قبل 30 سنة، وبالضبط في 3 مايو 1982 فجعت الجزائر في وزير خارجيتها محمد الصديق بن يحيى، ومعه 13 مسؤولا من خيرة إطارات البلاد. كان الوفد الجزائري في طريقه إلى طهران على متن طائرة خاصة للقيام بزيارة رسمية، مشفوعة بمحاولة توسط في النزاع العراقي الإيراني الذي يدمي الشعبين الشقيقين منذ نحو 20 شهرا، لكن بمجرد دخول الطائرة الأجواء الإيرانية قادمة من تركيا - أصيبت بصاروخ جو - جو، حولها في لمحة عين إلى ركام وأشلاء، تترامى في الجو وتتساقط على آلاف الأمتار. بعد 30 سنة ما يزال هذا الحادث الأليم لغزا محيرا، لأن تقرير لجنة التحقيق توقف عند الجزئيات، ولم يستطع الإجابة عن سؤال رئيسي: هل كان إسقاط القاطرة خطأ أم جريمة؟! "المستشار القانوني" لجمعية الطلبة ^ ولد محمد الصديق بن يحيى بمدينة جيجل في 30 يناير 1932، وبها درس المرحلة الابتدائية من تعليمه، قبل أن ينتقل إلى ثانوية سطيف، لاستكمال دراسته في شعبة العلوم التطبيقية. التحق بجامعة الجزائر كلية الحقوق خلال موسم 1950 - 1951، ونزل بإقامة "المجمع اللائكي" قبل تدشين الحي الجامعي ببن عكنون، وسرعان ما اندمج وسط الطلبة الجزائريين، بفضل ذكائه وخفة روحه وميله إلى المرح.. والدعابة. ويتذكر زملاؤه بالجامعة أنه كان مولوعا بالطرب الشعبي العاصمي، وبشيخه آنذاك الحاج محمد العنقا.. فكان يواظب على حضور حفلاته في قاعة "بورد" (بن خلدون)، ويلزم بعض زملائه بمرافقته، رغم أنهم لم يكونوا يشاطرونه إعجابه! وغداة الإطاحة بالملك فاروق في صائفة 1952 - شاعت كلمة "البكباشي" (المقدم)، مقرونة باسم جمال عبد الناصر من قادة الضباط الأحرار، فاستظرف بن يحيى ورفاقه هذه الكلمة الجديدة على مسامعهم، وأخذوا يرددونها فيما بينهم لكن بن يحيى ما لبث أن ألصقها بالشهيد علاوة بن بعطوش، فأصبح يناديه "البكباشي علاوة"! وكان الشهيد كامل الجسم، تبدو عليه ملامح الصرامة والانضباط العسكري. كان طلبة حركة الانتصار - حزب الشعب - يومئذ في طليعة الطلبة الجزائريين، فاحتك طالب الحقوق بهم، وتبنى قضيتهم: قضية تحرير الجزائر واستقلالها.. ويقول رفيقه بلعيد عبد السلام في هذا الصدد: إن بن يحيى كان يفضل العمل في الكواليس، ولم يكن - لأسباب شخصية - يشارك مباشرة في التنظيم الطلابي، الممثل يومئذ في "جمعية الطلبة المسلمين المغاربة". وإن كان نشاطه أحيانا - في الكواليس - أكثر فعالية، من نشاط العناصر المسيرة للجمعية! ويضيف الدكتور الأمين خان في نفس السياق: إن بن يحيى كان بمثابة مستشار قانوني للجمعية. ويؤكد ذلك الدكتور زهير إيحدادن، من خلال الواقعة التالية: "عند تجديد مكتب الجمعية في موسم 54/53، تحصل عبد السلام ومنافسه الصادق صابر على نفس العدد من الأصوات. ولم يكن القانون الأساسي للجمعية يشير إلى مثل هذه الحالة، فحاول طلبة حركة الانتصار حسم الموقف لصالح مرشحهم باقتراح مبدأ السن. وكانت المفاجأة عند استظهار بطاقة التعريف، أن صابر أكبر سنا! شق على رفاق عبد السلام أن تعود حيلتهم عليهم! فسهروا بحي "روبرتصو" طويلا، بحثا عن مخرج للطعن في فوز منافسهم، لكن بدون جدوى.. إلى أن جاء بن يحيى وأخرجهم من مأزقهم بالحل التالي: مادام القانون الأساسي لا يتضمن اللجوء إلى عامل السن في حالة تعادل الأصوات، يمكن اعتبار فوز صابر مخالفا للقانون! أي من الممكن الطعن فيه، بحجة وجود عيب في الشكل! وبهذا المخرج تمكن