نشرت صحيفة المجاهد (*) بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين للثورة، شهادة للرئيس رابح بيطاط حول التحضير لفاتح نوفمبر 1954. وفي 7 نوفمبر 1979 بعث المناضل محمد بوضياف رسالة من منفاه بالقنيطرة في المغرب، إلى الفقيد عبد الحميد مهري وزير الإعلام والثقافة آنذاك، مرفقة بشهادة طويلة (1) حول نفس الموضوع، معربا عن أمله في نشرها ليطّلع الجزائريون عليها. واعتبر بوضياف في رسالته مبادرة بيطاط إبجابية، لأنها تشكل قطيعة مع العادات السيئة من جهة، ولأنها بحاجة الى إثراء وتدقيق من جهة ثانية". وتمنى بدوره أن تتعدد الشهادات، وأن تدلو أطراف فاعلة أخرى بدلوها.. "لأن لا أحد يملك ناصية الحقيقة بمفرده، ومن واجب الشهود الأحياء أن يساهموا في إضاءة هذه الصفحة من تاريخنا..." لم يستطع وزير الإعلام والثقافة يومئذ نشر شهادة رفيقه بوضياف، لكن قبل رحيله بفترة سلمنا نسخة منها، وكان يتحيّن المناسبة لنشرها في إحدى الصحف الوطنية. وقد ارتأينا بمناسبة الذكرى الخمسين نشر مقتطفات من هذه الشهادة، بعد أن ضاقت بها الذكرى ال 25 للثورة قبل 33 سنة. (*) عدد 1 نوفمبر 1979 (1) عبارة عن ملخص لشهادته التي سبق نشرها في الذكرى العشرين للثورة (نوفمبر 1974)، على صفحات "الجريدة" لسان حزب الثورة الاشتراكية آنذاك. وقد سهر شقيقه عيسى على إعادة طبعها أخيرا في دار القصبة.
نص رسالة بوضياف إلى مهري: "شهادتي تشجيع.. للقطيعة مع العادات السيئة.."! 7 نوفمبر 1979 محمد بوضياف وزير الإعلام عبد الحميد مهري أخي العزيز... استسمحكم وقد بادرت صحيفة "المجاهد" في عدد فاتح نوفمبر 1979، بنشر شهادة رابح بيطاط، حول الإعدادات التي سبقت فاتح نوفمبر، في أن أرسل إليكم ولهيئة تحرير الصحيفة روايتي عن هذا الحدث، وكلي أمل في أن يتمكن الجزائريون من الاطلاع عليها. إنني أقدم شهادتي تشجيعا لمبادرة إيجابية، تشكل قطيعة مع العادات السيئة السائدة، وإثراء وتدقيقا لما جاء فيها كذلك. وأعرب بدوري عن أملي في أن تتعدد الشهادات، وأن تتاح لآخرين فرصة تقديم مساهماتهم. وبودي أن أضيف في هذا الصدد، ومن حق الشهود الأحياء ممن عايشوا تلك الحقبة، أن يشاركوا في إضاءة هذه الصفحة من تاريخنا. إن وجهة نظر واحدة لايمكن أن تحتوي في تقديري، حركة على درجة كبيرة من التشعب والتعقيد، ومن بين الشهود الأحياء يمكن أن نذكر: بن طبال، والصوف، الزبير بوعجاج، عثمان بالوزداد، محمد مرزوقي، مشاطي، حباشي، العمودي... مع تحياتي الأخوية محمد بوضياف حذار من التعتيم.. على دور الشعب مهّد المناضل محمد بوضياف لشهادته بثلاث ملاحظات: 1- يكمن فضل رجالات فاتح نوفمبر في أنهم ترجموا عمليا، ما كانت أغلبية الجزائريين تفكر فيه وتتمناه. 2 - لايكفي لفهم ما حدث، الوقوف عند دور بعض "القادة التاريخيين". 3 - خطر التركيز على الأبطال، لأنه أحسن طريقة لتجاهل دور الشعب. ووقف في إطار الأحداث الممهدة لفاتح نوفمبر 1954 عند حدثين: أولا: أحداث مايو 1945 التي"أكدت بالدليل القاطع" أن الاستعمار لايمكن محاربته بغير الوسائل الثورية. هذه الأحداث تشكل لمناضلي جيلي بداية وعي وقطيعة في آن واحد: - الوعي بضرورة البحث عن طرق ووسائل تحقيق الاستقلال، وعدم الاكتفاء بالمطالبة به.. ذلك أن إقرار المجتمع الدولي حق الشعوب في تقرير مصيرها، لايكفي لتمكين هذه الشعوب من التحرر بالوسائل السلمية وحدها. - القطيعة مع مفاهيم النضال التقليدية وأنماط التنظيم السابقة، فتجربة "أحباب