ما نعيشه اليوم ليس ربيعا شرق أوسطيا، بل خريفا قاسيا، هو خريف بارد، قاس وجاف، تتساقط فيه أوراق الأشجار، بعد أن فارقتها الأزهار والثمار، لتبقى عارية قائمة بذاتها منتظرة فصل الربيع الذي لم يأتِ إلى الآن، لقد فرحت تونس ومصر وليبيا، وحاولت معهم اليمن والبحرين، بقيام الثورات التي أطلقوا عليها اسم الربيع العربي، فاختاروا لها أسماء أزهار الربيع، في تونس لقبوها بثورة الياسمين وفى مصر بثورة اللوتس. ودون أي مواناة أو كلل أو ملل، قدم البوعزيزي الشاب نفسه محرقة لإشعال ثورة تونس التى سعت للتخلص من حكم ديكتاتور فاشي قبع على أنفاسها سنين طوالا، وفي مصر قدم ما يقرب من ألفي شهيد أرواحهم لذات الهدف، وهو الخلاص من نظام فاشي ديكتاتوري وشمولي، ظل جاثما هو الآخر، على صدور المصريين سنين، وبالطبع ليبيا وفى استبسال منهم قام ثوارها الأحرار أخيرا بخلع عميد الديكتاتوريين العرب من مكانه، وكل ذلك أملا في حياة أفضل ومستقبل أبهر، والبحرين حاولت، لكن ما لبثت ثورتها أن خمدت بمساعدة جيش التعاون الخليجي ومؤازرة دول الخليج، لماذا؟ خوفا من اشتعال نيران الثورة في بلدانهم غير عالمين بأنَّ تحت رماد تلك الثورة التي أخمدوها، تختبئ جمرات ستشتعل نيرانا، ولن ينجو من سعيرها لا حاكم خان الأمانة ولا ملكٌ ملكَ ظلما على رؤوس العباد، آسرا وكاسرا كرامة شعبه. ولكن ما معنى كلمة ثورة، الثورة هي التغيير المفاجئ السريع ذو الأثر البعيد، التغيير الذي يشمل الكيان الاجتماعي بمجمله ويسعى لاقتلاع جذوره القديمة التي تعفنت وبادت، أما هدف الثورة فهو توقيف استمرار الأحوال السيئة القائمة في المجتمع، والعمل على إعادة تنظيم الدولة وبنائها من جديد، وكل هذا تحت مطلب واحد وهو الأفضل والأحسن، مطلب تطلقه الثورة في شعاراتها وتسعى بجنون إليه، شعارات كالحرية والمساواة والعدالة من أجل حياة أفضل، قامت الثورات في منطقتنا، فهل أصابت فى مسعاها أم خابت، ياااه ما كل ما يتمناه المرء يدركه، وما حدث في الواقع أمر آخر، ثورات مصر وتونس وليبيا لم يكن نتاجها ما هو أفضل، بل ما هو أسوأ، وما هو أشر، وما هو أعنف، وما هو أقذر. ثورات مصر وتونس وليبيا، أنتجت عورات، وأنتجت عاهات، وأخرجت رؤوس الأفاعي دعاة التخلف والتأخر من جحورها، لو تأملنا في تونس لوجدنا أنه وبعد اكتساح حزب النهضة الإسلامي، تحولت جامعاتها إلى ساحات حرب وتمكن أعضاء "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" من القيام باضطهاد منظم وسب علني لأعضاء التدريس، فمن صوت ليبرالي كان يشدو دائما بالحرية والحق والجمال، تحولت الدكتورة أمل كرامي إلى صوت مضطهد يشكو من تلاميذه ومن سبابهم العلني البذيء لها، لماذا؟ لكونها ليبرالية. وبالطبع ناهيك عن مصر، وعما فعله الإسلاميون فيها، يقولون بأنَّ أصوات ناخبي حزبي النور والحرية والعدالة حصدت أكبر نسب الانتخاب (60 بالمائة)، ولم لا؟ طالما أنَّ الغش والخداع هي أدوات الانتخاب، ومن الغريب في الأمر، أنَّ اشتراك الأحزاب الدينية فى السياسة، جاء أصلا بهدف نبيل، بهدف تقديم الدين بأفضل صورة له، لكن ولأن المكر والكر والفر والخداع لعبة صناع الحروب والغزوات، خلع الدينيون أثواب الدين، وغيروا أقنعة الإيمان بأقنعة المكر والدهاء، مستغلين جوع الفقراء، ساعين لسد رمقهم ولو للحيظات برشوات منها ما هو مقنع ومنها ما هو واضح وصريح، تارة خمسون جنيها، وطورا كيلو لحم وحقيبة أرز ومكرونة، وزيادة فى الدين والدينونة على رؤوس العباد، جاء بعض فقهائهم ليهدد السياح القادمين إلى مصر بمعركة الشرف ضد "المايوه"، وبطمس آثار مصر الفرعونية الكافرة، وبنفي الأقباط إلى بلاد الواق واق، وبقمع الحريات وتكميم الأفواه. إذن، أي ربيع هذا؟! لم يعد للربيع العربي وجود، هل يمكنك أن تسمى ما يحدث ربيعا، إنه خريف، بل جفاف بل تصحر، بل إعصار، إنه تسونامي التخلف، هاج علينا بكل شياطينه وصح المثل الذي يقول، بأن شر البلية ما يضحك، فليبيا التي فعلت كل ما فعلت وقدمت كل ما قدمته من شهداء للتخلص من ديكتاتور مجنون، أضحت هي الأخرى تحت حكم إسلامي، وهيئة سلطة الأمر بالمعروف التي تبحث في نفوس البشر وتنهاهم عن المنكر، والنتيجة أنهم بدلوا الديكتاتور الذي كان يتسلط باسمه عليهم، إلى ديكتاتور صار يتسلط باسم الله عليهم، وهكذا ضاع العمر وضاع الجهد يا ولدي، وضاعت دماء الشهداء، وضاعت الثورات. خلاصة القول: "حين تزال أعلام الوطن، وترفع مكانها لافتات المرشحين، يذهب ربيع الثورات ويأتي خريف الانتخابات، نقايض صناديق الاقتراع بتوابيت الشهداء، ونكتب أسماء المرشحين على أجساد الضحايا" آخر كلام من كلمات يسرى فودة.