يتناول الأستاذ محمد حربي في هذا اللقاء - بصراحة الشاهد والمؤرخ - أهم أحداث فترة الرئيس الراحل أحمد بن بلة، انطلاقا من موقعه آنذاك: سياسيا كأحد العناصر الفاعلة في "يسار" جبهة التحرير الوطني، وإداريا "كمستشار تقني" برئاسة الجمهورية مكلف "بالقطاع الاشتراكي"، مع الإشراف خلال سنة تقريبا على أسبوعية "الثورة الإفريقية"، خلفا للمحامي المناضل جاك فرجاس. يكشف لنا الكاتب المؤرخ أنه - على غرار العديد من المثقفين - لم يكن محظوظا لا مع الحكومة المؤقتة، ولا في ظل حكم الرئيس بن بلة! - في الحكومة المؤقتة الأخيرة - برئاسة بن يوسف بن خدة - رشحه سعد دحلب وزير الخارجية الجديد لمنصب الأمين العام، لكن بوالصوف - أحد الأقوياء الثلاثة - اعترض على ذلك، فقنع بتسمية "منسق الإدارة المركزية"! ودخل الجزائر فور إعلان الاستقلال في طائرة الحكومة المؤقتة - الطرف المهزوم في سباق السلطة! - بتلك التسمية المؤقتة التي لم تمكنه من توقيع اتفاق مع "اليونسكو" - باسم وزارة الخارجية - في منتصف نوفمبر 1962 بالعاصمة البريطانية! - ووجد نفسه عقب تعيينه - في أول منصب بعد الاستقلال - "مستشارا تقنيا"، على هامش الديوان الرئاسي، بدليل "عدم استفادته من الصحافة الأجنبية، ولا من النشرة الخاصة الموجهة للرئيس والمقربين إليه"! - وكان تعيينه مشرفا على أسبوعية "الثورة الإفريقية" - بدءا من أواخر يونيو 1963 - سيفا ذا حدين: كل عدد منها كان مثار متاعب لا تعد ولا تحصى مع كبار الوزراء، وفي مقدمتهم بومدين وزير الدفاع، وبومعزة وزير الاقتصاد الذي كاد أن يعتدي على شخصه، لولا اعتراض بن بلة! مثل هذه الظواهر تؤكد أن نظام الحكم الوليد لم يتبن فعلا محمد حربي الكاتب المثقف. لكن ذلك لم يمنعه من معايشة التجربة الجديدة من الداخل، وإفادتنا من خلال هذا الحديث الشيق بالكثير من خباياها! متاعب مثقف عائد في طائرة الحكومة المؤقتة! عاد المناضل محمد حربي إلى الجزائر ساعات بعد اعتراف الرئيس دوغول باستغلالها في 3 يوليو 1962، عاد في طائرة الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، بصفته "منسق الإدارة المركزية" لوزارة الشؤون الخارجية. ولهذه الصفة - التي تعني عمليا الأمانة العامة للوزارة - حكاية، فغداة تشكيل الحكومة المؤقتة الثالثة - والأخيرة - أسندت حقيبة الخارجية إلى سعد دحلب، وكان يتولى الأمانة العامة للوزارة - بالنيابة - يومئذ المحامي مبروك بالحسين الذي فضل الذهاب مع الوزير السابق بلقاسم كريم الذي عين وزيرا للداخلية. كان حربي يومئذ (سبتمبر 1961) سفيرا للحكومة المؤقتة لدى غينيا، فاستدعاه الوزير الجديد لتولي الأمانة العامة. لكن عند مناقشة الاقتراح على مستوى الحكومة، اعترض عليه عبد الحفيظ بوالصوف وزير التسليح والاتصالات العامة.. ومجاملة لزميله احتفظ دحلب باقتراحه، لكن بعنوان "منسق الإدارة المركزية" بدل التسمية المعهودة: أمين عام الوزارة! ونظرا لانشغال دحلب بالاتصالات السرية مع الفرنسيين ثم بالمفاوضات الرسمية، آلت شؤون الوزارة عمليا إلى السيد المنسق. وفي فجر الجزائر المستقلة وجد حربي وضعية خاصة، صعبت من مهمته