كتب المقال التالي الم. كلود بوردي أحد زعماء الكتل اليسارية غير الشيوعية وغير الاشتراكية ونشرته مجلة "لوبسيرفاتور" والمقال عبارة عن نداء وجهه الكاتب إلى كافة اليساريين الفرنسيين حتى يستفيقوا من سباتهم وينفضوا عنهم الأحلام اللذيذة التي نوّمهم بها ديغول، حيث ظلوا يعتقدون أن رئيس الجمهورية الفرنسية يجتهد بإخلاص لإنهاء الحرب الجزائرية. يظهر أن العبارات التي تفوه بها الجنرال ديغول أخيرا بالجزائر قد أزالت بعض الخرافات من أذهان الأجانب ولعلها وهذا ما نتمناه على الأقل قد أزالت كذلك بعض الخرافات من أذهان الفرنسيين في فرنسا، تلك الخرافات التي ماانفكت تنتشر في مختلف الأوساط السياسية اليسارية القريبة من ديغول واليسارية حقا وكذلك في الأوساط الشعبية بأسرها. فقد كان الفرنسيون يعلّقون كل آمالهم على الجنرال ديغول لإنهاء الحرب وبذلك برهنوا على قلقلم من استمرارها، وفي نفس الوقت، على عجزهم واستسلامهم السياسي لشخص أوكلوا إليه مصيرهم واعتمدوه لإنجاز هذه المهمة تماما كما تفعل الشعوب المغلوبة على أمرها. لقد وقع خلال المدة الأخيرة التباس في أفكار بعض اليساريين، بحيث اعتبروا أن ديغول مصصم على فرض سيطرته على العناصر المتطرفة من المدنيين والعسكريين وأنه راغب من ناحية أخرى في التفاوض حتى ولو أدى ذلك إلى الاصطدام بالجيش، والواقع غير ما اعتبره هؤلاء اليساريون، إذ أن أبرز نتيجة للحركة التمردية كانت في حقيقة الأمر انضمام الجنرال ديغول إلى الجيش وموافقته الكاملة على رفض التفاوض وهذا إذا افترضنا أن ديغول كانت له أقل نية في التفاوض ويرجع هذا الالتباس إلى أن العناصر اليسارية تركت نفسها تسير مع الأوهام عوض أن تبحث عن الواقع وتلمسه وأرادت أن لا تعاكس الآمال الشعبية وأن لا تكلف نفسها مشقة الوقوف في وجه الجنرال ديغول وانتقاده والتصريح بمعارضة سياسته، وهناك إلى جانب هؤلاء الضعفاء من اليساريين صنف آخر يمنّي نفسه بالتلذذ بأن يتوصل ديغول إلى التلاعب بالجبهة ومخادعتها إلى أن تقع في الفخ وبذلك يتنفّسون الصعداء ويتخلصون من ضمائرهم التي تؤنبهم لتواطئهم مع المجرمين. لقد قلنا بأن عبارات ديغول الأخيرة أزالت بعض الخرافات من أذهان اليساريين الفرنسيين، إلا أننا نعتقد من ناحية أخرى أن الفترة الراهنة لن تدوم طويلا، حيث أن ديغول سيسعى من جديد وهذه طبيعته التي اعترف بها في مؤلفاته إلى استخدام الغموض واللعب على الحبلين والمخادعة، وقد رأينا فعلا كيف سارعت الدوائر المحيطة به إلى تحذير الرأي العام من التأويلات بمعنى أنها تدعو الفرنسيين والأجانب إلى التأثر بالتأويلات الرسمية فقط، وهكذا حاول وزير الأخبار أن يوهم الأفكار الجامدة بأن ديغول ما انفك يعرض على الحكومة الجزائرية وقف القتال، بينما لم يعرض عليها في الواقع إلا الاستسلام بدون قيد ولا شرط وهكذا يتضح أن ديغول سيسعى من جديد إلى التلاعب بعبارة "وقف القتال" لتنويم الحزب الاشتراكي وكل الذين لا يرغبون إلا في التنويم بكل ثمن. وعلى كل حال فإننا سنغتنم تفتح الأبصار الحالي لنرفع الملابسات ونسمي