باتنة - يحكي عمي خليفة بن زديرة، الذي يعد أقدم الساعاتيين وأكبرهم سنا بعاصمة الأوراس باتنة بافتخار وشغف كبيرين عن قصة العشق الطويلة التي ربطته بالساعات منذ أكثر من 50 سنة . وفي جلسة حميمية جمعته ب"وأج" في يوم من يوميات رمضان مشمس داخل محله الصغير الكائن بشارع عمار عشي بوسط مدينة باتنة، أفضى عمي خليفة وهو منكب على تصليح ساعة ميكانيكية (تحفة) تعود إلى حوالي سنة 1800، بأن هذه المهنة تسري في عروقه . وأكد وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيه وكأنها دليل انتصار بعد أن وضع المكبر المزدوج جانبا على طاولة العمل مشيرا إلى الساعة التي أمامه والتي بدأت تتحرك، "متعتي الكبيرة عندما أسمع دقات مثل هذه الساعة القديمة تعود إلى الحياة وتشق الصمت متحدية الزمن الذي لم يعد زمانها اليوم بعد أن غزت الساعات الرقمية وخاصة ذات النوعية الرديئة السوق". وأشد ما يلفت الانتباه في مشهد عمي خليفة وهو بصدد إصلاح إحدى الساعات وضعيته حيث يجلس إلى طاولة العمل ورأسه مائل إلى الأمام وفي حين يظهر المكبر أو المكبر المزدوج مثبت على إحدى عينيه وعادة ما تكون اليمنى تداعب يداه بواسطة أدوات وآلات صغيرة أجزاء جد دقيقة من الساعة حيث يبقى في هذه الوضعية ساعة أو ساعتين ثم يرتاح هنيهة ويعيد الكرة إلى غاية إصلاح العطب وقد تطول المدة إلى حوالي ست ساعات يقول الساعاتي الذي أكد بأن العملية تتطلب تركيزا وصبرا كبيرين . ويروي عمي خليفة كيف أن مهنة الساعاتي في عائلته تورث أبا عن جد ويذكر بحنين أن بداياته الأولى مع عالم تصليح الساعات كانت مع عمه في سنة 1959 وعمره لا يتجاوز 16 سنة لينتقل بعدها إلى محل أحد المعمرين بمدينة باتنة أين كان عليه أن يسترق خبايا هذا العالم ويأخذ أسرار المهنة خفية عن رب العمل وتتوج مغامرته مع الساعات بفتح محله الحالي في سنة 1965 . فالساعات بعد هذه الرحلة الطويلة أصبحت عالمي الخاص والمفضل يضيف الساعاتي (الذي شارف على السبعين سنة وما زال يمارس مهنته بكل نشاط وحيوية وكذا جدية كبيرة) وأنا استمتع بمداعبة أجزائها الدقيقة كما يستمتع الموسيقي بالأنغام التي تصدر عن آلاته المختلفة. ولم يخف عمي خليفة بأنه كثيرا ما يعود إلى ساعاته القديمة والتي تحمل أختاما أصلية أغلبها سويسرية عندما ينتابه القلق أو الضجر وهو يشير إلى علبة كبيرة مخبأة بإحكام بأحد أركان المحل وتضم سلسلة من ساعات الجيب والساعات اليدوية والتي يعود أقدمها إلى العام 1800 فمجرد رؤيتها يضيف المتحدث والتأكد من سلامتها بعد هذه المدة الطويلة من الزمن أشعر براحة وسعادة لا يمكن وصفهما . وفي الحقيقة، يخيل لزائر محل عمي خليفة للوهلة الأولى بأنه متحف للساعات النادرة فهنا بالإمكان العثور على ساعات حائطية ومنبهات وساعات جاوزت القرنين من الزمن لكن اهتمام هذا الساعاتي الشغوف بها وحرصه عليها جعل منها تحفا فنية تستهوي الناظرين لاسيما تلك التي مازالت سليمة فقد استطاع ببصمة فنية فريدة من نوعها أن يعرضها للزائر ويجعلها تتحدث في صمت عن قيمتها الحقيقية في زمن طغت عليه السلع المقلدة وأصبح الأصيل فيه عملة نادرة . وحتى لوازم العمل اليدوية التي يستعين بها عمي خليفة في عمله الممتع والشاق في نفس الوقت نادرة ولم تعد متوفرة في السوق منذ أكثر من ربع قرن فمن طاولة المدار إلى الملقط والمفك وغيرها من الأدوات الصغيرة التي كانت تستعمل في فك الساعات وإصلاح الأعطاب جد الدقيقة بداخلها والتي لا يمكن رؤيتها سوى بمكبر مزدوج جد صغير بحجم العين ليجعل منها عمي خليفة تحفا أخرى إلى جانب ساعاته الأصيلة والنادرة . وعلى الرغم من تراجع مهنة تصليح الساعات إلا أن عمي خليفة يحتفظ بزبائنه حتى من خارج الولاية الذين كثيرا ما يعهدون إليه بساعات جيب أو يد أو ساعات حائطية وكذا منبهات هي في الغالب تذكار أو هدية من شخص عزيز وحتى قطعة لهاوي مجموعات لأنه ببساطة ملم بدقائق هذه المهنة التي أحبها وتفنن في ممارستها إلى حد تتبع مستجداتها عبر ما كان ينشر عنها عبر أبرز دليل للساعات السويسرية والفرنسية ليدفعه حبه الكبير لهذا العالم إلى المشاركة في بعض المعارض الدولية للساعات ومنها معرض باريس في سنة 1982 وبال السويسرية في سنة 1986 . ويحاول عمي خليفة حاليا نقل أسرار ما تعلمه طيلة مشواره مع الساعات إلى ابنه مسعود المدعو بيطاط مبديا استعداده الكامل للتطوع من أجل تعليم الراغبين من الشباب في تعلم هذه الحرفة لاسيما من متربصي مراكز التكوين المهني الذين يفتقدون إلى الأعمال التطبيقية في هذا المجال. وتركنا عمي خليفة منكبا على إصلاح إحدى الساعات النادرة التي قال لنا بأنها ساعة حائطية دون حجر وتعود إلى حوالي العام 1865 لنغادر محله المتواضع الذي مازال يحتفظ بين جدرانه القديمة بأسرار أجود الساعات وأقدمها ونحن مبهورين بما رأيناه ومعجبين بالساعاتي الذي يظل الوقت عنده من ذهب.