الدكتور السعيد شيبان (*) عاش تجربة نضالية غنية بدأت من ثانوية مليانة خلال الموسم الدراسي 43 / 44، وكان من أبرز أطوارها مشاركته - ضمن مجموعة ثانوية بن عكنون (1) - في انتفاضة 24 مايو 1945 تعميما لانتفاضة شرق البلاد، ردا على مجازر 8 مايو من نفس السنة. في الحلقة الأولى من شهادته نتعرف بالتفصيل على هذه المجموعة، وعلى الدور الذي أسند إليها في "انتفاضة 24 مايو" التي ما لبثت قيادة حزب الشعب الجزائري أن عدلت عنها كما هو معروف، بعد القمع الوحشي الذي ضرب فئات عريضة من المناضلين الوطنيين دعامة الشعب الجزائري، لا سيما في مناطقة سطيف وخراطة وڤالمة وعين عبيد... نشأ الصبي السعيد شيبان وسط عائلة متعطشة للعلم، فقد كان والده محمد البشير متعلما باللغتين العربية والفرنسية، حريصا على تعليم أبنائه حتى أنه دعا أمام الكعبة الشريفة بالنجاح لابنه الأكبر عبد الرحمان وبالتوفيق لمعلميه كذلك. بدأ السعيد تعليمه الابتدائي بمدرسة باديس في أعالي مشدالة، وكانت تبعد عن مسكن العائلة ببضع كليومترات، يضطر إلى قطعها صباح مساء رفقة شقيقه الأكبر وبتحفيزه! التحق بالمدرسة في أكتوبر 1931 ليغادرها في مايو 1937، وقد نال الشهادة الابتدائية التي انتقل للامتحان فيها حتى مدينة البويرة! كانت أقرب إكماليتين إليه يومئذ: إكمالية سور الغزلان وإكمالية الباستور "رولان" في تيزي وزو! غير أن "مجلس العائلة" - المتكون من الوالد والأعمام - قرر إرسال التلميذ الناجح إلى ثانوية بن عكنون - في العاصمة - على نفقة الجميع. انتقل إلى ثانوية بن عكنون (المقراني حاليا) في أكتوبر 1937، رفقة والده الذي لم يتحرج أن يطلب من مديرها السماح لابنه بأداء فريضة الصلاة، طبعا وافق المدير لكن بشرط: أين يتم ذلك ليلا بعد تناول العشاء! وبناء على ذلك، لم ينس الوالد أن يجهز التلميذ الداخلي بلوازم الصلاة من سجادة وإبريق للوضوء! لم يكن "صاحب السجادة" شاذا بين أقرانه من النصارى واليهود يومئذ.. فقد كان يستيقظ كل أحد على الساعة الرابعة والنصف فجرا، مع التلاميذ المسيحيين الداخليين الذين يأتيهم خصيصا قس من الأبيار لإقامة القداس.. فكان يستغل الفاصل بين القداس والفطور لمراجعة دروسه أسوة بنظرائه من اليهود، ويخبرنا بالمناسبة أن زملاءه النصارى كانوا يتلقون صبيحة كل خميس دروسا في التربية الدينية، وأن إدارة المدرسة عينت إماما لتقديم دروس في التربية الإسلامية له ولأمثاله، لكنهم لم يروا لهذا الإمام من أثر! قبيل اختتام السنة الدراسية شارك التلميذ شيبان في مسباقة للحصول على منحة من عمالة الجزائر (الولاية)، وكان من الناجحين، وشكلت تلك المنحة متنفسا كبيرا له حسب قوله! وتوجت السنة الأولى الإكمالية كذلك بنجاح دراسي، تمثل في الحصول على جائزة الامتياز التي حصل بموجبها أول مرة في حياته على كمية من الكتب من مؤسسة "بدان". وقد أمضى جزءا من العطلة الصيفية في مدرسة الحياة ببجاية التي كان يسهر عليها آل شنتير من تلامذة الشيخ عبد الحميد بن باديس، لتحسين مستواه في اللغة العربية التي حفظ مبادئها في مدرسة قرآنية بالشرفة مسقط رأسه. ومرت السنة الثانية على نفس وتيرة سابقتها، لكن في بداية الموسم الدراسي 39 / 40 حدث ما لم يكن في الحسبان: لقد اندلعت الحرب العالمية الثانية فتحولت الثانوية إلى مستشفى عسكري، وتم تبعا لذلك نقل تلامذتها إلى مدرسة المعلمين ببوزريعة. دامت الهجرة إلى بوزريعة موسما كاملا، ليعود التلميذ شيبان وزملاؤه إلى ثانويتهم