الأشياء بأسمائها. ليس مطلوبا منا أن نلوم الجنرال ديغول على استعمال جميع الوسائل لتحقيق "عظمته" الزائفة بل أن ما يتعين علينا هو استعمال جميع الوسائل لمقاومة مساعي الجنرال نحو العظمة لأننا نؤمن بأنها عظمة المجانين وأنها ستجر البلاد إلى أفدح الكوارث، إن ديغول يرى أنه بإمكانه أن يتغلب على الجبهة وأن يستجلب الجزائريين إليه، إن هذه هي فكرته القارة ولكنها تتلاشى أحيانا وتبرز بقوة أحيانا أخرى وخاصة عندما يستمع إلى القواد العسكريين وهم يرددون عبارتهم التقليدية "كل شيء على أحسن ما يرام"، أما نحن فإننا نرى ونعتقد بأنه ليس في إمكان أي شخص التغلب أو التلاعب بشعب صهرته 130 عاما من الضغط والأكاذيب الاستعمارية بالرغم من ذلك تمكن من تأليف أعظم جيش بإفريقيا في بلاد محتلة احتلالا عسكريا، وإننا نعتقد أنه ليس في إمكان أي شخص أن يخادع شعبا من هذا النوع في عصر تتهافت فيه الأنظمة السياسية وتتسارع فيه الشعوب إلى الاستقلال. إن ديغول يعتبر نفسه خالدا وهو يتظاهر بذلك على الأقل، أما نحن فإننا نرى أنه مخلوق كغيره من المخلوقات وأنه شيخ مسن وأنه من الممكن جدا أن يموت أو يتخلى عن الحكم، بينما لا تزال الحرب مستمرة في الجزائر بسبب سياسته، وإذا كان ديغول لا يفكر فيما يحدث بعد موته أو انسحابه من الحياة السياسية، فإننا نحن نفكر في ذلك ونعتقد أن الجيش سيغتنم الفرصة بمساعدة ديبري أو أي سياسي آخر من نوعه للاستيلاء على الحكم وأن ما ينتج عن ذلك هو الاعتقالات والتعذيب في صفوف الأحرار الفرنسيين ثم الإضراب العام والتسلح في الجبال والحرب الأهلية. إذا كان هذا كله من باب الافتراضات الممكنة، فماذا نحن فاعلون لتحاشيه؟ نحن الأحزاب والمنظمات والنقابات والهيئات الديمقراطية، هل أننا سنستمر في الانزلاق مع أحلامنا بالرغم من يقظة التصريحات الأخيرة؟ هل أننا سنواصل الانتظار؟ قيل أن الجنرال ديغول يحسب دائما حساب الوقائع الملموسة، فأين هو واقع اليساريين الفرنسيين، بل أين هم اليساريون الفرنسيون الذين يجرأون على الأخذ بيد الجماهير وتوجيهها إلى معارضة السياسة الحربية؟ إن ما نريد أن نعرفه الآن هو هذا: هل أننا بعد أن تركنا بلادنا تنغمس في عار الحرب القذرة وتركنا الديمقراطية تنحطّ إلى مستوى الملكية المشوهة هل أننا سنضطر غدا إلى العيش في نظام شبيه بالنظام المسلط على الجزائر الآن؟ إن هذه الحرب يتوقف استمرارها على مشيئة الشعب الفرنسي الذي لم يجد شخصية واحدة ولا حزبا واحدا يدله على طريق المقاومة. إنه ليس من حق الصحفيين توجيه الشعب إلى نوع من أنواع المقاومة العملية، وإن كل ما عليه هو أن يضع النقابات والأحزاب والهيئات أمام مسؤولياتها، إذ الوقت لم يعد صالحا للتشدق بالعبارات الجوفاء وبالفخفخة والتزلف، إن الصراحة تقتضي منا أن نعترف بأن ما وصلنا إليه اليوم هو نتيجة استسلامنا وتواكلنا وأن ما يجب أن نقتنع به اليوم هو أن الوقت صار ضيقا جدا إذا أردنا أن نعمل لتحسين غدنا والتصرف في مستقبلنا، إنني آمل أن يتحد جميع اليساريين بدون استثناء ويعملوا صفا واحدا.