رغم المزايا والخدمات الكثيرة التي توفرها التكنولوجيا التي باتت ضرورية في الحياة اليومية للفرد، إلا أنها تسببت لبعض الناس في تقليص حيز الرزق، كما كان لها دور في القضاء على الكثير من المهن الصغيرة التي تُحتضر اليوم.. فالعولمة التي نعيش انعكاساتها عملت على إحالة الكثير من الحرف والمهن الأصيلة إلى رفوف المتاحف. مصلح الزجاج، صانع الغرابيل والسلال، الطرّاح وساعي البريد، تلك نماذج من مهن كانت لوقت طويل مصدر رزق الكثيرين، غير أن المشاكل التي أصبحت تواجهها إضافة إلى البدائل التي استقدمتها التكنولوجيا الحديثة حالت دون استمرار العديد منها، وتسببت في احتضار البعض الآخر. ال"أسام اس" تؤرق سعاة البريد يقضون أيامهم وهم يصولون ويجولون بين شوارع المدن وأزقتها، حفظوا أسماء الأحياء والعناوين عن ظهر قلب، حملوا للناس رسائل الأمل والبشرى فأحبوا لقاءهم وانتظروه كل صباح باحثين في حقائبهم عن الجديد الذي يدخل البهجة إلى قلوبهم.. هم موزعو البريد المتجولون بالدراجات النارية أو الماشين على أقدمهم، العاملين في المدن الكبرى أوالموظفين في الأرياف والقرى الصغيرة، غايتهم النبيلة إيصال الرسائل بكل أمانة وحرص لأصحابها، إلا أن التكنولوجيا والتطور التقني يأبيان إلا أن يجعلا لهذه المهنة دورا آخر غير الذي دامت تلعبه. في ذات السياق، يقول عمي عمر، ساعي بريد لأكثر من 20 سنة ببلدية رايس حميدو:"غيرت تكنولوجيا الاتصال الكثير في مهنتنا وجعلتها مجرد خدمة لتوصيل الفواتير". ويجزم العديد من موزعي البريد، بل أغلبهم، أن حقيبتهم الجلدية لم تعد تلقى نفس الترحيب الذي كانت تلاقيه من قبل الناس بعدما أصبح عملهم يفتقر للجانب الإنساني والاجتماعي نتيجة غزو تكنولوجيا الاتصال حياة الناس، تلك هي الكلمات التي قابلنا بها عدد كبير من موزعي البريد، وكلهم أسف مما يسمونه مساوئ العصرنة التي قللت من أهمية مهنتهم. وفي هذا الصدد، يقول عمي عمر:"كنت أدخل الأحياء سابقا فأقابَل بترحيب الكبار والأطفال وكلهم شوق لمعرفة ماذا أحمل لهم في جعبتي من رسائل تدخل السرور عليهم من قريب مسافر أوابن مغترب ينتظر الجميع أخباره، أما اليوم فأنا بالنسبة لهؤلاء نذير شؤم لا يأتي لهم إلا بفواتير للدفع، وكشوف الامتحانات، والاستدعاءات.. وغيرها، بعدما حلت رسائل"الأس، أم، أس" محل الرسائل المكتوبة". فيما راح زميله يلوم التكنولوجيا التي قال إنها استبدلت الظرف والطابع البريديين برسالة إلكترونية تبعث بضغطة زر واحدة، إلا أنه مؤمن بصمود مهنته طالما هناك مواطنون لايزالون متمسكون بالبريد العادي من خلال إرسال البطاقات الخطية أوالهدايا الرمزية، وطالما لايزال الكثيرون يستمتعون بالتعبير عن مشاعرهم في ورقة يرسلونها لشخص يعنيهم ينتظر تلك الرسالة بشوق. .. ومصلحو الزجاج يعتزلون بعدما اعتدنا كل صباح على رؤية عربات مصلحي الزجاج الحاملين قطع الزجاج بأنواع ومقاسات مختلفة، وهم يجوبون الشوارع في رحلة بحث عن زبون، تسبقهم نداءاتهم بأصوات عالية جهورية تعلن عن قربهم من الحي، فيتسارع إليهم كل من كان زجاج منزله أو دكانه بحاجة للتصليح.. عمي الهادي هو أحد مصلحي الزجاج القدامى بالعاصمة، ترك هذه المهنة بعدما تجاوز سنه ال70، يروي لنا حيثيات مهنته التي لازمها أكثر من 40 سنة قائلا:"أجمل ما كان يميز عملي هو الاحتكاك الدائم بالناس، فالزبون يتحول إلى صديق بعد أن ندخل بيته ونتبادل أطراف الحديث عن مشاغل الدنيا وهمومها". أما عن صعوبات عمله يقول عمي الهادي:"مهنتنا تتطلب الكثير من الجهد والصبر، وكذا إمكانية كسب ثقة الناس لأن طبيعة عملنا تفرض علينا ولوج بيوت الناس لتصلح ما انكسر من زجاج النوافذ أو الخزانات". وفي سياق محدثنا أن اعتزاله للمهنة لم يكن له علاقة بسنه، بل