يواصل الكاتب المؤرخ محمد حربي في الحلقة الثانية من حديثه الخاص بصحيفة "الفجر" - تشريح فترة الرئيس الراحل أحمد بن بلة (1962 1965)، بالتطرق إلى قضايا دقيقة مثل: الخروج المبكر لمحمد بوضياف على نظام بن بلة بومدين، والتفكير في المعارضة المسلحة، ورأي حربي في هذا الإختيار الذي كان بمثابة "أقصر طريق إلى كنغلة الجزائر".. دور مجموعة من التروتسكين، بقيادة ميشال رابتيس، في إقناع الرئيس بن بلة باختيار "التسيير الذاتي" للوحدات الإنتاجية التي تخلى عنها المستوطنون الفرنسيون.. في حين أن الإختيار الوارد في برنامج طرابلس هو "المشاركة في التسيير".. وكيف كان "التسيير الذاتي" يحمل معه أسباب فشله، هذا الفشل الذي توقعه الكاتب المؤرخ مبكرا.. ويكشف حربي بالمناسبة أن مجموعة رابتيس أقنعت الرئيس بن بلة بضمه إليها كمجرد واجهة جزائرية! مصير الشيوعيين الجزائريين بعد حل حزبهم في خريف 1962، وموقف حربي من إدماجهم في جبهة التحرير: طمأن الرئيس أن لا خوف عليه منهم داخل الأجهزة، فهم قابلون للتكيف حتى مع مصالح الأمن!.. هاجس "كنغلة" الجزائر في منتصف نوفمبر 1962 شارك محمد حربي بصفته منسق الإدارة المركزية لوزارة خارجية الحكومة المؤقتة، في مهمة بلندن، لتوقيع اتفاق مع منظمة اليونسكو (*). ومن العاصمة البريطانية عرّج على باريس، حيث اجتمع بمجموعة معارضة يتقدمها محمد بوضياف، والعقيد صالح بوبنيدر القائد السابق للولاية الثانية. كانت المجموعة تنظر في كيفية مواجهة الأوضاع التي بدأت تفرض نفسها في الجزائر المستقلة، لصالح تحالف أحمد بن بلة وجيش الحدود بقيادة العقيد هواري بومدين. وكان السؤال المحوري المطروح هو: هل من الممكن التصدي لهذه الأوضاع بحد السلاح؟ طبعا لم يشجع حربي اختيار المقاومة المسلحة لعدة اعتبارات أهمها: 1 احتمال اندلاع حرب أهلية تزج بالجزائر في منحدر خطير، كالذي دفع إليه الكونغو (البلجيكي آنذاك)، فقد كان التخوف من هذا المآل قويا جدا، لأن طريق "كنغلة" البلاد كان قصيرا جدا كذلك. 2 صعوبة التصدي لجيش الحدود يومئذ باعتباره "القوة المنظمة الوحيدة"، هذه القوة التي كشفت ضعف نظام الولايات الداخلية، بدليل تفكك مجالسها بسرعة.. 3 أن الإحتكام إلى السلاح في مثل هذه الظروف من شأنه أن يسهل مهمة جيش الحدود في الإستيلاء على مقاليد الحكم.. بالنظر إلى هذه الإعتبارات دعا حربي إلى التريث قليلا، لأن الوضع القائم آنذاك حالة مؤقتة، طالما أن الكتلة القوية لم تكن متجانسة، وأن عملية تمايز الصفوف لم تتبلور بعد.. ومن ثم من الحكمة تحمل "المكتب السياسي" كسلطة فعلية، والسعي لديه لعقد مؤتمر وطني في أحسن الآجال.. فمن المحتمل أن تجد هذه الفكرة قبولا حسنا وسط "كتلة تلمسان" ذاتها.. هذه الخلاصة أغضبت بوضياف، لأنه كان يرى في آفاقها احتمال لجوئه المبكر من وطنه! بعد هذا "التوقف المضطرب" بباريس، عاد حربي إلى الجزائر يسلم مفاتيح الأمانة العامة للخارجية وملفاتها إلى الأمين