إن كانت الجزائر قد أنجبت أصواتا شعرية ترفض الظلم والخنوع تهيم بصحوة الإنسان عبر الأزمان.. أصوات تبحث عن بدائل القلق في نصوصها، ترفض أيضا عجلة الحزن الإنساني هي كأصوات الأنبياء. عثمان لوصيف قرأ أفكار الحب المستحيل بصيغ جديدة ، فتعمد بناء فكرة هادفة، انساب وراء الإيقاع الهادئ.. حيث دفقاته الشعرية معبقة بكؤوس مملؤة بموجات عاتية لايمكن أن تنضب بأمنيات قليلة.. وهو الصاعد نحو التجلي الصوفي نحو خيوط الضياء والتوهج الأبدي. يقول في قصيدة: التجلي صاعد في خيوط الضياء نحو عينيك.. أمشي على درجات الندى والأناني عصافير خضراء ترتف حولي وتمسح بالريش حزني المعتق يا أيها الفلق المتوهج في رحم الليل
فهو حريص على قريضه، يولى الاهتمام بالمعنى والمبنى.. شاعر متألم جدا، أهدى تمزقاته لجيله، اكتشف صدمته في واقعه يقول في قصيدة المعراج: صاعد في الحفيف، في نشوة الوخز ، في ريش السحاب في الأهداب.. صاعد.. صاعد خلني هذا اغترابي هذه شهوتي.. وهذا عذابي
عثمان لوصيف ذاكرة حبلى بحروف تقتفي أحلام رحلة اليقين.. حيث اللغة المكتنزة بأحلام السفر الدائم والبحث المؤسس له، طاف بعمق أفكاره وسلاستها.. بين عذابات النشوة وصبوات الشهوة وبين رائحة الغيمات الفاتنة، حيث الرؤى في سماء التفاصيل والتميز،فينبعث نور بدائعه من شقوق الروح لتعانق تجليات الوضوح. يقول في قصيدة: إعلان عن هوية ولي نشوتي وعذابي ولي النار والحلم والشهوة الجامحة وتوق يرف مع الغيمة الرائحة وأعب رحيق الحياة.
عثمان لوصيف حرف ماطر.. وكأن حاسة التدفق الشعري تتشرنق بجينياته، حيث الانزلاق نحو قمة الإبداع.. هو شاعر لايتحدث عن شاعريته وإنجازاته، شاعر لاحقه الأضواء فهارب من وهمها وزيفها؟ لأنه سيورق في عتمة الليل، وشجر الدمع والبوح، ودفقات الأحلام والتمزق عبر الأزمان، فقد تربع بين تفاصيل الفرح، وفصول الشعر. يقول الشاعر الجزائري سليمان جوادي:”عثمان لوصيف شاعر من طينة الكبار تشعر وأنت تقرأ له أنك أمام صوت متفرد متميز في الشعر الحديث فضلا عن موهبة فذة.. يشتغل على القصيدة باحترافية وتمكن.. ولا أبالغ حين أقول أنه من الذين ظلمهم النقد كثيرا”. يقول في قصيدة: الوردة من شفاهي تنزلق الكلمات سمكا أخضرا ذهبي الزعانف والزغبات شاعر.. شفتي زهرة ويداي لغات تسكر الأرض حين أغني وترقص أشجارها العاشقات والفراشات ترتفّ فوق رموشي وتستيقظ النجمات
فهو نابض بأسرار حرفه، شامخا ببقايا أحلامه التي حدث عنها دون حاجة لمراكب سفر تعطينا مساحات للبوح أكثر ودون حاجة لزيارة مدن غريبة. يقول الأستاذ حميدة صباحي جامعة محمد خيضر بسكرة:”هكذا يبدو اغتراب الشاعر عثمان لوصيف انطلاقا من شعوره بالوحدة والضياع في موطنه وبلد هو بلده حيث يحلم كل إنسان بالارتفاع والنجاح”. لأنه جنح ببنات خياله.. حيث الجراحات ترافق أيامه، فهو طائر الطهر قد اغتسل من ذنوب البشرية جمعاء.. ورافق أحلام الفقراء.. وسلك دروب الشعراء يصلب الأنبياء المجتبون ويقطع ألسنة الشعراء؟ ولماذا لاتبنى العروش إلا على جماجم الفقراء
وقد وتزهر توقعات أمنياته بين سراب العمر الهارب نحو السهوب والصدى والرنين المجروح.. وزفرات غناء مبحوح خافت مهجور النزف.. هموم تراود عثمان لوصيف دون تعب تعاوده كلما ابتسم نايه الشادي بين ضباب التوغل في مجاهيل المهجور.. واخترق مناحي السراب . وهو القائل في قصيدة:”جرس سماوات تحت الماء جرس أطارده فيجرحني الرنين صدى يسافر في يدي غمامة تدنو وأخرى تهرب وأنا أهرول في سهوب العمر أبحث عن جراحاتي التي انهمرت هنا بالأمس مني هل رعاها الأنبياء فيرعت مزهوة آه على جرس توغل في الضباب فلا يعود سوى زفرات ناي نازف أمطره لا تتعب.
