي المكتبة الوطنية، وأكبر مستشفى للأمراض العقلية الموجود بالبليدة، والذي سبق لفرانز فانون أن اشتغل به، ناهيك عن مؤسسات تعليمية وثقافية وشوارع في مختلف أنحاء الوطن.. كما نظمت باسمه عدة ملتقيات فكرية وتاريخية في مناطق عدة من الوطن تدارست فكره ونضاله، وقد كان لي شرف التحضير والإعداد للملتقى الوطني الذي يحمل اسمه، والذي تنظمه وزارة الثقافة في ولاية الطارف ملتقى استقطب عدة شخصيات عرفته وعاصرته واشتغلت معه، كرضا مالك رئيس الحكومة الأسبق، والأستاذ محمد الميلي المدير العالم للمنظمة العربية للثقافة والعلوم الأليسكو، ومحامي الثورة المعروف جاك فيرجاس، والأستاذ بيار شولي رفيقه في النضال، وزوجته كلودين شولي، والأستاذة أليس شركي، وهي من أصدقاء الثورة الجزائرية، واشتغلت كثيرا مع فرانز فانون، والأستاذ المؤرخ الطاهر بن عائشة، وعمار بن تومي المحامي المعروف وزير العدل الأسبق، وكذا ابنه أوليفيي فانون.. أو الذين اهتموا بفكره ونضاله، كالدكتور محمد سعيدي، والأستاذ أحمد شنيقي، والأستاذ الدكتور المرحوم عبد القادر جغلول، والإعلامي والمؤرخ المعروف محمد عباس، وغيرهم كثير.. في هذا الملتقى استطعنا أن ننزع عن فرانز فانون تلك الشرنقة التي حاول بعض من يدعون اليسار فوق اللزوم تغليفه بها، وجعلنا هذه الشخصية تأخذ أبعادها الشعبية التي وجدت من أجلها وقد وُفقنا إلى حد كبير في ذلك.. ولأن شخصية فرانز فانون متعددة الجوانب ولأن فكره أصبح يدرس في أكبر الجامعات والمعاهد، ويسمى بالدراسات الفانونية، ولأن عشرات إذا لم نقل المئات من الجمعيات والمؤسسات في مختلف أصقاع العالم تحمل اسم فرانز فانون، صار لزاما علينا السعي إلى إنشاء مؤسسة جزائرية تحمل اسمه، كما أشير إلى ذلك في اختتام أحد ملتقيات الطارف. عمر أزراج: ”لازال فرانز فانون لم يفعّل كمفكر في حياتنا الثقافية” فرانز فانون واحد من كبار مثقفي القرن العشرين، إلى جانب ذلك فهو من طليعة المناضلين البارزين في القرن ذاته. أما فيما يخصنا نحن وعلاقتنا بفرانز فانون في مرحلة ما بعد الاستقلال، فأرى أن الجزائر مقصرة في حقه وحقنا أيضا، حيث أن فرانز فانون لم يُفعل كمفكر في حياتنا الفكرية والثقافية إطلاقا. مع الأسف الشديد فإن الغرب، وأقصد أمريكا وأوروبا، هو المستفيد من فكر فرانز فانون، حيث نجد كتاباته قد وظفت على المستوى الأكاديمي وعلى مستوى المجتمع المدني والحركات السياسية أيضا من أجل كسر التمركز الغربي ومن أجل تكريس التعددية الثقافية في الغرب، ومن أجل محاربة كافة أشكال العنصرية منها العنصرية الثقافية، العنصرية الاسمية والعنصرية العرقية. ولقد وظف فرانز فانون في كل من الهند، استراليا، جنوب إفريقيا وفي عدد من البلدان الإفريقية، ولكن الجزائر بصفة خاصة لم تدرس فرانز فانون ضمن سياق إعادة بناء الثقافة الوطنية والسياسة الوطنية على أسس صحيحة، ونفس الملاحظة نسجلها بخصوص العالم العربي الذي أهمل وما يزال يُهمل فرانز فانون المفكر والرمز التاريخي، وتعود المسؤولية بالدرجة الأولى