العام الجديد، عبد المالك بن حبيلس، زميله السابق. حربي رابتيس: خلاف حول "التسيير الذاتي".. و"اشتراكية" بومدين بقي محمد حربي "بطالا" بعد ترك الخارجية بضعة أشهر، دون أن يمنعه ذلك من التعبير عن رأيه في مستجدات وطنه حديث العهد بالإستقلال على غرار قانون الجنسية، ومصير الشيوعيين بعد حظر الحزب الشيوعي الجزائري، فضلا عن مؤتمر الإتحاد العام للعمال الجزائريين. كان حربي مثلا مع إدماج الشيوعيين في جبهة التحرير الوطني، وحاول أن يقنع الرئيس بن بلة بذلك، وكانت حجته أن "الثورة الديمقراطية" هي الإتجاه الغالب في الحركة الشيوعية العالمية، ومن ثمة لن يصبح الشيوعيون "عنصر إزعاج" داخل الجبهة، وقد يتكيفون بسهولة مع الوضع السائد.. وحصل ذلك فعلا لاحقا، بدليل أن بعضهم لم يروا حرجا في التعامل مع مصالح الأمن!. في فترة "البطالة" أيضا ناقش حربي طويلا العناصر التروسكية التي آلتفت حول الرئيس بن بلة، من أمثال ميشال رابتيس وكلود سيكسو ولطف الله سليمان.. كانت هذه العناصر قد وضعت كتيبا اشتهر ب"الكتيب الأحمر"، اعتبرت فيه "برنامج طرابلس" برنامجا مناهضا للرأسمالية، وأن نظام الحكم يتجه نحو الإشتراكية، وأن الجيش هو القوة المحركة لهذا الإتجاه (1). اطلع حربي على كتيب التروتسكين، وكان يعرف منهم رابتيس منذ فترة اتحادية جبهة التحرير بفرنسا فلاحظ له أن مثل هذا التحليل الوارد في الكتيب مخطئ تماما، لأن قيادة جيش الحدود في نظره قيادة تسليطية، لا علاقة لها بالإشتراكية. رد رابتيس أن الأوضاع تسير على غرار التجربة الكوبية.. فعارضه حربي بأن الأمر مختلف، فالمجتمع الكوبي تقوده "انتلجنسيا" (فئة مثقفة) مسيسة جدا، تعيش في انسجام مع العصر والمحيط الدولي.. ولا تتوفر قيادة جيش الحدود على مثل هذه الخصال.. ونبه حربي محدثه أيضا إلى حقيقة أخرى: أن للوطنية الجزائرية تاريخا حافلا، يستند إلى أكفار ثابتة حول أهم المسائل المحلية والدولية.. قال رابتيس، بالمناسبة، إن الملاحظات الواردة في "الكتيب الأحمر" سجلت عقب مناقشات مطولة، مع أمثال عبد العزيز بوتفليقة وبلقاسم الشريف من رفاق بومدين خاصة.. وفي ختام المناقشة اقترح رابتيس على حربي الإنضمام إلى مجموعته، لأنها بحاجة إلى آرائه طبعا.. فضلا عن كونه جزائريا كذلك.. علما أن عناصر المجموعة كلها من الأجانب (2)، وليس من اللائق أن يظلوا وحدهم وجها لوجه مع الرئيس بن بلة، في مشروع على هذا القدر من الأهمية.. اعتذر حربي، لأن هذا الأمر لم يكن في دائرة اهتمامه يومئذ.. أثناء إعداد مراسيم مارس 1963 الشهيرة حول تسيير المزارع والوحدات الصناعية والسياحية، اتصل بعض الأصدقاء بحربي يستطلعون رأيه، فكان جوابه أن "لجنة الحمامات" التي وضعت مسودة برنامج طرابلس اعتمدت مبدأ "المشاركة في التسيير" وليس "التسيير الذاتي"، لأن البنية الإجتماعية في الجزائر ليست جاهزة لذلك بعد، ومن حججه في ذلك: أن الحركة العمالية ليست مهيكلة، فضلا عن غلبة الطابع