الأصلية التي تخرج منها في ختام الموسم 41 / 42 حائزا على شهادة التعليم المتوسط، وعدد من الجوائز الشاهدة على تفوقه.. وقد كتب لوالده أن يحضر حفل اختتام الموسم، بعد أن أشرف على الهلال في ربيع نفس السنة جراء وباء التيفوس الذي ألم بالناحية. في الموسم الدراسي الموالي انتقل إلى ثانوية "بيجو" (الأمير عبد القادر حاليا)، لكن لفترة قصيرة، لأن المؤسسة تعرضت للقصف بعد إنزال الحلفاء ابتداء من 8 نوفمبر 1942، وقد أدى ذلك إلى مقتل مديرها. انتهى الموسم الدراسي 42 / 43 إذاً مبكرا بالنسبة للتلميذ شيبان وزملائه فعاد مضطرا إلى ناحية مشدالة، ليواصل دراسته مع ذلك بالمراسلة عن طريق مدرسة خاصة، وكان إلى جانب ذلك يواظب على دروس الشيخ أرزقي شبانة بالمسجد العتيق في الفقه خاصة. وفضلا عن ذلك استفاد من مكتبة شقيقه عبد الرحمان الطالب بالزيتونة الذي تعذرت عليه العودة في ذلك الموسم جراء الحصار المفروض على تونس، والحرب الدائرة على ترابها بين الحلفاء وقوات المحور بقيادة المارشال رومل. وكانت مكتبة غنية تجمع بين كتب التراث والمجلات الحديثة، على غرار "الرسالة" لصاحبها حسن الزيات. وصادف أن عاش في ربيع 1943 حدثا مغاربيا فريدا: المشاركة في استقبال أسرة الباي منصف التي نزلت ضيفة على الشريف الحسيني القائم على زاوية البوجليلي.. وكانت في طريقها إلى منفى باي تونس في شرشال أو تنس. (*) متخصص في طب العيون ووزير سابق للشؤون الدينية، ولد بالشرفة دائرة مشدالة (البويرة) في 2 أبريل 1925، وهو شقيق الشيخ عبد الرحمان شيبان الرئيس السابق لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين. (1) كانت إكمالية فقط حتى أواخر الحرب العالمية الثانية. في الحركة الكشفية.. فوج محمد بوراس ^ عاش التلميذ السعيد شيبان تجربة جديدة خلال الموسم الدراسي 43 / 44، بعد أن ظلت ثانوية "بيجو" في العاصمة موصدة الأبواب جراء الحرب، فقد نقل ورفاقه إلى ثانوية مليانة التي استقبلتهم في ديسمبر 43 بشتائها القارس. وقد التحق مباشرة بالسنة الثانية بناء على ملفه المدرسي، لا سيما نتائجه الحسنة خلال المرحلة الإكمالية في بن عكنون. هذه التجربة الجديدة واكتبها تجربة أخرى: الانضمام إلى الحركة الكشفية عبر ذات الفوج الذي كان أسسه الشهيد محمد بوراس، وكان على رأسه يومئذ بوزار وعبد المالك حمدانة. وبواسطة هذه الحركة تلقن أبجدية النضال الوطني، ليس لما تتضمنه الأناشيد والممارسات الكشفية من إيحاءات وطنية فحسب، بل لما كان يأتيه عن طريقها من نشرات سرية مثل "لاكسيون" (العمل) من الجزائر والكفاح من تونس.. وقد توطدت بفضل النشاط الكشفي علاقاته بزملاء سابقين من إكمالية بن عكنون، أمثال حسين آيت أحمد ومحند إيدير آيت عمران، وكذلك زملاء من مدرسة المعلمين ببوزريعة، من بينهم عمر أوصديق وعمار ولد حمودة وعلي العيمش.. وكانت حكومة فيشي قد أغلقت المدرسة، بدعوى أنها "أصبحت وكرا للحركة الشيوعية"! وكان جل هؤلاء على علاقة بتنظيم حزب الشعب الجزائري الذي ينشط سرا - بعد حظره عشية اندلاع الحرب - فأخذوا يراقبون زميلهم شيبان عن كثب، قبل ترشيحه ليكون مناضلا متربصا في هذا التنظيم. هذا النشاط الكشفي والنضالي لم يمنع التلميذ المجتهد من تحقيق هدفه الدراسي لذلك الموسم: النجاح في القسم الأول من البكالوريا أثناء دورة يونيو 1944. وقد أتاح له هذا النجاح فرصة حضور الحفل الذي أقامه نادي الترقي بالعاصمة على شرف الناجحين من أمثاله، وكان من