الى إهمال الجزائر لهذا الرجل العظيم، وخاصة فيما يتعلق برؤاه الفكرية التي نحن في حاجة ماسة إلى تفعيلها في واقعنا ما بعد الكولونيالي. إن الكتابات التي أنجزت في الجزائر على فرانز فانون وضيعة وهزيلة وتتميز بالسطحية والتأريخ العابر لنصرته للثورة الجزائرية وانخراطه فيها، ولقد وصل الأمر بالبعض للنظر إلى فرانز فانون على أنه من خلق الجزائر وكأنها هي التي تصدقت عليه، علما أن هذا الرجل هو الذي اختار بإرادته توقه للحرية وأن ينخرط فكرا وسلوكا في حركة التحرر الوطنية الجزائرية، كما أنه قد تخلى عن كل مباهج الحياة كدكتور وعالم لكي يساند قضية التحرر الوطني في الجزائر وفي العالم بأسره. لحد الآن اكتفت الجزائر بتسمية الشوارع باسم فرانز فانون وهذا اعتراف شكلي بهذا الرجل، أما الاعتراف الحقيقي فينبغي أن يتمثل في تكريس أفكاره التي لو وظفناها بجدية في حياتنا الفكرية والثقافية والسياسية، لكانت الجزائر أفضل، ولتمكنا من بناء مجتمع جديد يقطع الصلة بالاستعمار ومخلفاته وبمختلف أشكال العنف. وهنا نريد أن ندرس ما قاله فانون عن انفصال الأحزاب عن الشعب وعن مخاطر العنف الذي يتولد من مجتمع يخلو من المساواة الاقتصادي و الثقافي، ينبغي أن ندرس نظرية فانون في العنف الذي حصل وما يزال يحصل في الجزائر قد حذر منه فرانز فانون في كتابه ”المعذبون في الأرض”، ومن هنا فإنني أدعو الى عدم الاكتفاء بالندوات الشكلية حول فانون وأدعو إلى تأسيس كراسي الدراسات القانونية في الجامعات الجزائرية ونشر فكر فانون بين أوساط الشباب والشابات، وإبرازه كنموذج للمثقف الشريف والعميق والمعانق لقضايا الجماهير والناقد لجميع انحرافات الدول المستقلة عن طريق البناء الثوري لمجتمعاتنا. إن فرانز فانون ليس مجرد رمز تاريخي بل هو برنامج كامل للتحرر الثقافي، الاقتصادي والسياسي، ولبناء الدولة الحديثة التي تثور على التخلف والتبعية. أنا انشغلت طويلا بفرانز فانون حينما كنت أقيم في بريطانيا على مدى 25 سنة، ورأيت بأم عيني كبار المفكرين والنقاد في الغرب ينجزون المئات بل الآلاف من الدراسات حوله، وأعتقد أن فانون قد أثر كثيرا في المسار الفكري والثقافي في الغرب حيث كنت أعيش، ولقد خصصت لفانون مكانا في أطروحتي للماجستير في جامعة لندن وفي أطروحتي للدكتوراه التي أنا بصدد الإنتهاء منها بجامعة كانتربري ببريطانيا، أذكر أن اسم الجزائر كان يتعالى في الجامعات البريطانية عندما يذكر فانون باحترام كبير، هكذا تكرم الجزائر بفانون، ومع الأسف فإن أبنائنا لم يشربوا فكر هذا الرجل الى حد الآن لكي يكون جزءا من حياتهم اليومية ومساعدا لهم في شق الطريق لبناء الدولة الجديدة والحديثة. بوعلام دلباني: ”أفكار فانون قدمت نزعة إنسانية جديدة أنهت زمن الوعي الاستعلائي” لا نشكك أن الفانونية شكلت تدخلا نقديا مهما أسهم في ميلاد مثقف ما بعد الكولونيالي بالمعنى الحديث للكلمة، لقد كان ذلك إنجاز أتيح له اختراق مجال الكونية والشمولية التي ظل الخطاب الثقافي الغربي يؤكد عليها زمن