تكتلات أزمة 62.. ظرفية انتهازية ترك لنا الفقيد عبد الحميد مهري - الذي تمر علينا هذه الأيام الذكرى الأولى لرحيله (*) - شهادات تكتسي أهمية تاريخية بالغة، مثل شهاداته المتعلقة بإعادة تكتل الأعضاء السابقين في المنطقة الخاصة ابتداء من ربيع 1952، وتلك المتعلقة ب”اللجنة الثورية للوحدة والعمل”، لاسيما الخصومات الداخلية التي عجلت بنهايتها في أواخر مايو 1954... ونقف اليوم في هذه الصفحة عند شهادة نادرة، يكاد ينفرد بها الفقيد، ومفادها أن مجلس الثورة في دورته الاستثنائية الأخيرة بطرابلس (27 مايو - 6 يونيو 1962) لم يصادق على مشروع البرنامج المقترح من كتلة أحمد بن بلة نائب رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك، بل صادق فقط على لائحة تؤجل مناقشة المشروع - بعمق - إلى مؤتمر قادم، يعقد في الجزائر بعد استفتاء تقرير المصير وإعلان الاستقلال. وينبغي التذكير في هذا الصدد بحقيقتين: - الأولى، أن المادة ال28 من القانون الأساسي لجبهة التحرير كانت تنص على أن المجلس الوطني للثورة الجزائرية هو الهيئة القيادية السيدة، إلى غاية انعقاد مؤتمر وطني شامل بعد الاستقلال داخل الجزائر. - الثانية، أن كتلة بن بلة نجحت في فرض دورة استثنائية لمجلس الثورة، بعد دورة طارئة في أواخر فبراير 1962، لمناقشة مشاريع اتفاقيات إيفيان والمصادقة عليها. وكان جدول أعمال الدورة يتضمن نقطتين: مشروع برنامج عمل جبهة التحرير، وتعيين قيادة جديدة لها. وعند الشروع في مناقشة النقطة الأولى، شكلت لجنة - سباعية - بهدف تسجيل المقترحات - الشفوية والمكتوبة - وتلخيصها لإثراء مشروع البرنامج، وكانت تضم الأسماء التالية: - بن بلة، الحاج بن علا، أحمد قايد، أحمد بومنجل (من كتلة بن بلة - بومدين). - امحمد يزيد، علي هارون (من المحسوبين على الحكومة المؤقتة). - عبد الحميد مهري، وكان يومئذ أقرب إلى الحياد. (*) توفي بالجزائر في 30 يناير 2012، ودفن بمقبرة سيدي يحيى. أزمة 1962 في مرآة الفقيد عبد الحميد مهري عرفت الثورة الجزائرية في الواقع سلسلة من الأزمات، ظلت تتراكم طيلة مرحلة الكفاح المسلح، لتنفجر في تلك الأزمة العامة عشية استفتاء تقرير المصير فاتح يوليو 1962. ولقراءة هذه الأزمة هناك منهجيات: - أن نتتبع المسارات الشخصية والخلافات المتولدة عنها. - أن نحاول اكتشاف ما وراء هذه الخصومات من أفكار واتجاهات وتحاليل، تتفاوت في اقترابها من الصواب أو حيادها عنه. وأفضل شخصيا المنهجية الثانية، دون أن نستبعد طبعا العوامل الذاتية والشخصية التي تساهم بدون شك في تغذية الأزمات بدرجات متفاوتة. ويمكن اعتبار أزمة 62 كنتيجة لاختلاف الآراء والاجتهادات، في مواجهة مرحلة نهاية الكفاح المسلح والمشاكل التي تطرحها، وأذكر في هذا الصدد مقولة لمحمد بوضياف، وردت في رسالة بعث بها من سجنه سنة 1961 إلى الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، جاء فيها ما معناه: أن في الثورة وهي مهمة إنسانية كبرى فترتين، لهما ثقل خاص يكاد يطغى على كل شيء: البداية والنهاية. وهما أيضا أكثر الفترات صعوبة، لأن كلا منهما تساهم في الانتقال من حالة معينة إلى أخرى مغايرة تماما. ومن مفارقات الثورة الجزائرية، أن الأشخاص الذين كانوا يحتلون مواقع متباينة متضاربة عند انطلاقة الكفاح المسلح هم أنفسهم الذين كانوا في واجهة الصراع غداة إيقاف القتال في 19 مارس 1962، فبن يوسف بن خدة رئيس الحكومة المؤقتة كان سنة 1954 رمزا، لتيار يعارض الانتقال - الفوري - إلى