خطباء الحفل والشيخ أحمد توفيق المدني. وشهدت العطلة الصيفية تنظيم مخيم كشفي وطني بتلمسان، كان التلميذ الناجح من المشاركين فيه، وكانت مرحلة السفر بالقطار من وهران إلى عاصمة الزيانيين زاهية حافلة بالنشاط والحماس، بفضل ترديد الأناشيد والقصائد والخطب، ويتبادل الترحيب مع الأفواج اللاحقة بالركب على امتداد المسافة بين المدينتين، وكانت الرحلة تحت إشراف مؤطرين كبار، من بينهم الشيخان محمود بوزوزو ومحمد الغسيري.. وفي تلمسان اكتشف المدينة والعمارة الإسلامية الأندلسية، وبعض آثارها مثل المكان الذي درس به العلامة ابن خلدون، فضلا عن العبّاد ولوريط حيث أقيم المخيم.. كما اكتشف كذلك بعض الأطباق الحضرية، مثل اللحم الحلو الذي تناوله أول مرة! وقد زار المخيم وجوه بارزة أمثال فرحات عباس والشيخ البشير الإبراهيمي الذي أم المشاركين فيه لصلاة الجمعة بالقرب من دار الحديث، حيث ألقى خطبة مؤثرة حسب الشاهد، كما زارت المخيم شخصيات فرنسية، من بينها "روني كابتان" عضو الحكومة المؤقتة برئاسة الجنرال دوغول. وعقب عودته من تلمسان إلى مسقط رأسه وجد بانتظاره مفاجأة سارة: عقد زواجه من ابنة عمه وابنة خالته في نفس الوقت! .. ومر قطار الخميس بمشدالة! ^ في بداية الموسم الدراسي 44 / 45 عاد التلميذ السعيد شيبان إلى بن عكنون، بعد تحويل الإكمالية السابقة إلى ثانوية، التحق بالقسم النهائي من شعبة الرياضيات رفقة محند إيدير آيت عمران، بينمنا التحق كل من عمر أوصديق وعمار ولد حمودة بنهائي شعبة الفلسفة، وكان حسين آيت أحمد وعلي العيمش ما يزالان في السنة الثانية - سنة القسم الأول من البكالوريا. كان الموسم الجديد - مثل سابقه في مليانة - يبدو واعدا بالنشاطات النضالية: في ديسمبر 1944 عقدت "جمعية التلاميذ المسلمين بمعاهد وثانويات الجزائر" اجتماعها العام السنوي بمدرسة باعزيز بن عمر - التابعة لجمعية العلماء - بالأبيار، وقد توج الاجتماع بانتخاب أمانة وطنية جديدة برئاسة التلميذ السعيد شيبان.. وكان من الذين سبقوه في نفس المنصب المناضل الكبير عبد الرحمان كيوان. وفي يناير 45 وضع التلميذ آيت عمران نشيده "أكر أميس أمازيغ" (انهض يا ابن الأمازيغ) الذي سارع حزب الشعب الجزائري بضمه إلى قائمة الأناشيد الوطنية مثل "موطني"، "فداء الجزائر"، "من جبالنا"، "شعب الجزائر مسلم"... ومنذ مطلع نفس السنة تعرف شيبان ورفاقه على مناضل يتستر بالمتاجرة في الخضر يدعى واعلي بناي، كانوا يجتمعون به بين الفينة والأخرى - أيام العطل خاصة - بمقهى يقع في شارع "بوتان" غير بعيد عن جامع كتشاوة، هذا المقهى كان بمثابة مدرسة نضالية، إذ كان يتردد عليه كبار المناضلين في حزب الشعب، لا سيما العائدين منهم من محتشد جنين بورزق (عين الصفراء) وما يحملون معهم من تجارب غنية. استمرت العلاقة بالمناضل بناي على النحو السالف إلى غاية 8 ماي 1945. بعد ظهر ذلك اليوم سمع شيبان ورفاقه ببن عكنون أنباء غير سارة، فسارعوا للاستفسار من مقر الحزب بساحة "شارتر" (عمر القامة حاليا). وبعد تمام أسبوع فاجأهم بناي بزيارة غير منتظرة إلى الثانوية، في ساعة الاستراحة ما بين الرابعة والخامسة عصرا.. لقد جاء ينقل إليهم باختصار أمر قيادة حزب الشعب السرّي، بتعميم انتفاضة الشعب التي اندلعت في شرق البلاد بدءا من سطيف وڤالمة خاصة! وكان الأمر بصيغة طلب متطوعين للالتحاق بالجبال فورا! لبى نداء الحزب السعيد شيبان، ررفقة أوصديق والعيمش وآيت أحمد وولد حمودة، واعتذر