كان عبد الحفيظ بوالصوف من عناصر ”المنظمة الخاصة” التي نجت من شباك الزمن الإستعماري بمنطقة قسنطينة، غداة الإعلان عن اكتشاف المنظمة في 18 مارس 1950.. لذا استطاع أن يتحول مباشرة من التنظيم شبه العسكري، إلى التنظيم العلني المتمثل في حركة انتصار الحريات الديمقراطية.. ويعود ذلك إلى حد ما، لتشبع هذا المناضل الكبير بالوعي التنظمي، وبالسرية التي يتطلبها كل تنظيم ثوري، يحمل رسالة كبيرة: تحرير وطن. في سنة 1952 كان بوالصوف على رأس دائرة سكيكدة لحركة الإنتصار، وكان محمد حربي من الإطارات الواعدة بالناحية، تُرى بماذا أشار عليه في إطار الإستعداد للمهام الثورية المنتظرة منه؟ أشار عليه بمطالعة كتابين: ”ما العمل؟” للنين ”عصر المنظمين ” لجيمس بورنام وقبل ذلك، كان الثائر النقابي الكبير حسن الثوري في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، يلقن شباب الحركة الوطنية أهمية النظام قائلا ”النظام نصف النجاح، والقدوة نصفه الثاني”! وكان المناضل بوالصوف يجسد هذه المقولة قناعة وسلوكا.. البطل الأسطوري الذي دوخ أمن الإحتلال! ولد عبد الحفيظ بوالصوف بميلة في 17 أوت 1926، كان والده خليل إماما بالبلدة، ومزارعا صغيرا في نفس الوقت، فضلا عن المتاجرة في مادة الفحم. درس المرحلة الإبتدائية بميلة، واحتك مبكرا بالحركة الكشفية الوليدة في أواخر الثلاثينات من القرن الماضي، وكانت يومئذ مشتلة للأفكار الوطنية. ويخبرنا في هذا الصدد محمد الميلي الذي كان معه في نفس المدرسة، أن التلميذ بوالصوف الذي كان في قسم أعلى كان يستغل فترة الإستراحة، ليشكل صفا مزدوجا من صغار التلاميذ، ويطوف بهم ساحة المدرسة، على أنغام نشيد حزب الشعب الجزائري ”فداء الجزائر روحي ومالي.. ألا في سبيل الحرية”، من نظم الشاعر الوطني الكبير مفدي زكريا سنة 1936. وكان خارج المدرسة يجمع بعض صغار زملائه ليحكي لهم قصته مسلسلة، بطلها شخصية وطنية من إبداعه تتميز بحيلها الخارقة في مكافحة الظلم الإستعماري.. وفي بداية الحرب العالمية الثانية، بينما كان بوالصوف يواصل دراسته الإكمالية بقسنطينة، استعار من زميله الصغير محمد الميلي المجموعة الكاملة لمجلة ”الأمة العربية” التي كان يصدرها من ”لوزان” شكيب أرسلان، والتي كان والده الشيخ مبارك الميلي مشتركا فيها. مثل هذه المطالعة الحرة المفتوحة، تؤكد حرص هذا التلميذ المتميز على تكوين نفسه تكوينا سياسيا كذلك. خلال الموسم الدراسي 40 / 41، يكون بوالصوف حصل على شهادة التعليم المتوسط، وربما شهادة البكالوريا في الموسم 43 / 44، الأمر الذي فتح أمامه باب التعليم بعض الوقت.. لكن من الواضح أن آفاق التوظيف في ظل الإحتلال لم تكن من اهتماماته، لاسيما أن عاصمة شرق البلاد قسنطينة آنذاك، كانت تعيش حراكا سياسيا وطنيا واسعا مع حركة أحباب البيان والحرية أفزاع إدارة الإحتلال، ودفعها إلى محاولة إجهاضه في مجازر 8 ماي 1945 هذه الأجواء النضالية الساخنة، المضرجه بدماء الشهداء التي ضمخت العلم الوطني الحالي كانت منعطفا حاسما في حياة الشاب عبد الحفيظ ذي 19 ربيعا. لقد وجد نفسه في رواق طليعة من المناضلين الأشداء، أفرزتهم تلك المحنة الدامية بقناعة جديدة، نقل رسالتها إليهم المناضل الكبير محمد بلوزداد الذي كلف ببعث حزب الشعب الجزائري، من تحت ركام الخراب الذي تركته أعاصير الإحتلال المدمرة، مفاد هذه القناعة باختصار أن مناضل ما بعد 8 ماي، عليه أن يفكر في شراء سلاحه! لم يكن بوالصوف مؤهلا لحمل السلاح الناري، بحكم ضعف بصره خاصة فاختار سلاح المعرفة: الإطلاع على تجارب مختلف الحركات الثورية عبر العالم، مع