بمردودها الذي لم يعد يكفي لسد رمق أهله بعد انتشار محلات تصليح الزجاج في أغلب الأحيان بعدما لم يكن لها وجود في الماضي، مضيفا أن غزو نوافذ الألمنيوم لم يترك مجالا لنشاط هؤلاء المصلحين الذين يكاد يجزم عمي الهادي أنهم سيختفون في قرابة العام على الأكثر. الأحذية الصينية تقلل من نشاط الإسكافي كانت مهنة الإسكافي من بين المهن التي لاقت إقبال العديد من الجزائريين في الماضي، لا سيما أنها لا تتطلب مستوى دراسيا ولا خبرة عالية، إنما تعتمد فقط على معرفة تقنيات بسيطة في ترقيع الأحذية وخياطتها، غير أن العارفين بأصول هذه المهنة يجمعون أنها لا تعيش عصرها الذهبي، هذا الأخير الذي قضت عليه الأحذية الصينية المتميزة بسعرها الزهيد والتي إذا اهترأت لا تترك مجالا لترقيعها. عمي سليمان، 60 سنة، التقينا به في ساحة عمومية بالأبيار رفقة عدد من زملائه في المهنة الذين أصبحوا يعدّون على أطراف الأصابع، يقول "تقلص عدد زبائننا كثيرا حتى أصبحنا لا نستقبل سوى الأحذية الغالية ذات الجودة العالية التي لا يتنازل عنها أصحابها إذا تمزقت، أما تلك الأحذية الصينية التي غزت المحلات فاهتراؤها يوجب التخلص منها، لأنها لا تترك المجال لترقيعها".
الطرّاح وبائع الأثاث القديم صامدان خلال جولتنا بشوراع العاصمة، لاحظنا امتلاء الجدران بأرقام هواتف كتب فوقها طرّاح. ورغبة منا في معرفة هوية هؤلاء قمنا بالاتصال ب 8 منها، وإذا بنا نتفاجأ بسن هؤلاء الذي لم يتجاوز ال27 سنة على أكثر تقدير، هم شبان اختاروا هذه المهنة بعدما لقنوها من آبائهم وجداتهم، وجعلوا منها مصدر لكسب رزقهم. مهدي 23 سنة، من حسين داي، هو أحد هؤلاء الشباب الذي لم يبق مكفوف اليدين وواجه البطالة بامتهانه حرفة المنجد التي يقول عنها:"بالرغم من اهتمام الناس في الوقت الحالي باقتناء الأفرشة المريحة التي تعرضها المحلات الراقية، إلا أن ذلك لم ينقص من قيمة ما نقوم به، فعادة "تطراح الأفرشة" لاتزال بالنسبة للكثيرين مترسخة، خاصة فيما يتعلق بجهاز العروس الذي يجب أن يتضمن أفرشة صوفية نقوم نحن بتطريحها. وظلت مهنة بائع الأثاث القديم صامدة في وجه التقدم، الأمر الذي يترجمه عربات هؤلاء الباعة المصحوبة بصيحات التجار التي لاتزال تجول شوارع العاصمة بأعداد كبيرة. ولم يعد العاملون بها مقتصرون على كبار السن، فالشبان كذلك دخلوا هذا العالم الذي قادتهم إليه الأعراف الأسرية وقلّة فرص العمل. هم شبان أغلبهم من الولايات الداخلية قدموا إلى العاصمة بحثا عن لقمة العيش التي ارتأوا أن يحصلوا عليها من خلال شراء الأثاث القديم من المواطنين وإعادة بيعه بعد إجراء تعديلات وتحسينات عليه، كما أجمع أغلبهم أن المواطنين هم من يشجعهم على المواصلة لما يسدونه لهم من خدمة تخليصهم من الخردوات المنزلية مقابل أثمان رمزية. حياكة الصوف تدخل قاموس الحرف المهددة بالزوال تعتبر مهنة حياكة الصوف إرثا توارثته سيدات وربات البيوت في الماضي عن جداتنا، حيث كنّ يتسابقن على حياكة وصنع مختلف الألبسة الصوفية التي يرتديها الأبناء والأزواج، على غرار القمصان، القبعات والجوارب وغيرها، بابتكار أشكال ورسومات يدوية من وحي خيالهن. ولعل ما يعرف العامية "ليزيڤوي" ترجمة للكلمة باللغة الفرنسية، أو"الأسياخ" بالعربية، بنوعيها البلاستيكي والمعدني، كانت وسيلتهن لنسج أجمل الثياب، غير أنه لم يعد لها مكان في وقتنا الحاضر بعد غزو أحدث آلات الغزل والحياكة، وانصراف النسوة إلى العمل خارج البيت. من جهتها قالت لنا السيدة (ب.