بعد أن كان من المألوف رؤية مصلح الزجاج رفقة عربته المحملة بمختلف أنواع ومقاساة الزجاج أو مصلح الغرابيل والقصاع الخشبية، أو حتى المنجد (الطراح) والبرّاح الذين كانوا ينتقلون بلا كلل بين الأحياء تسبقهم النداءات التي يطلقونها بصوت عال جهوري، أصبحت هذه المظاهر جد نادرة في زمن احتلت فيه الآلة محل الإنسان وتراجع فيه هذا النوع من النشاطات لانحسار الحاجة إليها· الحاج لحسن آخر مصلحي الزجاج المتنقلين في العاصمة الحاج لحسن الذي يعد على الأرجح، أحد آخر مصلحي الزجاج المتنقلين على مستوى العاصمة، هو وجه معروف لدى سكان المدنية ''سالمبي'' وبئر مراد رايس والقبة، دأب منذ أزيد من خمسين سنة على الطواف عبر أحياء هذه المناطق التي يحفظ كل شبر فيها عن ظهر قلب في رحلة بحث يومية عن زبون، في وقت مضى كانت مهنة إصلاح الزجاج التي ورثنها عن عمي ذات وزن وقيمة فكل المنازل بحاجة إلى إصلاح نافذة انكسر زجاجها أو خزانة فقدت إحدى واجهاتها هذا ما قاله العم لحسن وكله أسى، وهو يضيف هذه المهنة التي تعيش آخر أيامها تتطلب الكثير من الصبر والتمتع بحب الناس وكسب ثقتهم، كيف لا وقد كان مصلح الزجاج المتنقل يلج إلى قلب المنزل، مع كل ما يعني ذلك من إطلاع على الأسرار، الأمر الذي كان آنذاك ليس بالمتاح حتى لبعض الأقارب، وعن مصير هذا النشاط يؤكد هذا الحرفي أنه من الطبيعي أن يندثر هذا النوع من المهن نتيجة اقتحام الآلة التي أصبحت تقوم بكل مراحل العمل من قطع وصقل في وقت موجز· أين مصلح الغرابيل والقصاع؟ صنع وتصلح الغرابيل والقصاع والهاونات (المهاريس) الخشبية حرفة شهدت هي الأخرى رواجا كبيرا خلال سنوات خلت غير أنها انقرضت اليوم بسبب عزوف ربات البيوت عن فتل الكسكسي، مفضلات ابتياع هذه المادة الأساسية جاهزة من محلات البقالة، فاليوم أصبحت السيدات القليلات اللواتي يأبين استبدال الكسكسي المنزلي مضطرا في التنقل لمسافات معتبرة لإصلاح أدواتهن الخاصة بالفتل قاصدات في ذلك أصحاب هذا النوع من المهن، والذين أصبحوا يعدون على أصابع اليد الواحدة ومن بينهم السيد بوعلام صاحب ال 67 سنة، ويعود بوعلام إلى الحديث عن بداياته في هذه المهنة التي تلقنها قبل 16 سنة بمسقط رأسه دشرة أولاد علي بأعالي تيزي وزو، فيقول ''لقد اخترت تعلم تصليح الغرابيل والقصاع التي كانت في تلك الفترة من أهم عناصر المطبخ القبائلي، بحكم أن نساء المنطقة كن يجتهدن في فتل الكسكسي أو عجن الخبز فكان بذلك تصليح مستلزمات العمليتين تجارة لها زبائنها الدائمين''· عولمة جارفة تزيح مهن إلى رفوف المتاحف وبانتقاله إلى العاصمة قبيل الاستقلال واصل عمي بوعلام ممارسة هذه المهنة التي مكنته من إعالة أسرته المكوّنة من تسعة أبناء، غير أنه ومع تغير الوقت والذهنيات لم يعد إصلاح الغرابيل نشاطا يدر ما يمكن به سدّ الرمق، الآن ومع تناقص الطلب تراجع عدد اللواتي لا يزلن يحافظن على تقليد فتل الكسكسي أو إعداد الخبز المنزلي أصبح التجول عبر الأحياء خاصة مع تقدمي في السن أمرا صعبا يتطلب مني الكثير من الجهد، ومما يهبط العزم مرور عدة أيام دون أن أحظي بزبون واحد· وقد دفعت هذه الوضعية بهذا الشيخ إلى كراء دكان بسيط يبيع فيه الأواني وأدوات المطبخ غير أنه بقي محافظا على خدمة إصلاح الغرابيل التي سيقوم بها عن طيب خاطر، في حال ما تقدمت إليه زبونة لا تزال متمسكة بتقاليد الزمن البسيط