مراصد إعداد: جمال بوزيان صراعات الأمم لا تنتهي.. الحضارات الإنسانية لا تعادي الثقافات النبيلة تَرصُدُ أخبار اليوم كُلَّ حِين مَقالات فِي جميعِ المَجالاتِ وتَنشُرها تَكريمًا لِأصحابِها وبِهدفِ مُتابَعةِ النُّقَّادِ لها وقراءتِها بِأدواتِهم ولاطِّلاعِ القرَّاءِ الكِرامِ علَى ما تَجودُ به العقولُ مِن فِكر ذِي مُتعة ومَنفعة ... وما يُنْشَرُ علَى مَسؤوليَّةِ الأساتذةِ والنُّقَّادِ والكُتَّابِ وضُيوفِ أيِّ حِوار واستكتاب وذَوِي المَقالاتِ والإبداعاتِ الأدبيَّةِ مِن حيثُ المِلكيَّةِ والرَّأيِ. ***** هيمنة الموضة على الشعوب * أ.د.عبد الحق حريدي هذا الموضوع الموسوم ب الموضة Mode هو في الأصل لمحاضرة مطولة شاركت إلقاءها مع شقيقي الدكتور حسن حريدي رحمه الله في مائدة مستديرة أمام طالبات جامعة قالمة في مارس 1992 م. وبعد التطورات الحاصلة للمجتمع الإنساني ارتأيت إعادة نشرها ملخصة طبعا مع إضافات وتنقيحات تتماشى والتطورات المعرفية والسوسيوثقافية خاصة بعد هيمنة التكنولوجيا الرقمية والوسائط الإعلامية الرهيبة على كل شؤون حياتنا. الموضة Mode تعد مصطلحا مستحدثا والكلام حوله نابع من هيمنتها على جل معايير ومقومات حياتنا حيث أصبحنا نعيش ترهات خريطتها طوعا أو كرها. يقول جورج زيمل: الموضة كانت شخصية -ذاتية- لكنها تحولت مع العولمة والحداثة السائلة إلى ملاك يتوق إلى الهروب نحو المستقبل والذي لا مكان فيه للكسالى والغشاشين . وذلك لكونها ضربا من ضروب الحركات الاجتماعية التي أصبحت تلعب دورا فعالا في تغير كل شيء في حياة الإنسان. وما يخبرنا به علم التأريخ وأن من ابتكر الموضة هي حاشية الملوك وبلاطهم وربطوها باختلاف الفصول والمواسم وبعض المناسبات كما يقول المؤرخ توماس كارليل: وإنها فلسفة اللباس تبرز عند الروائيين ورجال الشرطة والقضاء وذلك لما للعامل النفسي في تثبيت المهنة وبعض الشيء من المهابة . وأما بروزها بشكل جلي فقد كان في بعده مخرجات النهضة وعصر التنوير وكان مركزها باريس. ثم تطورت لتتحول إلى معارض ومسابقات وتقام لأجلها مواسم مختلفة عابرة للقارات وأصبح روادها وصانعوها أصحاب مكانة عالمية بين جميع الأمم كما هو حال (كوكو شانيل أرماني كالفن كلاين كريستين ديور... وغيرهم). وأما ماهية الموضة فتعني الاستعمال الدارج المقبول لكل شيء كما يؤكد عالم الاجتماع العربي حاتم الكعبي. بينما يقول لابير: هي نماذج سلوكية مؤقتة... . ويقول سابير: هي صورة من صور التخلي المؤقت والعابر للتقاليد الاجتماعية ولها تأثير قوي وبليغ في الافتتان من المنظور الاجتماعي الثقافي Sociocultural Perspective . وكل ما يمس الوجهة الحضارية كافتتان المغلوب بالغالب مما يزيد في انتشار التفاهة في شكل مناظر وسلوكيات خادشة للمعايير والقيم الثابتة. ولاعتبار الغالب عند المغلوب مالكا لصفة الكمال والتشبيه به رافع لمقامه وطريق موصل إلى سطوته كما حال افتتان العلمانيين اليوم بالثقافة الغربية. وبما أن الألفة والعادة