الطلبة الوطنيون - بعد جهد جهيد! - من إعادة النظر في فوز صابر.. تخرج بن يحيى من كلية الحقوق في يونيو 1953، وبدأ تربصه لدى المحامي عمار بن التومي، محامي الحركة الوطنية منذ 1946، وأمين عام "لجنة إسعاف ضحايا القمع" في نفس الوقت. وغداة اندلاع ثورة الفاتح نوفمبر 1954 وضعت مصالح أمن الاحتلال المحامي المتربص تحت المراقبة، مشتبهة في قيامه بدور الوسيط بين بن التومي وقيادة جبهة التحرير، لذا نصحه هذا الأخير بمواصلة تربصه - من باب التمويه - لدى زميل يهودي يدعي روبار عكوش. وما لبث المحامي المتربص أن اتصل - بوسائله الخاصة - بقيادة الجبهة فعلا.. لذا عندما اتصلت به خلية الطلبة الجبهويين للالتحاق بالصف في ربيع 1955، كان جوابه أنه على اتصال بإحدى شبكاتها في العاصمة.. ويقول الدكتور خان في هذاالصدد: وصلتنا فعلا عن طريقه كمية من الذخيرة موجهة إلى المنطقة الثالثة"... في 27 فبراير من نفس السنة بادرت "جمعية الطلبة المسلمين المغاربة"، بتوجيه نداء لعقد ندوة طلابية بباريس تنظر في مسألة تأسيس اتحاد خاص بالطلبة الجزائريين. وفي إطار تحضير هذه الندوة، طار بن يحيى إلى فرنسا للمشاركة في الدعوة له، بين الطلاب الجزائريين وسط وجنوب فرنسا خاصة. انعقدت الندوة خلال الأسبوع الأول من أفريل، وساهم بن يحيى مع رفاقه الوطنيين في إقناع المشاركين بتأسيس "اتحاد عام للطلبة المسلمين الجزائريين" في أحسن الآجال. وفعلا ضربت الندوة موعدا لذلك، من 8 إلى 14 يوليو القادم. شارك المحامي المتربص في المؤتمر التأسيسي للاتحاد ضمن وفد جامعة الجزائر، وانتخب عضوا في اللجنة المديرة. ولم يكن من بين أعضاء المكتب التنفيذي لاشتراط الإقامة بفرنسا. وفي ديسمبر من نفس السنة تأسس فرع الجزائر للاتحاد، فانتخب رئيسا له. وإلى جانب ذلك كان يواصل نضاله في إطار جبهة التحرير، واضعا نفسه في خدمة النواة الأولى لفريق المحامين المكلفين بالدفاع عن الأسرى الأوائل من المناضلين والمجاهدين. وعلى هامش زيارة الوزير الأول الاشتراكي جي مولي إلى الجزائر - ابتداء من 6 فبراير 1956 - كلف اثنين من مساعديه (1) بسبر آراء الطلبة الجزائريين حول الوضع السائد، فاستقبلا لهذا الغرض بقصر الشعب (الصيف سابقا) أمانة فرع الجزائر للاتحاد برئاسة بن يحيى. حاول مساعدا الوزير الأول معرفة الحدود الترابية لمطالب الوطنيين الجزائريين، فأفهمها بن يحيى أن الجزائر وحدة لا تتجزأ بحدودها القائمة، وقد استنتج من ردهما العنيف، أن الحرب ستتواصل خمس سنوات أخرى على الأقل! (2) في أواخر مارس من نفس السنة، شارك بن يحيى في أشغال المؤتمر الثاني للاتحاد المنعقد بباريس. وتولى رئاسة اللجنة السياسية التي ضمنت لائحتها قنبلة حقيقية: مطالبة فرنسا - أول مرة - بالتفاوض مع جبهة التحرير الوطني، باعتبارها الممثل الوحيد للشعب الجزائري!
بن يحيى في أمانة مجلس الثورة: تعليق "دورة الخلاف".. بدون رجعة! ^ أثناء وجود بن يحيى بباريس في إطار أشغال المؤتمر الثاني لاتحاد الطلبة، انتدب رفقة لخضر الإبراهيمي لتمثيل الشبيبة الجزائرية في مؤتمر الشباب بباندونغ احتفاء بالذكرى الأولى لمؤتمر التجمع الأفروآسيوي بهذه المدينة الأندونيسية. نزل بن يحيى ورفيقه بعض الوقت بالقاهرة فاستقبلهما المناضل الكبير محمد خيضر المكلف بالشؤون السياسية في الوفد الخارجي لجبهة التحرير، وأفهمهما أن مهمتهما تتجاوز المشاركة في مؤتمر