الامبريالية، ولكننا لاحظنا أن حركات المقاومة والتحرر في العالم الثالث شكلا منطلقا مهما وتاريخيا من أجل إعادة النظر النقدية في علاقة الذات بالآخر خارج المدار الكولونيالي، الذي كرس علاقات الهيمنة بين المركز والأطراف مند ما جاء تدخل فانون ومراجعاتها للثقافة الكولونيالية السائدة آنذاك من خلال النموذج الجزائري، ربما كان ذلك حلما عميقا لتدشين نزعة إنسانية جديدة تنهي زمن الوعي الإمبراطوري الاستعلائي الذي جسده الاستعمار، ولعل كتابه ”العام الخامس في الثورة الجزائرية”، والذي أفضله كثيرا أكبر دليل على ذلك. عمار بلخوجة: ”فانون استقرأ المستقبل بأفكاره الملتزمة” فرانز فانون الذي اختار أن يكون وطنه الجزائر قبل أن يكون فيلسوفا، طبيبا، كاتبا، صحفيا وصاحب نظريات، هو واحد من المثقفين الملتزمين، ناضل من أجل القضايا العادلة في العالم وفي مقدمتها الدعوة لإزالة الحدود بين الدول، فهو المفكر الذي راوده طيلة حياته حلمين.. يتعلق الأول باستقلال الجزائر التي ناضل من أجلها إلى جانب أبناء هذا البلد لكنه لم يدركه، كما لم يشهد تحقق حلمه الثاني المتمثل في تحقيق الوحدة الإفريقية والذي لا تشير أي بوادر لتجسيده على أرض الواقع، ناضل فانون ضد الحروب، العنصرية، القهر والاستبداد، وعرف أيضا بالإنتاج الثقافي الذي كان أوله كتاب ”بشرة سوداء أقنعة بيضاء” سنة 1952 الذي قدم من خلاله تحليلات عميقة في علاقة البيض بالسود، كما غاص المفكر في عمق المجتمع الجزائري من خلال مؤلفه ”العام الخامس في الثورة الجزائرية”، وقدم أطروحات هامة توحي أنه إلى جانب كونه طبيب أمراض عقلية فهو عالم اجتماع، دون الحديث عن ”المعذبون في الأرض” الذي يعتبر نموذجا لكل القادة في العالم حيث استبق فيه الأحداث، وكأنه استقرأ المستقبل، حيث أن التحاليل التي قدمها فانون أثبتت أن جل الأخطاء التي نبه منها فانون ارتكبها معظم قادة الدول، لذلك فإن فرانز فانون رغم رحيله لكننا نشعر وكأنه لايزال يراقب تصرفاتنا وحريص على تقويمها، وإذا قلنا فانون نقول الصحافة لأنه كان من أبرز محرري جريدة المجاهد، وفانون هو الجزائر لأنه أحبها وأخلص لها، وكان كلما ذكر الجزائريين قال ”نحن الجزائريين”، وبالمثل عامله أهلها الذين طالما نادوه أخونا فانون أو الجزائري فانون، فهذا المعلم الثقافي يستحق التكريم مرتين لأنه تبنى قضية بلد غير بلده الأم، وهو نموذج للشخص الملتزم بتصرفاته وأعماله. وأتمنى أن يكون للجزائر التزام سياسي نزيه مع هذا الاسم لأنه لا يستحق النسيان، ونحن نفتخر بتدعيم فكره بتنظيم لقاءات عديدة لا ترتبط بالمناسبات فقط ولا بالجزائر، وإنما بدول عربية أخرى، مثل تونس والمغرب، وإشراك النخبة وتحفيزها لتقديم دراسات حوله لأن فانون ترك رسالة للعالم بأسره لا تزال سارية المفعول، فالنضال - كما قال فانون - لا يتعلق بالسلاح فقط وإنما أيضا هو نضال القلم، وما تركه المفكر هو تراث الجزائر لأنه اختار العيش بها، إلى جانب كونه تراث كل الشعوب عبر العالم المدعمة لفكره الذي طالما كان دروسا للغير.