الكفاح المسلح، أو يرى أن الوقت لذلك لم يحن بعد، ليكون هو نفسه رمزا للتيار الذي يريد إنهاء مرحلة الكفاح. وبعبارة أخرى، أن المنطلقات الفكرية والسياسية المختلفة عشية اندلاع الثورة استمرت طوال سنين الكفاح المسلح، في أشكال من التفكير والتحليل وطرق تحديد المواقف، لنجدها هي نفسها تقريبا في نهاية المشوار. طبعا كانت المفاوضات محورا أساسيا في تفسير المواقف، لكن كانت هناك محاور أخرى، مثل عودة الخلاف حول قرارات مؤتمر الصومام - في أوت 1956 - تلكم القرارات التي كانت في حينها محل معارضة - كلية أو جزئية - لكثير من قادة الثورة، وغداة إيقاف القتال طرح الخلاف من جديد في الصيغة التالية: من هم الأولى والأجدر بقيادة المرحلة القادمة؟ هل هم الذين سبقوا بإعلان الثورة؟ أم الذين ساندوها بعد انطلاقها؟ لم يكن الخلاف واضحا بهذا الشكل خلال المراحل الأولى للأزمة، لكن ما لبث الأمر أن اتضح بجلاء: أولوية السابقين إلى الثورة بقيادة المرحلة الجديدة. هذا الخلاف الأساسي، ظل يتغذى بما يطرح الكفاح المسلح من مشاكل موضوعية، نجد في طليعتها مشكل إمداد جيش التحرير في الداخل بالسلاح والذخيرة، هذا المشكل الذي كان مثار نقاش حاد دوري، لتحديد من هو المسؤول عن ”التقصير” في هذا الجانب الحيوي. ومن خلفيات الأزمة أيضا تباين المواقف إزاء النظامين التونسي والمغربي، طريقتهما في استعادة استقلالهما، واختياراتهما السياسية الاقتصادية، ومواقفهما من القضايا العربية... إلخ.. وبناء على ذلك، كان البعض يلح على ضرورة توضيح التوجه العربي للثورة الجزائرية، سواء كان ذلك صراحة أو ضمنيا، عن قناعة أو مجرد ذريعة لتغذية الخلاف وتصعيد الأزمة. ومن محاور الخلاف كذلك هذا الإشكال الذي كان البعض يطرحه: هل نواصل الكفاح لغاية حدوث تغيير جذري، يسمح بتحقيق ثوري عميق على الصعيد الاجتماعي؟ أم نكتفي بمكسب الاستقلال في مرحلة أولى؟ هذه الأفكار جميعا طرحت من جديد غداة إيقاف القتال، وهي تعبر في مجملها عن مشاكل سابقة لإعلان الثورة، وأخرى وليدة الكفاح المسلح، فضلا عن مشاكل الاستقلال وآفاق العمل السياسي في المستقبل. وقد تبلور الموقف في شكل خلاف بين الحكومة المؤقتة برئاسة بن يوسف بن خدة، وقيادة الأركان العامة لجيش التحرير الوطني بقيادة العقيد هواري بومدين، وكانت نذر الخلاف قد برزت في ربيع 1961 قبل انطلاق إيفيان الأولى في نوع من الشك، سواء حول توقيت المفاوضات أو طريقتها، أو قدر المفاوضين باسم الثورة أنفسهم، وكانت هذه الشكوك انعكاسا، لتحفظ قيادة الأركان على المفاوضات في مجملها شكلا ومضمونا، وكان هذا التحفظ قد أدى إلى تغيير الحكومة المؤقتة في أوت من نفس السنة، وتعيين بن خدة على رأسها خلفا لفرحات عباس، وكان يبدو يومئذ قريبا جدا من أطروحات قيادة الأركان. غير أن الأحداث ما لبثت أن فرضت منطقها، دافعة باتجاه استئناف المفاوضات التي لم يعد بالإمكان تأجيلها أكثر، لاسيما بعد أن أبدى الرئيس دوغول - ابتداء من أبريل 1961 - بشكل واضح استعداده للتفاوض الجدي على استقلال الجزائر. والمفارقة هنا أن الخلاف حدث بين أطراف، كانت تجمع بينهما معارضة مفاوضات إيفيان الأولى، فبن خدة وقيادة الأركان كانا في ربيع 1961 كتلة واحدة أمام حكومة فرحات عباس، ولعل هذا ما يفسر الطابع الحاد الذي اتخذه الخلاف، ربما لاعتقاد بومدين ورفاقه أن الرئيس الجديد يكون خذلهم، أو تنكر لالتزاماته معهم، إن لم يكن استعملهم لتحقيق مبتغاه لا غير!