تقيدان الإدراك فإن ما يدفع بالإنسان نفسيا إلى ولوعه فطريا بكل ما هو جديد وجالب للنظر مع الرغبة الجامحة للإنسان في حب الظهور والسطوة والتميز أو تعويض البعض لما يعتريهم من نقص حيث يدفعهم ذلك إلى التشبه بالمترفين وبطريقة اعتدائية Sadique وعن طريق اللباس بطريقة خاصة. وأما اهتمام المراة ب الموضة أكثر من الرجل فإنه يعود ذلك إلى هروبها من محيطها الذكوري المهيمن ما جعلها تندفع نفسيا إلى محاولة التميز وكسر شوكة ذكوريته المهيمنة وذلك بالإغراء وغلبته بسمتها العاطفية الانفعالية. وبذلك أصبحت مشكلة الموضة ظاهرة لها أبعاد حضارية كبيرة: اجتماعية واقتصادية ونفسية وحتى أنها حملت أبعادا ثقافية ما زادها هيمنة على الشعوب وخاصة المتخلفة منها بل وسيطرتها على مساحات واسعة من حياتنا نحن المسلمين طوعا أو كرها. لأنها مست كل ميادين وأساليب الحياة العامة للإنسان المعاصر وتحولت إلى ثورة دائمة ولا نهائية في شكلها الراهن. يقول الفيلسوف زيحمونت باومان: إن ظاهرة الموضة يحدده استعمار الأسواق الاستهلاكية واستغلالها لذلك الجانب من الوضع الإنساني وهذه النقطة بالذات أصبحت تهديدا قاتلا للكسالى والغافلين والمتقوبعين عن الفعل الحضاري وصناعة التاريخ . وهو الحال الذي ينطبق على العرب والمسلمين اليوم بعد تفريطهم في الأخذ بعالم الأسباب وهروبهم المفزع نحو الماضي عكس الشعوب الغالبة التي هربت نحو المستقبل بكل ما تملك. كما يقول زيجمونت باومان في موضع آخر: الأصل في الثقافة الشاملة والراهنة بالخصوص فهي تطالبك بأن تكتسب القدرة على تغيير هويتك وبسرعة تضاهي الكفاءة في تغيير القميص أو الجوارب والسوق يتكلف هو بالمساعدة على اكتساب العبد كل مهارة يريدها . لكون المتمسك ب الموضة القديمة في سياسة الرجل الغربي اليوم يعد كارثة على الاقتصاد والنسيج الإنساني العام. مما يدفعنا إلى فكرة الهروب والتي صارت من أشهر الغايات ولكن العالم أصبح لا يوجد فيه مكان جميل للعيش ويحمي المرء نفسه فيه من كل اعتداء أو يلتجئ إلى الاعتراف بما يسمى القبح الجميل إن أمكنه ذلك. يقول المفكر 0لان تورين عالم الاجتماع الفرنسي في مشروعه الفكري التعددية الثقافية المتحدة: إن الموضة تحولت إلى ثقافة سائلة -مائعة- ومظهر تنوع جديد بالاحترام والعناية . والحقيقة أن الحلم بنزع قدرة اللايقين على شعورنا بالعجز لتحويل السعادة إلى حالة دائمة وآمنة يستوجب علينا التغير المتواصل والدائم المتجدد.. والواقع يؤكد إن من لم يتجدد يتبدد وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا لسنة تحويلا. ///// الانفجار السكاني وأكذوبة نضوب مواد الأرض! * أ.د.