في القيام بدوره كمنسق، في ظل وجود ثلاثة مراكز قرار على الأقل: الحكومة المؤقتة، كتلة بن بلة - بومدين التي ما لبثت أن برزت على الساحة باسم "المكتب السياسي"، فضلا عن "حكومة بومرداس" (الهيئة التنفيذية المؤقتة) برئاسة عبد الرحمان فارس. لم يكن في هكيل هذه "الحكومة" قسم للشؤون الخارجية التي وضعتها اتفاقيات إيفيان بين أيدي المحافظ السامي الفرنسي كريستيان فوشي. لكن عند رحيل هذا الأخير - إثر إعلان الاستقلال - ورث فارس صلاحياته في هذا المجال. استقل حربي بعدد قليل من المكاتب في مقر الولاية العامة (قصر الحكومة لاحقا)، ومكث هناك في حالة انتظار عمليا، إلى غاية تشكيل أول حكومة للجزائر المستقلة أواخر سبتمبر 1962. ومما زاد في تعقيد وضعية حربي ورفاقه أن وزيره سعد دحلب كان شبه مستقيل عمليا، لأنه لم يكن واهما تجاه مستقبله في ظل العهد الجديد! بحكم ارتباطه بالحكومة المؤقتة ورئيسها بن يوسف بن خدة خاصة. فكان عليه بناء على ذلك أن يلتزم الحذر ويراعي لعبة التوازن الحرجة - بين مختلف مراكز القرار - الواضحة منها والخفية! اضطر حربي مثلا إلى التدخل عدة مرات، منها على سبيل المثال: - أرسلت تونس السيد سليم بن غازي قائما بالأعمال، وكلف بطلب فتح ملف الحدوديين البلدين. رأى حربي أن الموضوع من الأهمية بحيث يستوجب إخطار المكتب السياسي الذي كان ما يزال بتلمسان حينئذ.. وعندما أخبر بن خدة بذلك لم يمانع، لأن المسألة تمس مصلحة البلاد. - اتصل السيد بيكس القنصل البريطاني بمنسق الخارجية، يطلب رأي الحكومة المؤقتة في الموضوع التالي: أن العروسي خليفة - من كتلة تلمسان - تقدم إلى بنك بريطاني، بصك لسحب مبلغ 200 مليون فرنك (ملياري سنتيم) فهل يترك البنك يصرف المبلغ؟ أم للحكومة المؤقتة اعتراض على ذلك؟ وكان رد بن خدة أن اعترض على سحب المبلغ المذكور. وحسب حربي أن مسؤول مالية الحكومة المؤقتة بالمغرب محفوظ عوفي وقع على الصك تحت التهديد! وبعد دخول المكتب السياسي إلى العاصمة في أوت 1962 أسندت مهمة الإشراف على الشؤون الخارجية - لأيام معدودة! - إلى محمد بوضياف.. ويتذكر الشاهد أن هذا الأخير مر بهم مر الريح ذات يوم، في خضم الصدامات المسلحة بين جيش الحدود ووحدات الولاية الرابعة، ليقول لهم عاتبا مؤنبا: "الجزائر تحترق بينما أنتم قابعون في مكاتبكم كعامة البيروقراطيين؟!". وطلب محمد خيضر أمين عام المكتب السياسي إثر ذلك وضع الشؤون العربية تحت إشرافه مباشرة! آلت الخارجية إلى محمد خميستي من حكومة أحمد بن بلة الأولى، فعين ديوانه متجاهلا وضعية "منسق الإدارة المركزية" الذي تم إشراكه صوريا مع ذلك في أمرين: - إعداد مشروع خطاب الرئيس بن بلة في الأممالمتحدة لترشيح الجزائر رسميا.. وكانت مساهمة المحامي جاك فرجاس متميزة، فاقترح حربي أن يتولى تحرير الخطاب.. لكن فرجاس اعتذر، مفضلا أن يتولى ذلك حربي.. وقد سحب خميستي المشروع من الاثنين في نهاية المطاف! توقيع اتفاق مع منظمة "اليونسكو" بلندن.. سافر حربي لهذه المهمة رفقة الأعرج سكيو من ديوان خميستي.. وكان الجانب "البروتوكولي" يقتضي أن يحمل الموقع صفة الأمين العام أو ما