الشباب بباندونغ، إلى البقاء بجاكرتا لفتح أول مكتب للجبهة خارج العالم العربي. وكان محمد يزيد عضو الوفد الخارجي في انتظارهما فعلا بأندونيسيا لتسهيل مهمتهما على الصعيدين: المشاركة الناجعة في المؤتمر، وفتح مكتب الجبهة بعد ذلك... وحسب شهادة الإبراهيمي أن المؤتمر كان ماراطونا سياسيا استغرق أكثر من شهر، تخللته صراعات الحرب الباردة - التي كانت يومئذ في عنفوانها - نتيجة حضور مختلف ألوان الطيف السياسي العالمي. وأثناء المؤتمر تلقى وفد شباب الجبهة برقية من عبد السلام حول إضراب 19 مايو 1956، فسارع بطرح الموضوع على المشاركين الذين لم يترددوا في مساندة موقف الاتحاد بالإجماع. فتح بن يحيى مكتب جاكرتا، ومكث على رأسه بعض الوقت، وحظي ورفيقه باستقبال الرئيس أحمد سوكارنو، أحد أقطاب حركة عدم الانحياز الوليدة. لكنه لم يتحمل طويلا المناخ الاستوائي الرطب فساءت صحته التي ازدادت سوءا بسبب أكل البلد اللاذع في مجمله. لذا استغل بعد فترة دعوة للمشاركة في مؤتمر حول مسألة قبرص، ليعود إلى القاهرة وينضم إلى فريق عمل الدكتور الأمين دباغين الرئيس الجديد لوفد جبهة التحرير بالخارج. وكان مؤتمر الصومام قبل ذلك قد اختار بن يحيى ممثلا للشبيبة الجامعية في أول مجلس وطني للثورة الجزائرية. نشط بني يحيى بالقاهرة في لجنة التوجيه والإعلام التي كانت تشرف على إعداد ومراقبة الحصص والتعاليق الإذاعية، والرد على طلبات مختلف الصحف المحلية والدولية المعتمدة هناك. وقد احتك في هذا الموقع فضلا عن الدكتور الأمين بشخصيات سياسية وطنية من الطراز الأول، أمثال المحامي عبد الرحمان كيوان والدكتور أحمد فرنسيس. وبالعاصمة المصرية شارك في أشغال أول دورة لمجلس الثورة المنبثق عن مؤتمر الصومام، وهي الدورة التي زادت في أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، ومجلس الثورة كذلك مع إلغاء صفة "العضو الإضافي". وقبل تشكيل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية - في 19 سبتمبر 1958 - عين رفقة بن يوسف بن خدة لفترة قصيرة بلندن، لتمثيل جبهة التحرير، ومحاولة تحسيس المسؤولين والرأي العام البريطاني بالقضية الجزائرية. وإثر عودته من العاصمة البريطانية، عمل مستشارا للدكتور أحمد فرنسيس وزير المالية في الحكومة المؤقتة.. وبعد سنة من ذلك كان له شرف المشاركة في لجنة تحضير الدورة الثانية لمجلس الثورة التي صادقت علي القوانين الأساسية لمؤسسات الثورة وجبهة التحرير، وتشكيل حكومة مؤقتة جديدة برئاسة فرحات عباس للمرة الثانية، وقد تولى في هذه الحكومة الأمانة العامة التي لعب من خلالها أدوارا هامة على الصعيدين الداخلي والخارجي. على الصعيد الخارجي: رافق بن يحيى المناضل الكبير أحمد بومنجل في أول لقاء رسمي بالفرنسيين، وهو لقاء "مولان" الذي انعقد أواخر يونيو 1960. وجاء هذا اللقاء ردا على خطاب الرئيس دوغول في 14 من نفس الشهر، وكان إيجابيا حسب تقييم الحكومة المؤقتة التي عرفت من خلاله بعض نوايا الخصم على الأقل. ومن منصبه في الأمانة العامة للحكومة ساهم في إعداد ملفات إيفيان الأولى (20 مايو - 13 يونيو 1961)، وشارك في المفاوضات كخبير مستشار للوفد الجزائري برئاسة بالقاسم كريم. فشلت إيفيان الأولى كما هو معروف، وبادرت الحكومة المؤقتة بإيقاف محادثات "لوجران" في أواخر يوليو الموالي، لفضح مناورات الجانب الفرنسي حول مسألة فصل