هاشم غرايبه تنشر بين الفينة والأخرى تصريحات لمسؤولين غربيين وعلماء وفيها يحذرون مما يسمونه الانفجار السكاني وضرورة تقليل عدد السكان ومنهم من يطرح أفكارا شريرة مثل أنه لا تحل هذه المشكلة إلا بنشر الأوبئة وشن الحروب المفنية. هذه القصة ليست حديثة بل هي مرتبطة بأطماع الإمبريالية وجشع الرأسمالية فمنذ بداية القرن العشرين وبعد أن أصبح قوام الصناعات معتمدا على الحديد خشيت الدول الصناعية الكبرى من نضوبه فبيتت النية على البحث عن حجم خام الحديد في العالم لتأمين سيطرتها عليه رصدت البعثات أماكن تواجده وخرجت بأن ما هو متوفر يكفي الحاجة سبعين عاما مرت السبعون عاما وتبين أن مخزون الحديد في الكرة الأرضية هائل لا ينضب. الذين لا يؤمنون بوجود خالق خلق كل شيء في أكمل صورة وقدر للكائنات أرزاقها ولا يؤده حفظها ولا يعجزه تدبير أرزاقها لا يعلمون أنه تعالى تكفل بحاجات البشر إلى نهاية الحياة. في قوله تعالى: وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْء مَوْزُون * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ . [سورة الحجر:19-20]. ينبهر العقل وينعقد اللسان أمام هذا الإعجاز البلاغي والمعرفي ففي هاتين الجملتين تلخيص شمولي لما لم يتعرف عليه العلم البشري إلا حديثا ولما يلم بعد بكل أبعاده المتداخلة بشكل تكاملي والمنسقة بدقة تامة ويطلق عليه النظام الغذائي للكائنات الحية جميعها والتوازن البيئي ومخزون الموارد كلها. فما هو مطلوب لدوام الحياة البشرية على هذا الكوكب سلسلة منتظمة من جماد ونبات وحيوان تكمل بعضها وتعوض ما ينقصه البعض في دورة كاملة. ما لا يتجدد كالمعادن والأملاح وأشعة الشمس مخزنة بما يكفي مهما استهلك منه. وما هو أساسي للحياة كالماء والأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون متوفرة بكمية كافية ثابتة لكنها متجددة بدورة كاملة تستعيد ما استعمل. فالماء مخزن بشكل مالح حتى لا يفسد في المحيطات التي تشكل 71.1 من مساحة القشرة الأرضية والماء النقي مخزن في الغلاف الجوي ويظل الماءان في حالة انتقال دائم لكي تستفيد منه كل الكائنات الحية من غير أن ينقص. أما في الهواء فقد أودع الله فيه غازات متعددة كل منها له دور ووظيفة ومنها ما هو أساسي للحياة وهما الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون ويبقيان بنسبة ثابتة لأن استعمال كل منهما تبادلي بين النبات والحيوان فالنبات يستخدم ثاني أوكسيد الكربون الذي تطرحه كل الكائنات الحيوانية ويستعمله إلى جانب الماء ومعادن التربة وبوجود أشعة الشمس كمكون أساسي لغذائه وفي الوقت نفسه يطرح الأوكسجين ليعوض ما استهلكه الحيوان كما أنه وبتلك العملية (التمثيل الكلوروفيلي) يتم تصنيع كل المواد اللازمة لحياة البشر والحيوانات جميعا من الكاربوهيدرات والبروتينات النباتية والأملاح والمعادن والفيتامينات.. وفوق ذلك العلاجات والأدوية لكل ما يلم بها من أمراض. كما أوجد الله تعالى الكائنات الدقيقة لإكمال الدورة الحيوية فهي تحلل الكائنات الحية بعد موتها إلى مكوناتها الأولية فتنظف البيئة منها ولتتمكن النباتات من امتصاصها فتتحول غذاء للكائنات الحية من جديد. أما ما يستهلكه الإنسان بشكل يومي كغذاء أساسي له من نبات وحيوان ولا يمكن خزنه فقد خلقه الله متجددا بالتكاثر والتوالد والنمو. لذلك