يعادلها.. وظن حربي أنه المؤهل الفعلي لذلك.. لكن مرافقة اعترض بأنه المؤهل للتوقيع دونه! ولم يكن يحمل الصفة! وقد اضطر ممثلو اليونسكو إلى مراجعة الخارجية التي رشحت - بعد استشارة بن بلة - المرافق سكيو. بن بلة.. "بطل الاتحاد السوفياتي"! ^ في أكتوبر 1962 كان رئيس الحكومة أحمد بن بلة يتأهب للسفر إلى نيويورك، ليرشح الجزائر رسميا لعضوية الأممالمتحدة. فتلقى بالمناسبة دعوة من الرئيس كيندي، للقيام بزيارة رسمية إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وبدأ التحضير للزيارة على قدم وساق. وفجأة قرر بن بلة أن يتبع الزيارة الرسمية إلى واشنطن بأخرى إلى كوبا! علم الأمريكان بذلك، فألغوا الطابع الرسمي للزيارة، واستقبل حربي بالخارجية السفير الأمريكي في هذا السياق، فلم يخف غضبه أمامه، واحتج لديه بلهجة لا تخلو من تهديد: "لا يمكن لزيارة كوبا أن تمر هكذا!". فما كان من حربي إلا أن أجابه: سعادة السفير نحن دولة مستقلة حرة في قراراتها، وأنتم أحرار كذلك فيما تقبلون أو ترفضون! ومع ذلك استقبل كيندي بن بلة في واشنطن، ما يدل على سمعة الثورة الجزائرية وإشعاعها آنذاك.. - لكن ماذا عن علاقة بن بلة بالقاهرة؟ وهل كان حقا "مثل الخاتم في أصبع الرئيس عبد الناصر" كما يشاع عنه؟ يقول حربي في هذا الصدد: لا شك أن بن بلة مدين لمصر في بروزه وتألقه، فهي التي جعلت منه طرفا محاورا في الشأن الجزائري. كيف حدث ذلك؟ كان محمد خيضر قد سبق إلى القاهرة بن بلة - وآيت أحمد - وهو الذي قدمه إلى مصالح الجامعة العربية هناك. قدمه بمناسبة مناقشة قضايا المغرب العربي، "قائدا لجيش التحرير الجزائري" الذي كان في طور المخاض يومئذ، لأن الثورة لم تكن قد اندلعت بعد. ونظرا لتحفظ نظام عبد الناصر على السياسيين عموما - خيضر وآيت أحمد فيما يخص الجزائر - مال تلقائيا إلى بن بلة لتكوينه العسكري، ولما يبديه من مسايرة له.. وقد كان كذلك فعلا في بعض الأحيان لكن ليس دائما. رافق حربي الرئيس بن بلة أثناء مشاركته في القمة العربية بالقاهرة (1964)، وبالطائرة أراد أن يعرف رأيه في موضوع العلاقات العربية. فنصح أولا بالتزام نوع من التوازن، على أساس أن علاقات الجزائر آنذاك كانت تبدو مختلة لصالح القاهرة.. ونبهه ثانيا إلى تصرفات السفير المصري علي خشبة ومساعده (أحمد) مهابة، وما تثيره من ردود فعل، يمكن أن تسيء إليه شخصيا.. وكان السفير ومساعده كثيرا ما يحاولان التدخل في شؤون داخلية محضة. كان رد فعل الرئيس على هذا التنبيه فوريا: طلب من حربي عند الوصول إلى القاهرة، أن يقول لمستشار عبد الناصر حسنين هيكل، (مدير الأهرام)، أن الجزائر ترغب في تعويض السفير خشبة. فعل حربي ذلك، بدون كبير اطمئنان، مخافة أن يتراجع بن بلة عن رأيه! وفي مطار القاهرة أكد بن بلة.. تمسكه برأيه، على طريقته الخاصة! حين سلم على الرئيس عبد الناصر، وتجنب السفير خشبة رغم أنه مد يده لمصافحته! وبخصوص علاقات الجزائر العربية يضيف الشاهد أن بن بلة كان منحازا إلى مصر. وليس في ذلك عيب باعتبارها أهم بلد عربي.. لكن كان ينبغي التزام بعض التوازن.. فقد كان بن بلة مثلا