الستاليني (التسلطي) على التقاليد الإجتماعية شبه الإشتراكية.. أن حديث العمال المهاجرين عن الإشتراكية يغلب عليه الغموض، ومن الصعب ترجمته إلى شيء ملموس. وبناء على ذلك نصح حربي بالتفكير في الموضوع جيدا، قبل إقرار اختيار التسيير الذاتي.. في بداية مارس 1963 استدعى الرئيس بن بلة حربي ليعرض عليه سفارة في إحدى البلدان الإشتراكية.. فاعتذر لما كان يشاع عنه من "تبعية" إلى المعسكر الإشتراكي، لأن ترشيحه يعني تثبيت هذه الإشاعة أو التهمة!. وأبدى بالمناسبة تفضيله سفارة بأحد الأقطار العربية.. فقرر الرئيس تعيينه سفيرا لدى لبنان.. وبناء على ذلك قدمت الخارجية طلب اعتماده رسميا، وجاءت الموافقة.. وأخذ فعلا يستعد للإلتحاق بمنصبه.. وفجأة استدعاه الرئيس من جديد، ليقترح عليه بناء على طلب رابتيس ومجموعته منصب "مستشار تقني مكلف بالقطاع الإشتراكي".. يقول حربي عن ذلك قبلتُ المشاركة في تجربة التسيير الذاتي شريطة أن تكون السلطة لرئيس اللجنة المنتخب لا للمدير المعين.. ولم أكن أظن أن الإدارة ستقبل بهذا النظام، أسوة بالإطارات الوطنية من الأجهزة الحزبية السابقة.. لكن الرئيس بن بلة قبل هذا التعديل، بعد إلحاح لطف الله سليمان عليه.. وبعد تعيين حربي أصر على مصارحة بن بلة بموقفه من: المكتب السياسي كسلطة فعلية.. جبهة التحرير التي لا يمكن أن تكسب الشرعية إلا بعقد المؤتمر. كان رد بن بلة بكل بساطة: "وهو كذلك بكل تأكيد!" وهكذا عين حربي في منصبه الجديد في 5 أبريل 1963. توقع مبكر لفشل "التسيير الذاتي" عين حربي مستشارا تقنيا برئاسة الجمهورية مكلفا بالقطاع الإشتراكي، كما سبقت الإشارة، ويعني ذلك مبدئيا أن الإشراف على القطاع يعود إلى الرئاسة.. لكن الرئيس بن بلة قبل عمليا تعدد الإشراف على القطاع، من وزارات الفلاحة والإقتصاد والسياحة.. كان المنطلق الأولى لحربي والمجموعة التي ينشط ضمنها أن القطاع الإشتراكي بمثابة كل مغلق، مرشح لأن يكون العمود الفقري لاقتصاد يسير نحو الإشتراكية. وكان التقرير الذي قدم للرئيس بن بلة من هذا المنطق، ينبه إلى أن تعدد الإشراف على القطاع من شأنه أن يعجل بانهياره.. كان القطاع الإشتراكي يعاني منذ البداية مشكلا أساسيا: تشكل معظم الوحدات المسيرة ذاتيا تلقائيا تقريبا، اعتمادا على أفراد العائلة والمعارف بالدرجة الأولى، بينما كان تصور حربي ورفاقه أن هذه الوحدات قائمة على العمال السابقين الذين بادروا بالإنتظام لمواصلة الإنتاج.. ولم يكن الأمر كذلك في الواقع، بعد انسحاب أو طرد العمال في العديد من الوحدات، وأكثر هؤلاء من العناصر ذات الخبرة في الإنتاج والتسيير.. كان من الضروري إذا مراجعة هذه التلقائية المنحرفة بسرعة.. غير أن الإتجاه الغالب آنذاك، كان مع الإسراع بإجراء انتخابات ديمقراطية بالوحدات الإنتاجية، في انتظار تطور الأوضاع لاحقا. ونظرا لتعدد الإشراف طرحت الإنتخابات ذاتها مشاكل مع وزارة الفلاحة واتحاد العمال. في مزرعة