فالانفجار السكاني وعدم كفاية الموارد لسكان الأرض خرافة قصد بها تبرير الأطماع الاحتكارية. هؤلاء الطامعون هم ممن لا يؤمنون بالله فعميت بصائرهم عن إدراك هذه الحقيقة الساطعة لذلك أقلقتهم أطماعهم فخافوا انتهاء مخزون الحديد ولم يطمئنوا بعد وما يزالون يخشون نضوب الماء والغذاء ولا ينفكون عن التفكير الإجرامي لإنقاص عدد البشر من الشعوب الأخرى. هنا نستبين الفارق بين أن يكون المرء مؤمنا أو كافرا ملحدا لأنهم لو كانوا مؤمنين لأيقنوا بأن من خلق الإنسان في أحسن تقويم أمّن له جميع متطلبات معيشته طالما بقيت الحياة فكل ما هو موجود في الأرض مُسخّرٌ لمصلحته ومضبوطة كمياته وفق احتياجاته وبحسابات دقيقة ولا يمكن لغيره ذلك. ///// العصابات المسلحة في الأحياء الجزائرية * أ.محمد حيدوش نصادف بشكل يومي عبر مختلف القنوات التلفزيونية أخبارا مروعة عن الجرائم التي ترتكبها عصابات الأحياء في مدننا المعروفة بالهدوء وطيبة أخلاق سكانها فعند ما نشاهد التقارير التي تقدمها مصالح الأمن والدرك حول الظاهرة نصاب بالدهشة نظرا لبشاعة الجرائم التي ترتكب أمام مرأى السكان حيث تستعمل السيوف والسواطير والسكاكين وكأن الأمر يشبه ما نراه في الأفلام الغربية حيث عصابات كولومبيا والمكسيك والسلفادور... ذلك ما سوف نناقشه عبر مضامين هذه المقالة حتى نسلط الضوء على الظاهرة. تتجول في أزقة الأحياء الجزائرية حيث تُخفي الجدران المُتشققة قصصًا عن شباب تحولوا من أحلام الطفولة إلى أرقام في سجلات العنف ليست مجرد ظاهرة أمنية بل جرحٌ عميق في نسيج المجتمع يعكس صراعًا بين اليأس والأمل بين البحث عن الهوية والانزلاق نحو الهاوية. هنا حيث تُرفع السواطير بدلًا من الأقلام نسأل: ماذا خسرنا كي نصل إلى هنا؟. أولًا: العالم يئن.. والجزائر ليست بمعزل العنف في الأحياء الهامشية لغة عالمية يتحدثها المهمشون من السلفادور إلى ضواحي باريس لكن بلهجة جزائرية خاصة. فبينما تُشبه عصابات الأحياء شقيقًا لها في دول تعاني الفقر إلا أن الجزائر تضيف للقصة مأساة الابن المُهمَل : جيلٌ نشأ على هامش المدن يحمل هويةً مكسورة بين بطالة قاسية (15.8 بين الشباب) وغياب أب رمزيّ (الدولة/الأسرة/المدرسة) وانتشار فظيع للمخدرات بكل أشكالها وألوانها إنه عنفٌ يصرخ: أنا هنا! . ثانيًا: التشريح النفسي-الاجتماعي: عند ما يتحول الألم إلى سلاح ليس أعضاء العصابات وحوشًا بل بشرٌ حوّلتهم الظروف إلى ضحايا يُحاولون الانتقام هم أبناء الأحياء المنسية حيث يُولد الاقصاء المزدوج : - اقتصاديًّا: بطالة تُشعرهم بالعجز فيلجأون إلى اقتصاد الكرامة عبر العصابات حيث المال السريع يمنح وَهْمَ القوة. - نفسيًّا: غياب الحضن الأسري والمجتمعي يدفعهم إلى احتضان العصابة ك عائلة بديلة . هنا يُصبح الساطور لغةَ حوار والمخدرات مسكنًا لأوجاع لا تُرى. منظور نفسي: العنف هنا ليس مجرد سلوك بل هو صرخة وجودية. فالشاب الذي يُمسك بالساطور يحمل في داخله طفلًا مُهمَلًا يبحث عن اعتراف