يتجاهل حزب البعث، رغم أهميته في كل من سوريا والعراق.. ولتفسير هذا التجاهل، يعتقد حربي أن ناصر عقد مع بن بلة نوعا من الاتفاق - غير المعلن - على تقاسم النفوذ في العالم العربي، يترك ناصر بموجبه لشريكه منطقة المغرب. ويعقد حربي في هذا السياق نوعا من المقارنة بين بن بلة وبومدين، فيذكر أن هذا الأخير عندما كان على رأس هيئة الأركان العامة، وجه رسالة إلى وزارة الخارجية تتناول موضوع احتمال تأثر الطلبة الجزائريين في المشرق العربي بالفكر الناصري أو بإيديولوجية حزب البعث، معتبرا ذلك خطرا على شبابنا. ويخلص حربي إلى نتيجة مفادها أن بومدين كان يفكر كوطني جزائري أولا، عكس بن بلة الذي لم يكن واضحا دائما في أفكاره المشتتة مغاربيا وعربيا! - غداة مؤتمر جبهة التحرير في أبريل 1964، دعي الرئيس بن بلة لزيارة الاتحاد السوفياتي بمناسبة احتفالات عيد العمال.. وكان حربي من مرافقيه. في موسكو اتصل به بوريس بونيومريف الملكف بالشؤون العربية في الحزب الشيوعي السوفياتي، ليخبره بأن الرئيس خروتشوف يرغب في تقليد الرئيس بن بلة وسام "بطل الاتحاد السوفياتي". لكن قبل ذلك، يود معرفة ما إذا كان بن بلة لا يرى مانعا. كان رأي حربي أن الوسام ربما يحرج بن بلة داخل الجزائر، وفي العالم العربي أيضا.. ونبه محدثه إلى رد فعل مصر، علما أن عبد الناصر لم يحصل على هذا التشريف، ويمكن أن يؤول ذلك سلبيا. نقل حربي اقتراح السوفيات، مشفوعا برأيه كما عبر عنه أمام بونيومريف. فأعرب بن بلة عن موافقته فورا دون نقاش! وقد تعرض بسبب ذلك فعلا إلى حملة من بعض وسائل الإعلام المصرية التي قرنت بين صداقة بن بلة للرئيس الكوبي كاسترو، وصداقة هذا الأخير للرئيس الإسرائيلي يومئذ! القفز على الجبهة.. أسهل من القفز على الجيش! ^ ذكر حربي ذات يوم مع امحمد يزيد الماضي الحزبي للرئيس أحمد بن بلة.. فتساءل يزيد: هل عرف بن بلة حياة الخلية والقسمة والاتحادية... إلخ؟! ويفهم من ذلك أن الرئيس الراحل لم يترب في بوتقة الحياة النظامية للحركة الوطنية، ومن ثمة لم تترسخ منعكساتها الشرطية، في سلوكه النضالي ومواقفه العملية. فقد التحق بحركة انتصار الحريات الديمقراطية، من بوابة الانتخابات المحلية و"المنظمة الخاصة" سنة 1947، دون أن يمر بالهيكل النظامي، أو يستفيد بعمق من دروسه وتجاربه. ويضيف حربي إلى هذه الخلفية عاملا آخر: أن الرئيس بن بلة كان - مثل الكثير من القادة - يميل إلى تجاوز الأجهزة التي تحت تصرفه. ويلتمس له عذرا في نفس الوقت، لأن جبهة التحرير كان غداة الاستقلال جهازا في طور التكوين، وسط أجواء من تنازع السلطة بشكل حاد. ومن ثمة كان من السهل القفز على خيضر وبيطاط، في محاولة جعل جبهة التحرير مركز السلطة والقرار. غير أن بن بلة أخطأ - في نظر حربي - في مسعاه الرامي إلى إرساء سلطته، بالارتكاز على علاقة مباشرة مع الجماهير الشعبية؛ كماأخطأ كذلك في عدم الاهتمام الجدي بالجيش الذي كان بمثابة "المؤسسة المنظمة الوحيدة".. فقد تبين - من خلال انقلاب 19 يونيو 1965 - أن اعتماد بن بلة على "شعبيته" لم يكن كافيا، لردع الجيش عن الكيد له والإطاحة به. (يتبع)