البيان والحرية" مثلا، كشفت أن تفعيل هذه المفاهيم والأنماط إلى أقصى حد، لم يكن كافيا لفتح طريق الاستقلال، بل لم يكن يمنع الاستعمار من ضرب هذه الحركة الشعبية وقمع قادتها ومناضليها.. فتلك الهجمة الاستعمارية النكراء أوضحت الموقف تمام الوضوح. - ثانيا: اختيار المشاركة في الانتخابات الذي جاء به الحاج مصالي بعد عودته من منفاه في خريف 1946. هذا الاختيار جعل العناصر الثورية من شباب الحزب خاصة ترد الفعل، فتطالب بإنشاء تنظيم شبه عسكري لترجمة قناعتها، بأن الاحتكام الى السلاح لا مفر منه لمواجهة الاحتفال الاستيطاني.. ومالبث هذا المطلب أن تجسد في قرار مؤتمر منتصف فبراير 1947، تأسيس "المنظمة الخاصة" الذي كان حدثا في غاية الأهمية. وجاءت انتخابات المجلس الجزائري في أبريل 1948 لتعزيز موقف أنصار الاختيار الثوري، بالكشف عن محدودية النضال في إطار الشرعية (الاستعمارية)، بعد أن أصبح الفعل الانتخابي مرادفا للتزوير والقمع: لقد أصبح التمادي على هذا النهج ليس مجرد خطأ سياسي، بل خيانة موصوفة". إعداد محمد عباس
"المنظمة الخاصة" أزمات منذرة بقرب الإعصار.. تأسست "المنظمة الخاصة" في غضون 1947 و1948، وتم اختيار عناصرها على أساس جملة من الخصال الذاتية: الاقتناع، الكتمان، الشجاعة البدنية، تحمل الحياة السرية.. وكان تعدادها يتراوح مابين 1000 و1500 مناضل، موزعين على خمس ولايات: وهران، وسط البلاد، العاصمة والمتيجة، جرجرة، قسنطينة. وشكلت أول قيادة أركانا لها من: -محمد بالوزداد قائدا - حسين آيت أحمد نائبا سياسيا - عبد القادر بالحاج الجيلالي نائبا عسكريا. وتم تعيين قادة الولايات كمايلي: - وهران: أحمد بن بلة - وسط البلاد: محمد مروك - العاصمة والمتيجة: الجيلالي الرجيمي - جرجرة: آيت أحمد ( بمساعدة عمار ولد حمودة). - قسنطينة: محمد بوضياف مالبثت المنظمة الخاصة أن عاشت سنة 1949 أزمتين جزئية وعامة: - أزمة جزئية خلال النصف الأول من السنة جرّاء ماعرف آنذاك ب "المؤامرة البربريية" التي أدت إلى تفكك وحل خلاياها بولاية جرجرة لتورط العديد من العناصر في هذه "المؤامرة" بدءا بعمار ولد حمودة نائب آيت أحمد ذاته.. وقد مست مضاعفات "المؤامرة" هذا الأخير بتعويضه على رأس المنظمة الخاصة بأحمد بن بلة.. في صائفة نفس السنة. - أزمة عامة تبلورت في أواخر السنة، بعد أن تسلل الملل إلى العديد من عناصر المنظمة، جرّاء طول الانتظار بدون آفاق. كانت هذه العناصر تتساءل: متى نشرع في الكفاح؟! وكانت قيادة الحزب عاجزة كل العجز، عن تقديم جواب واضح على هذا السؤال الهام. هذه الوضعية اتخذت أبعادا أخرى، إثر اكتشاف المنظمة في مارس 1950. واعتقال العشرات من عناصرها، بدءا بقائدها أحمد بن بلة ونائبه العسكري بالحاج الجيلالي.. طلبنا تعليمات من قيادة الحزب لمواجهة الموقف.. فكان الجواب: "أحرقوا الوثائق، ضعوا العتاد في مأمن، انتظروا..!" نجا من قادة المنظمة عبد الرحمان بن سعيد من الغرب، وبوضياف من الوسط، وبن مهيدي من الشرق.. بعد نحو سنة من الأخذ والردّ قررت قيادة الحزب حل المنظمة الخاصة، وإعادة إدماج الناجين من عناصرها في التنظيم السياسي.. طرحنا نحن الأربعة (بوضياف وكل من بن مهيدي وديدوش وبن بولعيد) في لقاء بالعاصمة على أنفسنا السؤال التقليدي: ترى ما العمل؟ طبعا لم يكن أمامنا من اختيار حينئذ غير الانتظار، مع وضع وسائل عمل المنظمة في مأمن، ونعني بذلك الأسلحة، ومصلحة بطاقات الهوية، ونقاط الاتصال.. قررنا أيضا بالمناسبة أن يلازم مواقعهم: حراس مخازن الأسلحة، أعوان الاتصال، خلايات المنظمة بالأوراس لأنها لم تكتشف.. أثناء عملية إعادة الإدماج، كان أعلى منصب لعناصرنا رئيس دائرة في الهيكل السياسي، وبحكم مسؤوليتي في أركان المنظمة الخاصة صارت قيادة الحزب في أمري، قبقيت بدون تعيين قرابة، قبقيت بدون تعيين قرابة السنة، قبل تكليفي- بطلب مني- بعمل إداري روتيني: تلخيص التقارير المالية والنظامية الواردة شهريا من مختلف أنحاء البلاد. هذا العمل الذي كان يستغرق مني من 8 إلى 10 أيام- مكنني من متابعة الوضع الداخلي للحزب: حالة التنظيم، مدى تطبيق تعليمات القيادة، تعداد المناضلين، الحالة المعنوية للمواطنين، فضلا عن معلومات تخص الجزائر بصفة عامة. وكنت أتفرغ بعد أداء هذا العمل لمهمة الاتصال بالرفاق المارين بالعاصمة، علما أن موقعي كان يسمح لي بذلك (*). كلف بوضياف بشؤون الناجين المطاردين من عناصر المنظمة الخاصة. الحافز.. المغاربي ظل الحفاظ على العلاقة بالمناضلين المقتنعين بحتمية الكفاح المسلح طوال الفترة من 1951 إلى 1954، هو الشغل الشاغل لقادة المنظمة الخاصة الناجين من الاعتقال. وفي ربيع 1952 (*) تلقى هؤلاء القادة تشجيعا خاصا من الأمير محمد الخطابي- المقيم بالقاهرة - الذي أوفد مبعوثين الى المغرب العربي، لبحث إمكانيات الكفاح المسلح المشترك، مع الحركات الاستقلالية في كل من تونسوالجزائر والمغرب. فقد نقل إلى عبد الحميد مهري- المعارض يومئذ لسياسة قيادة الحزب- رغبة هذين المبعوثين في الاتصال بي، رأيت أن آفاق العمل المغاربي الموحد جديرة باهتمامنا، فاستقدمت ديدوش الذي كان في البرواقية يؤمئذ للمشاركة في لقائهما. بعد هذا الاتصال شرعنا في تنظيم صفوفنا، فاتصلنا أولا بكل من بن مهيدي وبن بولعيد، علما أن وراء كل منهما عدد من العناصر التي تقف معنا على نفس الخط. وشكلنا في هذا السياق لجنة رباعية (1) بمهمة البحث عن العناصر الكفؤة لتنظيمها. وفي انتظار تجدد الاتصال بمبعوثي الخطابي، كلفنا بن بولعيد بإنشاء ورشة للمتفجرات. وفي خريف نفس السنة أحسست باشتداد الخناق الأمني من حولي، فطلبت بإلحاح تعييني في مهمة أخرى، وتجاوبا مع طلبي اقترحت علي إدارة الحزب مهمة التنظيم في اتحادية فرنسا. طرحت الاقتراح للمشورة في إطار اللجنة الرباعية، وتم الاتفاق على قبول المهمة على أن أعود عند الضرورة... وبعد فترة التحق بي ديدوش، متبوعا بكل من ڤراص وحباشي. قمنا في الاتحادية بعمل تنظيمي واسع، جعلنا نتوقع بروز خلايا صلبة في الوقت المناسب، ليس من السهل تضليلها.. وغداة اندلاع أزمة القيادة بين مصالي والأمانة العامة للحزب مطلع 1954، بلغنا بواسطة عناصرنا في الجزائر أن مسؤولين سابقين في المنظمة الخاصة بدأوا ينحون إلى صف مصالي، منهم زيغود وبن طبال وبن عودة ومشاطي، فضلا عن عناصر من مدينة قسنطينة أمثال رشيد ملاح والسعيد بوعلي المدعو "لاموطا".. كان الجنوح وسط قدماء المنظمة يستوجب تحركا سريعا، لذا طلبت- بالاتفاق مع ديدوش - من أمانة الاتحادية الموالية للجنة المركزية - العودة إلى الجزائر، تحت غطاء إعادة هذه العناصر "الضالة" إلى جادة الصواب! عدت في بداية مارس 1954، فوجدت بالعاصمة بن مهيدي وبيطاط، كان كلاهما شديد الحزن على مآل الحزب، أكملت معلوماتهما حول الأزمة وأطوارها بفرنسا خاصة، واتفقنا على الاتصال ببن بولعيد.. (يتبع) في يونيو حسب شهادة الهاشمي الطود أحد المبعوثين 1) من بوضياف، ديدوش، بن بولعيد، مهري.