بوشاوي، مثلا، بادرت الوزارة بوضع علامة "مزرعة دولة" عند مدخلها، فتدخلت الخلية الرئاسية لتنبيهها أن علامة مزرعة مسيرة ذاتيا أنسب بناء على النظام المقرر.. وبعد تحكيم الرئيس بن بلة في الموضوع، قبلت الوزارة تغيير العلامة، لكنها مع ذلك ظلت سيدة الموقف عمليا. اكتشف فرع العاصمة لاتحاد العمال أثناء تحضير الإنتخابات وجود عدد هام من العمال المغاربة في كثير من المزارع، فاعترض على إشراكهم في الإنتخابات.. وبعد استشارة الرئيس بن بلة حسم الموقف لصالح إشراكهم، في انتظار مراجعة المرسوم لاحقا (لكن المرسوم المعني ظل على حاله؟!) اصطدمت الخلية الرئاسية أثناء عملية تحضير الإنتخابات في الوحدات الإنتاجية، المرشحة للتسيير الذاتي عموما بوضعيات مؤسفة.. وحتى بعد إجراء الإنتخابات، كان الأمر يستوجب إعادتها في بعض الحالات، ولم يكن ذلك أمرا سهلا.. ويلاحظ حربي أن مؤشرات الضيق بنظام التسيير الذاتي ظهرت بسرعة، في سكيكدة مثلا اتصلت به مجموعة من العمال ليلا خفية في إقامة الولاية، لتقول له متظلمة:"نحن عمال أجراء أعطونا مرتبا محددا، وكفانا من التسيير الذاتي!". كانت الخلية الرئاسية تفكر في التعجيل بالإصلاح الزراعي لتجاوز مثل هذه المشاكل وغيرها، ولتحطيم الفوارق بين القطاع الفلاحي التقليدي والعصري في نفس الوقت، وتقدمت بملف في هذا الشأن إلى اللجنة المركزية، المنبثقة عن مؤتمر أبريل 1964 لجبهة التحرير، لكن اللجنة ظلت تدوّر الحلف من لجنة إلى أخرى، حتى 19 يونيو 1965! مثل هذه الوضعية، ما لبثت أن شكلت ضغطا شديدا على لجان التسيير الذاتي.. التي لجأت للتخفيف منه إلى إدماج أعداد كبيرة من العمال الموسميين .. وقد أدى ذلك إلى تعطيل التسيير عمليا، بعد أن تضاعف عدد العمال من 3 إلى 4 مرات! واستولت عائلات كاملة على المزارع، كما حدث ذلك في بعض نواحي الهضاب العليا!. اقترح حربي على اللجنة المركزية معالجة وضعية الوحدات الواقعة بين أيدي عُصب بأتم معنى الكلمة.. نظرا لطابعها غير الإقتصادي، فضلا عن استحالة مراقبتها. وفي انتظار ذلك، ينبغي حل هذه الوحدات والتريث بعض الوقت، قبل الشروع في تأسيس حركة تعاونية بأتم معنى الكلمة. وقد حصل اتفاق واسع في هذا الشأن، بين مسير الأملاك الشاغرة في القطاعات الفلاحية والصناعية، السياحية، لكن عند عرض الملف على اللجنة المركزية رفضت تزكية الإتفاق. يقول الشاهد في هذا الصدد: إن العناصر آنفة الذكر، يمكن أن تساعد على فهم الفشل الفادح في قطاع التسيير الذاتي.. وأنه كان يدرك مسبقا أن التجربة مقبلة على هذا المصير.. لذا ما لبث بعد مؤتمر أبريل 1964، أن طلب إعفاءه من مسؤولية الإشراف على القطاع الإشتراكي. إعداد محمد عباس (*) طالع الحلقة الأولى في عدد 9 مايو من "الفجر" (1) انطلاقا من آراء فانون وبومدين: اعتبار جيش الحدود أمينا على "استمرارية الثورة" بعد الإستقلال. (2) رابتيس من اليونان، ولطف الله من مصر، وسيكسو من فرنسا، ومحمد الطاهري من المغرب.