ما أبخس التهم التي تصدر هذه الأيام، من فاسدين ومن أبواق وجدت بفضل الريع، في حق أبناء جنوبنا الكبير. عوض التفكير بهدوء ومحاولة فهم معاناة أبناء الجنوب وأسباب ثورتهم، راحت أبواق النظام تتهم هؤلاء بالتحرك لصالح أطراف أجنبية. ”اليد الأجنبية” وجدت عبر التاريخ، ففي اللعبة الدولية لا يلام القوي الذي يتدخل في شؤون الضعيف بل يلام هذا الأخير خاصة إذا كان يملك كل أسباب القوة ولم يستفد أو لم يشأ أن يستفيد منها. يلام النظام السياسي الذي يجعل البلد يؤتى من كل جهة دون أن يحرك ساكنا لتدارك الأوضاع. ”اليد الأجنبية” لا تنشط ولا تستطيع تحريك الآلاف عندما يكون النظام السياسي منبثقا من الإرادة الشعبية وتكون الجبهة الداخلية قوية ومتماسكة. الحديث عن ”اليد الأجنبية” يجر حتما للحديث عن من أوصل البلد إلى هذا المستوى من الخوار الذي يجعلها تخشى حتى دويلات هي مجرد نقطة في الجغرافية وكانت بالأمس القريب نكرة. هذه الجزائر يا ناس، فكيف تقزمونها إلى هذا الحد. إنها قمة التخلف الفكري والتخبط المؤسساتي أمام مشكلة كان من الواجب البحث عن حلول لها عوض تلفيق التهم لشباب لا يبحث سوى عن العيش الكريم. منذ عدة سنوات ونحن، مجموعة من الأساتذة والمحللين للشأن الداخلي، ننبه إلى أخطار تهميش منطقة الجنوب. قلنا أكثر من مرة بأن مدينة تمنراست يجب أن تؤهل لتكون عاصمة ثانية للجزائر. المال موجود وهو يصرف في غير محله ويقرض منه للبنك الدولي، والكفاءات الجزائرية موجودة وهي تعاني من الفراغ ومن التهميش فما الذي يمنع من تخصيص مبالغ مالية تستثمر في تحويل مدينة تمنراست إلى مدينة عصرية وقطب إفريقي يحتوي على أكبر وأهم الجامعات والفنادق والمستشفيات والمرافق في إفريقيا. قطب يستقطب الطلبة من الجزائر وإفريقيا ويجلب السياح من العالم أجمع. ما الذي منع الحكومة من التفكير في مشروع كهذا سبق لنا أن اقترحنا إنجازه في أكثر من مناسبة. لكنهم لا يسمعون ولا ينصتون ولا يقرأون ولا يهتمون بما يقول أو يفكر فيه من بقت له القدرة على التفكير في هذا الزمن الملون بكل أنماط الفساد. منذ عشر سنوات ونحن ننبه إلى أخطار تهميش وإقصاء أبناء الجنوب. غريب أن لا نرى من أبناء الصحراء الجزائرية من يتولى الوزارات والمناصب المهمة، والأغرب منه أن لا نجد، في السلطة السياسية من اهتم بشرارات الغضب التي انطلقت في أكثر من جهة منذ عدة سنوات. إن علة وجود أي نظام سياسي هي أن تكون له القدرة على إدراك الأخطار قبل وقوعها وأن يجهّز الحلول لكل المشاكل التي تطرأ. لكن ليس هذا هو حال سياسيينا ومن سار في فلكهم. يقول عبد الرحمان الكواكبي في كتابه الموسوعي حول الاستبداد، الذي صدر مع بداية القرن الماضي بعنوان ”طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، إن ”الحكومة المستبدة تكون طبعا مستبدة في كل فروعها من المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفرّاش، إلى كناس الشوارع، ولا يكون كل صنف إلا من أسفل أهل طبقته أخلاقا، لأن الأسافل لا يهمهم طبعا الكرامة وحسن السمعة، إنما غاية مسعاهم أن يبرهنوا لمخدومهم بأنهم على شاكلته، وأنصار لدولته، وشرهون لأكل السقطات من أي كان ولو بشرا أم خنازير، أباءهم أم أعداءهم، وبهذا يأمنهم المستبدُ ويأمنونه فيشاركهم ويشاركونه”. هذه الصورة المعبرة فعلا عن طبيعة النظام السياسي الفاسد الذي لا يحيط نفسه سوى بالبطانة الفاسدة والتي ينقلها الكواكبي عن مراحل سابقة عاشتها المنطقة العربية، لا تختلف كثيرا عما يجري في بلدنا اليوم. المتأمل في كيفية تسيير أمور البلد يلاحظ كيف أن نظام الحكم بني على مجموعة من الأسس التي عطلت الحياة السياسية وأفرغت البلد من أفضل كفاءاته؛ فقد نحا جل السياسيين نحو الجهوية والعشائرية واللجوء إلى المشعوذين وإلى اختيار الأسوأ والأقل كفاءة لتولي المسؤوليات وإبعاد الأكفاء والنزهاء من دواليب السلطة وتغليب الجاهل على العالم والفاسد على الصالح وقمع كل المحاولات الجادة لإحداث التغيير الإيجابي. هذا الوضع، أفرغ البلد من كل الرموز الإيجابية وجعلها تعيش على هامش التغييرات التي أحدثتها الموجة الثالثة في تطور البشرية والمرتبطة أساسا بتكنولوجيات الإعلام والاتصال. عقل المسؤولين الذين لا يعرفون حتى كيف يشغلون حاسوبا، لم يستوعب حجم التغييرات التي حدثت مع بداية الألفية الثالثة، فواصلوا تسيير شؤون الرعية (ليس المواطنين) بنفس عقلية شيخ القبيلة. في بداية التسعينيات وأثناء حرب الخليج الأولى، قال الباحث المغربي المهدي المنجرة بأن الجيل العربي ”الذي سيعيش بعد العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين سيعرف ديناميكية على مستوى تحقيق المتطلبات الديمقراطية، والعلمية، والتكنولوجية، والاقتصادية خارج كل هيمنة غربية، مما يمكنه طبقا لذلك، الخروج من مرحلة ما بعد الاستعمار التي بدأت منذ 1990، مع ”النظام الدولي الجديد””. إنه ما يقع اليوم بالضبط في الجزائر، خاصة في الجزء الجنوبي منها. شباب متفتح على السماوات الأخرى يتابع كيف يعيش غيره من الشباب في كنف الحرية والديمقراطية وهو محروم من أبسط متطلبات الحياة. شباب يطالب اليوم بحقه الذي حرم منه لأن شرذمة من الفاسدين هي من تولت تنفيذ كل مشاريع التنمية التي خصصت للوطن بجنوبه وشماله فاستنزفت الملايير من المال العام دون أن يستفيد أبناء البلد من أبسط متطلبات الحياة.