هو إنسان يصعب الإمساك بإنسانيته لأنه شاعر مرهف الحس فياض الوجد متشبع بالقيم والمبادئ العالية ...زهد بالمال والمناصب. إن أردت تعريف دقيق للمحبة يكفى أن تعطى نموذجا فيها بشخص عثمان لوصيف يقول أيضا الشاعر سليمان جوادي: ”أما عثمان لوصيف الإنسان لقد عاني كثيرا واستطاع أن يتغلب على جميع الصعاب والآلام التي مر بها سواء ذاتية أو اجتماعية.. هو من الأدباء الجزائريين القلائل الذين لايختلف الناس حول شعره وشخصه” تلك النفس التي جبلت على الرفع عن ملاذ الدنيا.. هو عنفوان وخيلاء إبداعي متدفق.. ينبعث نور النقاء الروحي من محياه.. متجاوزا زمنا مثقلا بالمعاناة وصداع نصفي يلازم تجلياته،.وكرم يغمر به ضيوفه لأنه شاعر يكتب بخفقات الأنا والآخر. كتب الصحفي رشدي رضوان:”غمرنا بكرم الضيافة ثم هرب كي لا تقبض عليه الكاميرا”. دخل علينا ابن الشاعر ليقول لنا وصية والده: (لأنني أحترم كل الذين عرفوني والذي لايعرفوني، أرفض أن تنقل لهم الكاميرا هذه الصورة المحبطة وأنا على قيد الأرق والمرض. أريد أن تبقى صورة لياقتي الشعرية والحسية هي الحاضرة.. لاأريد أن أقدم صورة بائسة عن المثقف الجزائري.. فاعذروني). عثمان لوصيف شاعر عانق قصائد العمر الزاهية.. عانق بطولقة نخلات الشعر الوارفة سقاها بخيلاته من منابع خمرة صباحية صافية وحروف متمردة.. زرع فيها بذور الانتماء، حيث بللها بمطر بسكري.. أنعش وشرب من زنجبيل العناء، وألم بعذب قصيد، وبوح عبق، حيث رياحين شعره الإبداعي المزدان بميتافيزيقا الحرف الآسر يقول أيضا الشاعر سليمان جوادي: ”فلو عاش عثمان لوصيف في بلد آخر غير الجزائر لذاع صيته عربيا.. أكثر لاحتل مكانة متقدمة في المدونة الشعرية العربية”. نشر قلقه الملحوظ في أبياته.. وقد حررها من التجارب العادية ، فتلك المفردات التي يتشكل منها قاموسه الإبداعي تعطى كامل الرغبة في البوح والتمرد على كل ماهو عادي وتقليدي. يقول أحمد بلقمار من جامعة قاصدي مرباح: (لوصيف جمع إذن في المجموعة الشعرية - يقصد هنا مجموعته الكتابة بالنار - بين النموذجين العمودي والحر وبقى وفيا للبحور حتى في شعره الحر الذي يفترض أن يكون متحررا من القيود الخليلية.. خرج من نظام الشطرين إلى نظام الشطر). يملك حاسة عالية من التعبير عن الألم الإنساني.. وتفجبر همومه ومحنه وقدرة على تشكيل الصور ، حيث المواجع لايمكن اختزانها بخيبة اللاجدوى من استرجاع الأحبة وكل ماهو مفقود وغربة داخلية ونزف مستمر لايحتمل حتى وإن كان الأمل يلوح ضئيلا ..