م) إن حياكة الصوف في الماضي من أرقى الحرف التي كانت سائدة في سنوات الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، مضيفة أنه "رغم وسائلنا البسيطة، إلا أننا كنا نحيك ملابس أنيقة تضاهي الملابس العصرية". وعن أنواع الموديلات التي كانت رائجة في عصرهن، قالت خالتي عائشة "أن غرزة الجاكار، الضفيرة وبوانكروا، بالإضافة إلى الياسمين العدسة، الفراشة وغيرها". أما عن أسباب ندرة هذه الملابس المصنوعة يدويا في المحلات، قال لنا صاحب محل بيع الملابس الصبيانية بشارع بلوزداد: "إن غزو الملابس المستوردة قضى على المحلية، خاصة تلك المصنوعة يدويا ولم يتبق منها سوى الأفرشة أواللحاف وكذا "الجاكيت" للمولود الجديد الذي تقبل على شرائها النساء الحوامل". .. وجمعيات تصارع من أجل إبقاء الحرفة بالرغم من ظهور وسائل عصرية لنسج وحياكة الصوف، إلا أن هناك بعض الجمعيات لاتزال تمتهن تلقين فن حياكة الصوف بالطريقة اليدوية للنساء والفتيات الراغبات في تعلمها، وفي هذا الصدد تقول السيدة وردة، رئيسة جمعية الأميرة بالعاصمة، "إن جمعيتنا تسهر على تعليم الفتيات أوالسيدات الماكثات بالبيوت مختلف الأنشطة التقليدية أو الحرف القديمة، على غرار الكروشي وحياكة الصوف". .. ومهنة الساعاتي تحتضر مهنة الساعاتي لا تحتاج إلى أن يكون صاحبها ذو تكوين أو تعليم عال، بقدر ما تحتاج إلى حنكة وسعة البال، يتفنن في إصلاح ساعات اليد أوالحائطية التي كانت تزيّن جدران البيوت في سنوات الماضية. وعن عوامل تراجع هذه الحرفة، يقول محمد، صاحب محل بشارع حسيبة بن بوعلي، إنّه ورث هذا المحل الذي يعود إلى الثمانينيات عن والده الذي علّمه أصول هذه الحرفة، ومنذ ذلك الحين وهو يداوم على تصليح الساعات بمختلف أنواعها وأشكالها، فمن الساعة السويسرية الشهيرة إلى الساعات الألمانية الفاخرة، وصولا إلى الساعات الصينية التي تحمل معها المعاناة في المضمون، تجعل من تصليحها أمرا لا يطاق. وعن السر في تصليح الساعات يقول المتحدث:"إنّ مهنة تصليح الساعات القديمة تتطلب من صاحبها أن يكون مبدعا ومتمكنا وأن يكون لديه صبر، لأن محركاتها صعبة ومعقدة وتتطلب دقة وحذر شديدين لضبط أجزائها الداخلية، وهذا ما يجب أن يمتاز به الساعاتي". ونوه ذات المتحدث إلى أن هناك العديد من مصلحي الساعات ذوي كفاءة مهنية ولم يجدوا الدعم اللازم للمحافظة على استمرارية هذه الحرفة وحمايتها من الزوال، خاصة مع ظهور التكنولوجيا الحديثة وانتشار الوسائل العصرية التي جعلت وجود الساعات أمرا لا يدخل ضمن الأولويات. كما أعرب عن تذمره وإصابته بالإحباط حين يأتيه زبون يحمل بين يديه ساعة من صنع صيني هي غير قابلة للتصليح في الأصل، لأن ثمن تصليحها يفوق ثمن اقتنائها. وأشار بعض المواطنين إلى أن هناك من يعشق امتلاك أشياء ثمينة حتى ولو كانت قديمة، حيث يركز بعضهم على قيمتها المعنوية أكثر من المادية، خاصة أن هناك من لايزال يحتفظ بالبعض منها من باب الذكرى، كالساعات الجيبية باللونين الذهبي والفضي من نوع "أوميغا" و"أورينت" التي تتدلى منها سلسلة تعلق على الجيب الخارجي للسترة، حيث كانت ترتديها الشخصيات البارزة في المجتمع آنذاك، كما كان يحملها أجدادنا في سنوات الخمسينيات والستينيات ويخبئونها في جيب المعطف أوالقشابية وغيرها، بالإضافة إلى الساعات الخشبية الحائطية ذات الاثنتي عشر دقة برقاصها النحاسي تزين معظم البيوت الجزائرية، غير أنه للأسف أصبحت ليس لها مكان في حياتنا بعد ظهور الساعات البلاستيكية أو تلك المصنوعة من المعدن. ندرة قطع غيار الساعات سبب ركودها يؤكد عدد من محترفي هذه الحرفة أنّ مشكل ندرة قطع غيار الساعات في الجزائر، تعد العائق الكبير الذي يقف في وجههم ويضطرون في الكثير من الأحيان إلى اقتنائها من خارج حدود الوطن، وهو الأمر الذي أثرا سلبا على هذه المهنة التي تعاني إهمالا ولامبالاة من قبل الجهات المعنية، مقارنة بالدول الأخرى التي يصنفونها ضمن أرقى المهن على الإطلاق.