كان الشيخ عبد الرحمن الجيلالي من أثقف الفقهاء الذين عرفهم الوطن العربي في القرنين العشرين والواحد والعشرين، فقط أتقن اللغة الفرنسية ودرس الفلسفة، الموسيقى والشعر حتى أن بعضهم قال "إن عبد الرحمن الجيلالي من أحسن عازفي العود في الجزائر". إلى جانب هذا، فقد كان شيخنا الفاضل مؤرخ الجزائر الأول بكتابه الشهير "تاريخ الجزائر العام" الصادر سنة 1967 في أربعة أجزاء ضخمة، ناهيك عن كتبه الأخرى ك "تاريخ المدن الثلاث الجزائر، مليانة والمدية" و"النقوش العربية فوق مساجد مدينة الجزائر" وغيرها، ثم إنه كاتب سيرة "محمد بن شنب" ذلك الدكتور الجزائري الموسوعة، المتعدد اللغات الذي أبهر الفرنسيين في بداية القرن العشرين. كل هذا وكان شيخنا عبد الرحمن الجيلالي يخاف علينا من قراءة ابن عربي؟ للقضاء على جيرتي، كرست ستة شهور بأكملها لقراءة "تفسير القرآن الكريم للشيخ الأكبر العارف بالله العلامة ابن عربي" طوال نصف سنة والكتاب يلازمني رفقة مجلدات "لسان العرب" الضخمة. فكل فقرة أقرأها، كانت تواجهني بكلمة صعبة أو عبارة غامضة، أحيانا، كنت أترك "التفسير الشهير" لأعود للقرآن الكريم وحده، بل تخليت عن "تفسير ابن عربي" مدة شهر كامل لأتفرغ، للمرة الثالثة في حياتي، لكتابي "جمهورية أفلاطون" و"مدينة الفارابي الفاضلة". الأمر نفسه وقع لي حين قرأت كتاب "فصوص الحكم" للشيخ الأكبر العارف بالله، فقد قضيت ما يقارب الأربع شهور في مطالعته، كانت قراءتي بطيئة تأملية كمشية السلحفاة، مع فارق كبير هو: إن كانت السلحفاة تقتات من الأعشاب لتعيش، فأنا كنت ألتهم لكي أستوعب "النصوص" كتب أفلاطون، الفارابي، ابن رشد، هيديغار، كانط، ديكارت، هربرت ماركوز دون نسيان مراجعة رواية "الحرب والسلم" للكاتب الروسي العظيم ليون تولستوي (خاصة الفصول الأخيرة من الرواية المليئة بالفلسفة). الذين قالوا إن ابن عربي "فيلسوف متصوف"، كان يجب عليهم أن يضيفوا إلى هذا أنه "موسوعة دينية فلسفية" قلما أنجبها التاريخ! ذلك أن الشيخ الأكبر هرم مشيع يتجاوز إشعاعه كل الصوفية بدءا من أبي حامد الغزالي وانتهاء بمتصوفي أيامنا هذه (حيث ضعف المستوى حتى كاد يبلغ الحضيض!). مهما يكن فعلينا أن نرجع إلى سيرة ابن عربي لنعرف أهم ما جعله ينبوأ هذه الدرجة العليا من العلم. ولد الشيخ الأكبر أبو بكر محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله الطائي الحاتمي الشهير ب "ابن عربي" في مدينة مرسيا (Murcia) بجنوبي شرقي الأندلس يوم 17 رمضان سنة 560 هجرية، الموافق ل 28يوليو عام 1165 ميلادية. كان منزل والديه بيت ثروة ونسب وتقوى، كان له خالان زاهدان هما يحي ابن يغان وأبو مسلم الخولاني، عن الأول، قال ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية (ج2 ص 23) "كان قد ملك مدينة تلمسان، وكان في زمنه رجلا فقيها، عابدا منقطعا، من أهل تونس، يقال له: عبد الله يحي ابن يغان التونسي، عابد وقته، كان بموضع خارج تلمسان يقال له "العباد". وكان قد انقطع بمسجد يعبد الله فيه، وقبره مشهور بها ويزار، وبينما كان هذا الصالح يمشي بمدينة تلمسان بين المدينتين أغادير والمدينة الوسطى، إذ لقيه خالنا يحي بن يغان، ملك المدينة، في خولة وحشمة، فقيل له: هذا أبو عبد الله التونسي، عابد وقته، فمسك لجام فرسه وسلم على الشيخ، فرد عليه السلام، وكان على الملك ثياب فاخرة، فقال له "ياشيخ، هذه الثباب التي أنا لابسها، هل تجوز لي الصلاة فيها؟" فضحك الشيخ، فقال له الملك "مم تضحك؟"، قال "من سخف عقلك وجهلك بنفسك وحالة! أنت وعاء مليئ حراما وتسأل عن الثياب، ومظالم العباد في عنقك؟". فبكى الملك ونزل عن دابته، وخرج عن ملكه من حينه، ولزم خدمة الشيخ...". ..... يتبع