لا زوارق تحمل حلمه لشط النجاة.. حمام عثمان لوصيف لم يعد يشدو على شرفات حلمه وفرحه المهاجر، كما حمل له رسائل السلام والمحبة ذات صباح، وسندباد عثمان لوصيف قد ضيعته محن العمر بين فيافي الأسفار وغربة الذات للمكان والزمان.. ونوح عثمان لوصيف أيضا قد غرقت مراكب فرحه على مراء منه لأن المحن أثقلت تلك المراكب بزادها الجراحي الثقيل. يقول في قصيدة زهرة الياسمين: أناديك حمام يغني حمام ينوح سحائب تذو وأخرى تروح وأنت على شرفة الحلم زورق نار يخوض المجاهيل يجرح أمل النهار وفي مقلتيك يضيع الهدى السند باد ويعزق نوح. فليت ذاك الصداع الذي يلازم عثمان لوصيف يستمر لأنه صداع الإبداع والتميز هو صداع العواصف التي خلقت لديه عوالم جديدة .. من دعائم الثبوت على أرض الشعر العربي بأريحية وعنفوان. يقول محمد راضي جعفر في كتابه ”الاغتراب في الشعر العراقي”: ”فالشاعر أسرع من غيره بهذا الداء - يقصد الاغتراب - ويقصد مطلق شاعر - لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة”. لغة عثمان لوصيف لغة أنتجتها رؤى سامية.. لغة مكتظة بالمعانى والأوجاع ، حالات واقعية.. وصبر لأغوار النفس الإنسانية بحبكة المتمرس ، وعذابات معتمدة.. فإن كان الوطن هو عذابه.. عشقه، كونه ينكوى بنار التغرب وقطاف رماد الأنين الداخلي يغوص في حالات الإنسان لأنه يمثل إحساس الإنسان ومنطق الفيلسوف بطرحه وجماليات رؤاه يقول في قصيدة منطق الوردة: أسمى كل شيء امرأة لأعود لكينونتي وحدتي أسمى كل شيء وردة
الذكريات في مخيال عثمان لوصيف تستفيض وتختلج عبر تساؤلات.. تؤسس للرغبة في المعرفة.. لوطن أثقلته الأحزان وضيعته المفارقات لأنه شاعر مسكون بالأرق، وتمزق القصيد: لفحات جراح ضيعتها رياح التشتت والتوتر.. فهو يعزف مواجعه بأساليبه البديعة يقول الشاعر الجزائري مولود خيزار :” عثمان لوصيف إنسانيا قيم فروسية تتحرك في زمن معطوب بالخيبة والردة والفجاجة ...صوت أصيلا ونقيا يراهن على ماتبقى من ماء الكلام ...ونار الخروج ...وتراب المنفى ...أعظم كاتب عرفته الجزائر منذ عرفت الحرف العربي ... قديس الجمال بامتياز.. طفل يلعب في حقل خطاب ملغم تمام الأجوبة ...يراهن بوعي الإنسان الكبير على المؤنث.. الكتابة لديه تجربة عشق لمدينة تتناغم فيها إيقاعات الأضواء والألوان والأنفس.. مدينة ضميرها الحرية .. وجسدها منثور لرياح الهتك .. والمغامرة والكشف ” فجاءت قصائده بألون الطيف.. تمهلك فك شيفراتها قبل النهاية.. بمخزون لغوي مرصع بفسيفساء الروح.. وريحان البوح الواعي. يقول بشير ونيسي في كتابه ”مواجهة اللامسمى”: عثمان لوصيف شاعر جزائري أرجع القصيدة إلى عودتها الأدبية وجوهرها الفرد، أعاد للشعر سره وسحره..لأنه الشعر بوجهه العذري يعيد للمعنى فردوسه المفقود. عثمان لوصيف يشهد نزف لغته بقلمه الجاد وآلامه ترضع من أثداء حقيقة واقعه.. فهو لايملك إلا الانصياع.. وكأن أنهر الإنسانية كافة لاتكف للارتواء بدفقه الإبداعي العذب. يقول الدكتور عبد الكريم شريف:”عثمان لوصيف، إنه كالعنكبوت ينسج خيوط قدره من أعماقه، أو كالطائر الفنيق يحرق ذاته الفاتنة ليخرج من رمادها ذاته الخالدة ، أو هو كبروميثوس يقول لا ويتلقى بعنفوان جمال الصاعقة”. عثمان لوصيف أعد حقائبه