آيت عمران بسبب المرض.. وفي فجر اليوم الموالي (الأربعاء) "تسلق الخمسة جدار" الثانوية، ليجدوا أنفسهم في تيزي وزو حيث قضوا ليتلهم الأولى وحضروا ليلة الجمعة اجتماعا لنحو 50 مناضلا، على ضوء القمر جنوب تيزي وزو ترأسه كل من سيدي علي حاليت ومحمد زروالي. وهناك عرفوا طبيعة المهمة التي تطوعوا لها: المشاركة في تعميم انتفاضة شرق البلاد ابتداء من مساء 23 مايو.. بتخريب السكك الحديدية وأعمدة الهاتف والبرق ومهاجمة مراكز الشرطة والدرك.. وكلف بناي وتلامذة بن عكنون بمهام محددة في مسقط رأسهم عامة، فانتدب هو شخصيا لناحية جمعة - ن - صريج، وانتدب العيمش لناحية تيزي راشد، وول دحمودة لتاسافنت أوڤمون.. بينما بقي أوصديق وأيت أحمد بالمنطقة. أما شيبان فقد انتدب لناحية مشدالة بهدف محدد: مهاجمة مركز الدرك هناك، وطلب منه لتنفيذ مهمته الاتصال في عين المكان بالمناضل أحمد أومزيان وخليته.. اتجه أولا إلى عين الحمام، وبفضل مساعدة المناضل الشريف بن قداش تمكن من الوصول إلى مسكن العائلة، فجر 19 مايو قبيل عطلة "البانتكوت".. اتصل فورا بأحمد أومزيان في مشدال، وفي اليوم الموالي اجتمعا معا في بني منصور بمناضلين آخرين هما الحاج علي أوصافية وحموش أبركان. لم يخبر التلميذ شيبان أحدا من أفراد عائلته، ماعدا صهره الحاج عبد القادر.. كان هذا الأخير صيادا وهو الذي علمه كيف يصنع الخراطيش حتى الكبيرة منها (12 مم). عقدت خلية أحمد أومزيان اجتماعا ثانيا في بني منصور، استعدادا للحظة الحاسمة ليلة الخميس 24 مايو. وكان المفروض أن تجتمع الخلية مرة ثالثة وأخيرة، وتنقل شيبان لهذا الغرض إلى المكان المعهود، لكنه لم يجد أحدا.. عاد أدراجه إلى مشدالة بحثا عن أحمد أومزيان فلم يجد له أثرا. ترى مذا حدث للخلية؟ هذا السؤال بقي لغزا إلى يومنا هذا، بعد استشهاد أوصافية وحموش في ثورة التحرير، ووفاة أومزيان دون أن يجرؤ الشاهد على سؤاله. وبنوع من الاعتداد والثقة أسر التلميذ لوالديه أن قطار الخميس لن يمر بمشدالة، تحسبا لنتائج عمليات تخريب السكة المخطط لها مساء الأربعاء! وأدرك والده الإشارة فذكر ابنه بمقولة الشيخ الحداد لوالده عزيز: "يا بني نحن لا نحب الفرنسيين، لكن بماذا نحاربهم؟!" مضيفا "لكن على بركة الله يا ولدي"! قطار الخميس مر مع ذلك بمحطة مشدالة! وفي نفس اليوم تلقى التلميذ برقية من ثانوية بن عكنون تستفسر عن غيابه.. فما كان من الوالد إلا أن نصحه بالعودة إلى مقاعد الدراسة، وبعد جدال وممانعة ركب القطار عائدا إلى بن عكنون. كان التلميذ آيت أحمد قد احتاط للأمر، فترك رسالة بمكتب المدير يبرر فيها غيابه ورفاقه بفرصة نقل، أتيحت لهم فاغتنموها تحسبا لعطلة "البانتكوت"! وفي محطة الثنية صعد آيت أحمد قادما من تيزي وزو، فصادفه بإحدى العربات ولم يكن يدري من أين أتى.. فلما عرف المهمة التي أسندت إليه، وكيف اختفت جماعته فجأة عاتبه قائلا: "لماذ لم تنفذ المهمة بمفردك؟!" فرد عليه: "لكن بماذا؟!". عرف شيبان لاحقا أن مهمته ورفاقه في مشدالة وبني منصور اصطدمت بعاملين: - عامل السلاح، فقد أرسلوا إلى جرجرة بحثا عن وسيلة لشراء أسلحة فكان الرد أن قيادة المنطقة في نفس وضعهم على هذا الصعيد. - عامل سوء التفاهم، فقد كان أحمد أومزيان يعتقد أن شيبان هو الذي نقل إليه الأمر بالانتفاضة ثم أمر التراجع عنها.. وفهم أن دوره ينحصر في التحضير المادي للانتفاضة.. ومادام لم يجد استجابة لمسألة شراء الأسلحة فقد انتهى دوره! (يتبع)