ولحسم هذا الخلاف احتكم الفرقاء في نهاية المطاف إلى المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي اجتمع ما بين 27 مايو و6 يونيو 1962، وكانت دوافع هذه الدورة - الاستثنائية - في الظاهر وضع تصور عام ومشروع برنامج عمل لمرحلة ما بعد استعادة الاستقلال، وقد استلمت أمانة المجلس في هذا الإطار ثلاثة مشاريع من: - أحمد بن بلة نائب رئيس الحكومة وجماعته؛ - اتحادية فرنسا لجبهة التحرير الوطني؛ - عبد الحفيظ بوالصوف وزير التسليح والاتصالات العامة ومصالحه. وتم توزيع المشاريع الثلاثة على أعضاء مجلس الثورة، لكن سرعان ما تغلب الاتجاه الداعي إلى اعتماد المشروع الأول كمحور أساسي، مع الاستعانة بالمشروعين الآخرين في النقاش. وشكل المجلس لجنة لتلقي الاقتراحات المكتوبة، كنت عضوا فيها إلى جانب بن بلة وآخرين.. غير أن هذه اللجنة ما لبثت أن اصطدمت بالخلافات العميقة المتشبعة التي تضمنتها التعديلات الواردة إليها.. فقد كان من الصعوبة بمكان جمعها في رؤية موحدة أو متقاربة، يمكن أن تضفي على المشروع في صياغته النهائية حدا أدنى من التجانس والانسجام. لقد كانت الخلافات تمس أحيانا قضايا جوهرية يصعب تجاوزها بالحلول التوفيقية. وبناء على ذلك، قدرت اللجنة أن مدة الدورة لا تكفي للخوض في مثل هذه القضايا الكبرى، ما جعلها تتوقف عند بعض التعديلات الشكلية، مثل إضافة صفة ”مؤقت” لعنوان الوثيقة التي تقدم بها بن بلة، ليصبح كما يلي: ”مشروع برنامج مؤقت لجبهة التحرير الوطني”، رغم أن كلمة ”مشروع” في ذاتها تغني عن ذلك. وبعد أخذ ورد بين أعضاء اللجنة، حصل اتفاق على التقدم إلى مجلس الثورة بمشروع لائحة تنص على ما يلي: نظرا لعدم امكانية دراسة التعديلات المقترحة في الدورة دراسة جدية للخروج بمشروع برنامج متجانس، تقترح اللجنة المصادقة على عنوان المشروع بالصيغة المعدلة، وتأجيل النقاش العام والنهائي إلى مؤتمر قادم لجبهة التحرير الوطني، يعقد بالجزائر بعد الاستقلال وقد صادق المجلس على هذا الاقتراح بالإجماع. فمجلس الثورة إذاً لم يصادق على مشروع برنامج بن بلة ورفاقه، وإنما اكتفى بالمصادقة على لائحة تؤجل مناقشته إلى وقت لاحق داخل الجزائر، وهذا ما يفسر الإجماع الحاصل حولها، لكن توظيف ورقة المشروع عند اندلاع الخلاف أثناء الدورة وبعدها، جعل المكتب السياسي يغير عنوانه، من ”مشروع مؤقت” إلى وثيقة جاهزة باسم ”ميثاق طرابلس”. هذا الخلط المقصود جعل المهتمين بتاريخ الثورة يتساءلون: كيف صادق مجلس الثورة بالإجماع على مشروع برنامج طرابلس، ليختلف بعد ذلك حول قيادة المرحلة الجديدة؟! وقد تولد عن هذا التساؤل انطباع خاطئ، بأن الصراع كان شخصيا قبل كل شيء.. أي من يكون في قيادة المرحلة الجديدة، قبل البرنامج وغير ذلك من الاعتبارات المذهبية والسياسية. وهذا التأويل يتناقض مع الحقيقة التاريخية المتمثلة في عدم حصول اتفاق حول البرنامج أصلا، كما سبقت الإشارة، ومن ثمة من الخطأ اختزال الخلاف في اعتراض جماعة الحكومة المؤقتة، على برنامج أقره مجلس الثورة بالإجماع. بناء على ما سبق.. يمكن القول إن الخلاف الذي اندلع في دورة طرابلس لمجلس الثورة كان محصلة للعديد من القضايا المؤجلة منذ فاتح نوفمبر 1954. وقد أدى انفراط عقد بيان فاتح نوفمبر - الرامي إلى جمع مختلف القوى السياسية - إلى عودة بروز الفوارق والخلافات القديمة بين الأحزاب التي كانت قبلت - على أساسه - الاندماج في جبهة التحرير الوطني إبان الكفاح المسلح. وفي هذا السياق، لا غرابة أن يرى فرحات عباس في معارضة بن خدة