الصحراء عن شمال الجزائر. ولما ثاب هذا الجانب إلى رشده واعترف الجنرال دوغول بأن الصحراء جزائرية كلف بن يحيى باستئناف الاتصالات السرية بالفرنسيين.. وفي هذا الإطار كان لقاء "بال" (سويسرا) الأول (28 و29 أكتوبر 1961) والثاني (9 نوفمبر) مع كل من "دولاس" و"شايي".. وقد حضرهما رفقة رضا مالك منسق صحيفة "المجاهد" آنذاك. وقد كانت "بال" فاتحة حقيقية لإيفيان الثانية بعد أشهر معدودة، إذ أثيرت بها مجمل القضايا التي يتضمنها ملف المفاوضات، بدءا بقضية الصحراء والأقلية الأوروبية. وبعد أسبوع من ذلك كلف بن يحيى بتبليغ قادة الثورة السجناء نتائج لقاءي "بال" واستطلاع رأيهم في نفس الوقت حول مختلف بنود المفاوضات. وكانوا يومئذ قد نقلوا إلى قصر "أونوا" (ضواحي "مولان") بغرض تسهيل الاتصال بهم ضمن آفاق المفاوضات الوشيكة، وزارهم بن يحيى ثانية، مع كل من كريم وبن طبال في نفس الإطار. وإلى جانب ذلك كان وزير الخارجية الجديد سعد دحلب يصطحبه، في لقاءاته برئيس الوفد الفرنسي "لويس جوكس".. كما حضر مفاوضات "لي روس" السرية التي وضعت مسودة اتفاقيات إيفيان.. قبل أن يشارك في الجولة الأخيرة التي توجت بتوقيع الاتفاقيات المذكورة يوم 18 مارس 1962. على الصعيد الداخلي: يمكن أن نضيف إلى حضوره القوي عبر منصبه في الأمانة العامة للحكومة، ودوره في دورات مجلس الثورة، أنه ترأس الدورات الثلاث الأخيرة لهذه الهيئة العليا لقيادة الثورة: - دورة أوت 1961 التي أسفرت عن تعيين حكومة جديدة برئاسة بن يوسف بن خدة. - دورة أواخر فبراير 1962 التي صادقت بالإجماع (3) على مسودة اتفاقيات إيفيان، قبل الجولة الأخيرة من المفاوضات الرسمية. - دورة مايو - يونيو 1962 التي تضمن جدول أعمالها نقطتين: المصادقة على برنامج عمل، وتعيين قيادة عليا للثورة باسم المكتب السياسي. كان يساعد بن يحيى في أمانة مجلس الثورة كل من العقيد علي كافي وعمر بوداود.. ولم تكن هذه الدورة مبرمجة في رزنامة الحكومة المؤقتة التي كانت تؤجل النظر في مثل هذه المسائل إلى ما بعد إعلان الاستقلال، لتطرح على مؤتمر موسع داخل الجزائر. غير أن رأي التحالف الجديد المبرم بين بن بلة النائب الثاني لرئيس الحكومة المؤقتة والعقيد هواري بومدين قائد هيئة الأركان العامة لجيش التحرير، كان غير ذلك، أي البت في هذه المسائل قبل إعلان الاستقلال، خشية أن تنجح الحكومة المؤقتة - إذا دخلت الجزائر متوجة بهالة النصر - في ترتيب شؤون السلطة لصالحها! لذا عندما طلب بن بلة - وحلفاؤه - من أمانة مجلس الثورة استدعاء دورة طارئة للمجلس، تحفظت على ذلك في البداية، وكان جوابها: "إن الظروف لا تسمح بذلك. لو اجتمع المجلس لدخلنا الدورة منقسمين، وخرجنا منها أكثر انقساما"! غير أن ضغوط بن بلة وبومدين ما لبثت أن تجاوزت تحفظ أمانة المجلس والحكومة المؤقتة معا.. وعقد المجلس فعلا "دورة الخلاف والانقسام "التي كان على رئيسها بن يحيى أن يتحمل مسؤولية تعليقها ليلة 6 يونيو 1962.. بعد أن يئس من حصول اتفاق حول تشكيلة "المكتب السياسي"، القيادة العليا الجديدة للثورة ولفترة الاستقلال معا! - يتبع - (1) هما "أربو" و"كومان" اللذان أجريا فعلا بعد ذلك عدة اتصالات بالوفد الخارجي لجبهة التحرير. (2) حسب شهادة صالح بن قبي عضو أمانة فرع الجزائر لاتحاد الطلبة. (3) ناقص أصوات بومدين وقايد ومنجلي والرائد مختار بوعيزم (الولاية الخامسة).