بوجوده حتى لو كان عبر الخوف. إنه هروب من اللا قيمة إلى القيمة السوداء التي تمنحها العصابة. ثالثًا: العلاج: بين إصلاح الروح وإعادة بناء الوطن الحل الأمني وحده كمن يُضمد جرحًا نازفًا دون معرفة سبب النزيف. التجارب العالمية تُعلمنا: لا بد من خريطة علاجية ثلاثية الأبعاد: 1. العلاج النفسي الجماعي: برامج إعادة تأهيل تعيد للشباب ثقتهم بأنفسهم عبر فنون رياضة وحوارات تُحررهم من سجن هوية العصابة . 2. العدالة الاجتماعية العاطفية: مشاريع تُعيد للشباب إحساسهم بالانتماء مثل ورشات عمل تُدمجهم في بناء أحيائهم وتُحول الساحات المهجورة إلى مساحات إبداع. 3. المصالحة مع الذاكرة: إشراك العائلات والمدارس في حوارات تُعري جذور الألم وتُعيد تعريف الرجولة ليس بالعنف بل بالمسؤولية. رابعًا: المسؤولية: من يربي من؟ الخطأ أن نبحث عن المذنب والصواب أن نعترف بأننا جميعًا في قارب الأزمة: - الدولة ك الأب الحاني : عليها أن تستمع أكثر مما تأمر فبناء مراكز الشباب أهم من بناء السجون. - المجتمع ك الأم الحاضنة : التوقف عن وصم أبناء العصابات ب العار الأبدي واستبداله بفرص للاعتذار والاندماج. - الشباب أنفسهم: إعطاؤهم مساحة ليعبّروا عن غضبهم بطريقة تخلق منهم شركاء في الحل لا أعداء. وفي الختام نستطيع القول بأن الأحياء الجزائرية ليست سجونًا مفتوحة بل يمكن أن تتحول إلى حدائق إنسانية. المفتاح؟ أن نتعامل مع العصابات لا ك ظاهرة تُدرس بل كأشخاص جرحهم الإهمال وعلينا الآن أن نسمع نبض قلوبهم قبل أن نخسرهم إلى الأبد. فالكرامة لا تُبنى بالحديد بل باليد الممدودة والقلب الذي يعرف أن كل شاب عنيف هو طفلٌ كان ينتظر أن يحضنه أحدٌ يومًا. ///// الفكرة الحمساوية ومنهجية الانتصار.. * أ.د.غازي عناية لقد عايشتُ الحروب العربيّة كلّها وأنا الآن قد بلغتُ من الكِبَرِ عِتِيّا فلم يُدهشني ويُداعبُ أحاسيسي مثل حرب طوفان الأقصى في غزة والتي بدأت في 7 أكتوبر 2023 م حيث صمد عشرات آلاف من المقاتلين الفلسطينيين بأسلحتهم المتواضعة أمام أقوى جيوش الصهاينة واليهود المتشددين والاستكبار العالمي حيث استخدمت إسرائيل أحدث أنواع الأسلحة وأشدها فتكًا وتدميرًا. وارتكبت أبشع المجازر والقتل وهدم البيوت والمستشفيات على ساكنيها من الأطفال والنّساءِ والرِّجال والمرضى وغيرهم ممّا حيّر جماهير المحللين السياسيين والمفكّرين والعلماء عن سرّ صمود حماس وبحسب قناعتي فلم أجد إلا جوابًا واحدًا شافيا ملخصه: لأنّ حماس فكرة والفكرةُ لا تموت ولا تفنى وتنتصر ولا تنهزم لأنّ مستندها ومنبَتها الأمّة الإسلامية التوحيدية. وتتبلورُ مفاهيم ودلالات الفكرة الحمساوية قرآنيًا في أنها كالنّفس البشرية بجناحيْها. فالجانب الشخصي المادي المحسوس يتمثل في المقاتلين. وهم يموتون ويُقتلونَ وبالترابِ يُدفنونَ فانونَ غير مُخلّدين. آدميونَ وكلّنا لآدم وآدم من تراب والله يتوبُ على من تاب. بينما الجانب المعنوي يتمثل في الرّوحُ فلا تفنى ولا تموت. وهي من تقدير