والجميل· ''الله يسمعكم بالخير'' بومطرف الطاهر بن محمد من مدينة بوفاريك فضل ومنذ زمن طويل تولي (مهمة إعلامية) من خلال احترافه لمهنة مغايرة تتمثل في نشر أخبار النعي وإعلام من يهمه الأمر بهوية المتوفين وساعة ومكان الدفن، هي مهنة قد تثير استغراب الكثيرين بحكم طابعها غير السعيد غير أنها تحمل بالنسبة لهذا البراح مفهوما اجتماعيا وإنسانيا نبيلا مبني على التواصل بين سكان المنطقة الذين تولى مهمة إعلامهم بأنباء الوفيات بأسرع وقت ممكن، بومطرف الطاهر المكني من طرف الجميع بعمي أحمد هو أحد الشيوخ الذي يعرفه الكبير والصغير ببوفاريك الذين يعلمون جيدا الأماكن التي يتواجد بها في العادة عند البحث عنه لتبليغه نبأ وفاة أحدهم لنشره في أوساط السكان بأكبر سرعة ممكنة، خاصة وأن المدة التي تفصل بين ساعة الوفاة ومداراة الميت للتراب هي في الغالب قصيرة، من منطلق تعاليم الدين الإسلامي التي توصي بإكرام المتوفي بالإسراع في دفنه، عملية البحث عن هذا البراح في أحياء وأزقة بوفاريك لم تكن صعبة حين يتواجد بالقرب من أحد مساجد المدينة أين يمضي جل وقته في الحديقة المحيطة به، أو في المقهى الكائن بمحاذاة المسجد، في إنتظار قدوم أحد من هم بحاجة الى خدماته، وبمقدمته الشهيرة ''الله يسمعكم بالخير'' يتسرع هذا البرّاح الذي يعتبر حسب قاطني المنطقة وما جاورها آخر محترف لهذه المهنة بالمتيجة، في تلاوة برقية التي صاغها على شكل خبر دقيق وقصير تضمن أهم عناصر الخبر، أي اسم المتوفي ولقب العائلي واسم والده وساعة ومكان الدفن· وسائل الاتصال تخطف مهنة عمي الطاهر وعن بداياته في هذه المهنة التي طواها وتجاوزها الزمن بحكم انتشار وسائل الإتصال الحديث من هواتف نقالة وأنترنيت، وغيرها، يقول السيد بومطرف الطاهر أنه أصبح براحا رسميا لمدينة بوفاريك سنة 5791 بعد تنحي سلفه، حيث وقع الاختيار عليه لتجربته التي اكتسبها من خلال مساعدة البراح السابق خلال سنوات الثورة بالإضافة إلى معاناته من عدة علل لا تمكنه من ممارسة مهنة أخرى، وعلى الرغم من سنه المتقدم 67 سنة وأمراضه الكثيرة التي أضفت عليه أعواما أخرى إضافية، يبقى آخر براح بالمتيجة يصارع الظروف المزرية التي يعيشها وينتقل عبر الأحياء مستعينا ب ''رفيقة دربه''، دراجته القديمة المتهالكة التي يخيل للرّائي أن كمية الأشرطة البلاستيكية التي استخدمها لتجميع ما تحطم منها تزيد عن كمية المعدن الأصلي، مهنته هذه علمته على الرغم من طابعها الحزين التواضع والتعامل مع الحياة ببساطة شديدة، يقول الطاهر الذي أكد أنه لا شيء يعيد للإنسان صوابه ويوقف انجذابه أمام المغريات الدنيوية مثل أخبار الموت ورؤية أشخاص دأبنا على رؤيتهم والاحتكاك بهم وعداد الراحلين، وحول مستقبل هذه المهنة الآيلة حتما للزوال، أبدى بومطرف الطاهر أسفه لاندثارها الوشيك ليختم قوله بأن أشد ما يفطر فؤاده هو أنه لن يكون هناك أحد ليعلن عن وفاته ساعة حدوثها، لتطوى برحيله آخر صفحة لهذه المهنة التي رافقت يوميات الجزائريين طوال عقود من الزمن· قد تكون العصرنة في نظر الكثيرين مفهوما مرادفا للراحة والترف، ومنبعها للكثير من الإضافات الإيجابية التي جاءت للتسهيل من مشاق الحياة اليومية، إلا أنها كانت بالنسبة للبعض الآخر السبب الرئيسي في تقليص حيز مصدر الرزق والقضاء على الكثير من المهن الصغيرة التي تلاشت نهائيا أو هي في طور الاحتضار