الشعرية كاملة وزودها ب18 ديوانا شعريا.. تفنن في نقش عناوينها في ذاكرة محبيه.. فرتبها بعناية شوقه. وجملها بوهج بوحه.. وزفها بقبلات وجده... واعتنى بها كبنات كبده.. لأنه طبع أغلبها على نفقاته الخاصة.. فقدمها في حلة زاهية البوح .. وافية الألق.. شامخة الرؤى.. آسرة اللفظ.. بديعة النسق. نذكر منها: ^ ديوان الكتابة بالنار لعام 1982 ^ ديوان شبق الياسمين 1986 ^ ديوان أعراس الملح 1988 ^ ديوان نوش وهديل 1994 ^ ديوان التغابي 1999
فعذرا أيها الشاعر الجزائري الكبير لأنه مازال يلزمنا الكثير من الوجد الإنساني، لنكشف عبق كتابتك المطعمة بإنسانيتك. والكثير من الصفاء الروحي لنعايش أكمام زهرك البسكري وعطرك الوطني لنشهد لمدك ودفقك وفصول إبداعك التي أثريت بها العقول ورقيت بها النفوس.. فتوجتك على عرش بهاء الحرف. وإن كانت رسالة الكاتب أمين. لست ككل الرسائل هي رسالة لقديس الجمال.. وبديع البيان عثمان لوصيف - نشرت بمجلة أصوات الشمال - تحت عنوان: إلى صديقي الشاعر عثمان لوصيف في وحدته النبوية بتاريخ 31 /12/ 2012 بمناسبة السنة الجديدة 2013. يقول فيها: ” أخاطبك و هذه سنة تنسحب و أخرى تطل، مثلك لا أعرف عد السنين. حتى و إن كنت في عزلتك و وحدتك لا ترد على النداء فإني أقول لك من خلال هذا الفضاء: يقصد هنا - مجلة أصوات الشمال - الشعر يا عثمان سينتصر والشعراء يا عثمان أكبر من العطب”..
وهاهي قصيدة ”عروس البيضاء” تعد من كنوز الشعر العربي الحديث المعاصر فقد تربعت بها على عرش وجدان الشعر العربي الممتد في شرايينك حد اللوعة ..حد التميز المفرط ..حد التمزق والشهقات. هذه القصيدة التي سحرتني بنورها وضياءها وألقها وتدفقها لأنني استقبلت طوفانها وأيقنت بالغرق الشهي البهي على ضفافها.. فهي على مساحة بوح تمكنها من سحر الألباب يقول فيها: شفق ولعينيك تغريبة البحر يشتعل الأرجوان المسائي وأنت على ساحل المتوسط تغتسلين الغروب وأعراسه شذرات اللهيب على سوسن الماء والشمس تغرق
ونستسمحك عذرا لنقول مرحى للأوجاع أسكنتك قمم روح الإبداع الدائم... وأهدتنا شاعرا بوحه يتناهى عبر مجاهيل النشوات... ويتناغي كما الأحلام والأمنيات... ممسكنا بشذرات الجنون الجنون... متوغلا بين زفرات الغروب الغروب... واشتعال موج الحنين الحنين ، وأهرق زنجبيل البوح والنوح .. كل هذا لوطن رشفت من سوسن مائه.. من شهقة بحره...يقال له - الجزائر - من أهرق الزنجبيل على نمش الرمل؟ من فتت البرتقال على جمر نهديك ؟ من غمس البحر في عسل الصبوات ؟ ومن ساق نحوك هذا المتيم ؟ كانت مفاتن جسمك تزداد عند التوهج والنار تلتهم النار كان اللقاء وكان الجنون الجنون آه، جسمك فاكهة البحر جسمك عيد المرايا وجسمك مجرى المجرات أنت الحقيقة بين يدي وأنت البراءة تفتر عن ليلة القدر يا نحلة الضوء والنوء يازهرة الثلج عند الخليج ويا امرأة تنتمي فيقال الجزائر.