الشارع الخالق. وهو الذي يُقدّرها ويحييها ويُميتها. وقد عُبّر بالرّوحِ على النّفس البشرية لغلبة الرّوح على الجسد كما عُبِّرَ بالبحرينِ على البحرِ والنهر لغلبة الأول على الثاني. إنَّ الفكرة الحمساوية لا تموت ولا تزول ولا تنهزم وباقيةٌ لأنّ منبعها الأمة. فالأمّةُ لا تموت ولا تفنى ولا تزول بينما الفردُ والأسرةُ والقبيلةُ تموتُ وتنعدم وتتلاشى. فالأمّة يستحيلُ أن تنعدم بل ويستحيلُ أن يخلو الكون من أمّة من الأمم. فما بالكَ لو كانت الأمّةُ هي أمّة الإسلامِ والتوحيد. فالسنن الإلهية الكونية تقتضي أن لا توجد حياةٌ في الأرضِ في لحظة من اللحظات بدون وجود أمّة. فأدواتِ القتلِ والموتِ – وعلى رأسها السّلاح بأنواعهِ – قد تقتل الأفراد والأُسَرْ وتفتكُ بأجساد المقاتلين ولكنّها لا تستطيع أن تقتل الأمم وتفنيها. فالأمّة باقيةٌ على مدار السنين والأيام ولذلك فالفكرةُ باقيةٌ على الدّوام. وبمعنى توضيحي آخر: إنَّ الصاروخ قد يقتل الأفراد والجماعات وقد يستأصلها. أي الجانب المادي للفكرة. ولكن ليس بقدرةِ هذا الصّاروخ أن يقتل الأمم أو أن يستأصلها من الوجود. ومن هنا تبقى الفكرة الحمساوية –والقتالُ أي الجهاد منهجيتها– موجودةً على مدارِ الساعة باقيةً ترفرفُ في سماءِ الوجودِ والحياة في زمَنيْ السِّلمِ والحرب أو الهزيمة والانتصار. ولو افترضنا جدلاً أنّ الأمة قد تضعف أو تموت وأنّ الفكرةَ كذلك فلا بُدّ من البديل. وإنْ تحقق هذا البديل فيجب أن يكون هو الأفضل. ففي مجال الخيريّةِ والأفضليةِ والبدائل والتزكيةِ لحركة المقاومة الإسلامية فإنّ الله تعالى كرّمها وأصّل لها الأصل والجذر والبديل معًا فجعلَ مستندها ومنطلقها أمّة التوحيدِ ولا بديلَ لها خيرُ أمّة أخرجت للناس في هذا الكون إلى قيامِ الساعةِ على الإطلاق لا تستقيم حركة الحياةِ بدون وجودها ولا يعمرُ الكون بانعدامها. فقد قال تعالى: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ)). سورة آل عمران: الآية 110. ولو فسد بعض أفراد الأمة أو بعض أقوامها فإنّ الله قد يستبدلهم بغيرهم وبأفضل منهم حفاظًا على تماسك الأمّة واستمرارية وجودها وبقائها كما قال تعالى: ((وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)). سورة محمد: الآية 38. ولو تولى وأعرض بعض الأفراد عن حكم الله فقد يصيبهم ببعض ذنوبهم إصلاحًا للأمةِ وحفاظًا على خيْرِيَتِها. قال تعالى: ((وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)). سورة المائدة: الآية 49. ولله المثل الأعلى: فالأمّةُ –والفكرةُ منبتها– كالشجرةِ يقصُّ المزارعُ بعض أغصانها خاصةً التالفة ويُقلِّمها فتغدو أكثر رونقًا ونماءً وخضرةً وثمرًا. وبناءً على ما سبق فإنَّ حماس وهي فكرةُ أمّتها لا تموت ولا تزول وتنتصر ولا تنهزم.. وهكذا سنّة الله الكونية بلا تبديل ولا تحويل إلى قيام السّاعة مصداقا لقوله تعالى: ((فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)). سورة فاطر: الآية 43.