لمفاوضات إيفيان الأولى (20 مايو - 13 يونيو 1961) مجرد تعبير عن الصراعات السابقة للثورة، لاسيما بعد أن قبل مبدأ المفاوضات إثر خلافته على رأس الحكومة المؤقتة، وسار فيها على نفس الخطة. والواقع أن التكتلات التي برزت خلال أزمة 1962 لم تكن واضحة المعالم، فقد كانت ظرفية إن لم نقل انتهازية، ولم تعالج الأزمة أية قضية من القضايا الأساسية المطروحة، وأكثر من ذلك أدخلتنا في نفق مظلم، كانت عواقبه وخيمة على نظرتنا للمراحل المقبلة لبناء الدولة الجزائرية، كما نص على ذلك بيان فاتح نوفمبر. كان موقفي الخاص أثناء الأزمة ينطلق من أن أسباب الخلاف - المعلنة - لم تكن وجيهة ولا خطيرة، إلى درجة تبرر الأزمة وما يمكن أن ينجر عنها من مضاعفات وأن القضايا الأساسية لا يمكن علاجها أو حلها بالاحتكام إلى موازين القوى - الظرفية - وحدها، وكنت أرى أن الجبهة - التي صهرتها مرحلة الكفاح المسلح من مختلف القوى والعائلات السياسية - يجب أن تستمر، إلى ما بعد إعلان استقلال الجزائر وإرساء أسسه، وأن القضايا الأساسية ينبغي أن تعالج في إطار مؤتمر شامل، مهمته إيجاد حلول جذرية لها. وبناء على ذلك حاولت أن أقنع بعض الإخوان - بدءا بفرحات عباس - بتجنب الخلاف وعواقبه الوخيمة، كما حاولت إقناع قيادة الولاية الثانية بدعوة الشعب إلى رفض الخلاف لكنني لم أوفق في ذلك، نتيجة الاستقطاب الحاد الحاصل في صفوف قيادة الثورة، بين مؤيد ومعارض لهذا الطرف أو ذاك.. إجماع.. على الإجماع! نظرا لجدة هذه الشهادة وأهميتها التاريخية في نفس الوقت - باعتبارها تفنيدا للمعلومات المتداولة حول ”برنامج طرابلس” منذ صائفة 1962 - ارتأينا التذكير بالمناسبة بشهادات شخصيات من المساندين لكتلة بن بلة - بومدين والمناوئين لها. والملاحظ لأول وهلة، أن هذه الشهادات إن كانت تخالف شهادة مهري، فإنها تؤكد بالمقابل تميزها وجدتها ويمكن الرجوع إلى محاضر ”الدورة الناقصة” لمجلس الثورة، لمعرفة أي الروايتين أصح، مع التنبيه إلى طابع التعميم وعدم الدقة في معظم الروايات الآتية: 1 - الرئيس بن يوسف بن خدة، رئيس الحكومة المؤقتة يومئذ: ”كان مشروع البرنامج المقترح يتمحور حول الاختيار الاشتراكي والحزب الواحد، ولم يثر كثيرا من الردود المعارضة. لذا تمت المصادقة عليه بعد المناقشة بإجماع الأعضاء الحاضرين (من كتابه حول أزمة 1962). 2 - سعد دحلب وزير الخارجية: - ”حرر المشروع على عجل، ولم يناقش في دورة مجلس الثورة كما كان منتظرا وتمت المصادقة عليه في جو من الضوضاء والغموض”.. - ”لم تر أغلبية الأعضاء جدوى في مراجعة عمل لجنة التلخيص التي كان يترأسها بن بلة شخصيا”. - ”لم أكن شخصيا أرى في مشروع البرنامج عملا نهائيا، بل مجرد مواضيع للنقاش المنتظر في حملة انتخاب المجلس التأسيسي”. - ”لم نكن نريد فرض اختيار ما على الشعب، وإنما نقدم له اقتراحا يتضمن تفضيلا للاختيار الإشتراكي” (من مذكراته: أداء واجب). 3 - علي كافي عضو مكتب الدورة: ”تمت المصادقة على البرنامج بالإجماع، دون أي نقاش ولا تغيير كلمة واحدة منه” (مذكراته). 4 - عمر بوداود عضو مكتب الدورة: ”صادق المجلس بالإجماع على مشروع البرنامج.. بعد مناقشات الجلسات العامة والتعديلات المقترحة عليه” (مذكراته). 5 - علي هارون عضو قيادة الجبهة بفرنسا: ”تم التصويت على المشروع بعد مناقشته وتعديله.. ليصبح ميثاق طرابلس”. 6 - محمد حربي شاهد ومؤرخ: ”صادق المجلس على مشروع البرنامج بالإجماع، وكانت إضافة الاختيار الاشتراكي بإشارة من علي هارون”.