الإهتمام خاصة بالجوانب التنظيمية فيها، فضلا عن وسائل وسبل تأمين نفسها من محاولات الإختراق، وما يتبعها من انحرافات قاتلة. طبعا لم يقنع المناضل الثوري الشاب بسلاح المعرفة الفكري وحده، بل وظف هذه المعرفة لإتقان أحد فروع السلاح الناري، سلاح المتفجرات الذي أصبح بوالصوف خبيرا فيه. هذا التكوين النضالي العسكري وجد إطاره المثالي للنشاط، من خلال ”المنظمة الخاصة”، تلكم الطليعة شبه العسكرية التي قرر حزب الشعب الجزائري المحظور تأسيسها في مؤتمر منتصف فبراير 1947، إلى جانب واجهة شرعية باسم ”حركة انتصار الحريات الديمقراطية”.. كان بوالصوف من عناصر الخلايا الأولى لهذه المنظمة ناحية ميلة، إلى جانب رفيق دربه سليمان بن طبال.. وبفضل هذا السبق النضالي استطاع أن يتعرف على أهم رودا الكفاح المسلح بشرق البلاد بوضياف، بن مهيدي، ديدوش مراد وبن بولعيد... إلخ. ظل بوالصوف ينشط في ظل السرية التامة، ناهيك أن مصالح أمن الإستعمار لم تكتشف انتماءه إلى المنظمة الخاصة عقب الإعلان عن اكتشاف هذا التنظيم في أواخر مارس 1950. لقد اختفى بعض الوقت بسبب هذا الإكتشاف وحملة الإعتقالات التي أعقبته، ليعود بعد ذلك إلى حياته العادية، لأنه لم يكن محل متابعة ولا محاكمة، كما يذهب البعض إلى ذلك، ويصدق نفس الشيء على الشهيد رمضان بن عبد المالك، إذا لا نجد أثرا لإسميهما في مختلف المحاكمات التي ضربت العشرات من مناضلي المنظمة الخاصة عبر الجزائر كلها. رئيس دائرة متربص! لم تكتشف مصالح الأمن انتماء عبد الحفيظ بوالصوف إلى ”المنظمة الخاصة”، غداة الإعلان عن اكتشافها في أواخر مارس 1950، لكن من باب الإحتياط، قررت إدارة حزب الشعب - حركة الإنتصار نقله إلى وهران، لإجراء تربص كمرشح لرئاسة إحدى دوائر الحزب. كانت إدارة الحزب قد عينت المناضل محمد مروك على رأس ولاية وهران في أوت 1950، وهو من أركان المنظمة الخاصة الذين نجوا من الإعتقال- أسوة بمحمد بوضياف، فاستقبل الإطار المتربص ابتداء من سبتمرب الموالي، وقام بتعيينه مع المناضل رمضان بوشبوبة الذي كان يومئذ على رأس دائرة وهران، مع الإشراف مؤقتا على دائرة مستغانم كذلك. حرص بوشبوبة أول وهلة على تذكير زميله المتربص بقاعدة أولية: ألا ينسى أن نشاطه في تنظيم علني، ينبغي أن يتم في إطار السرية، لأن أصل الحركة وهو حزب الشعب الجزائري محظور رسميا، وما حركة الإنتصار سوى واجهة، لنشر برنامج الحزب على أوسع نطاق ممكن”. لا شك أن بوشبوبة لم يكن يعرف وهو يذكر بهذه القاعدة، أن محدثه من عناصر ” المنظمة الخاصة”، وأنه يدرك تماما أهمية السرية، في مواجهة مصالح أمن دولة عظمى كفرنسا. بعد شهر من التربص في ظل رئيس دائرة وهران، حضر بوالصوف اجتماع مجلس الولاية برئاسة محمد مروك الذي سأل بالمناسبة، أن أصبح جاهزا لتولي مسؤولية دائرة من دوائر الولاية، فاعتذر، مبديا رغبته في تمديد فترة التكوين الميداني شهرا ثانيا. ويمكن تفسير هذا الموقف، بأن هذا المناضل الطليعي كان يقدر، أن استحقاق المنصب أولى من المنصب من ذاته. خلال فترة التربص، شارك بوالصوف في شرح مذكرة الحزب، المنددة بإقحام الجزائر، في منظومة الحلف الأطلسي وكأنها جزء من فرنسا، وفي حملة التنديد بلائحة المجلس الوطني المتعلقة برفع الحصانة عن النائب محدم خيضر، بناء على تهمة المشاركة في عملية بريد وهران قبل نحو عام ونصف. وكانت الفترة كذلك فرصة ثمينة للإتصال، بعدد من قسمات وهرانومستغانم، بما في ذلك قسمة غليزان التي كان على رأسها يومئذ المناضل الكبير عميروش أيت حمودة. في بداية نوفمبر 1950، عين بوالصوف - المدعو سي عبد الله في تلك الفترة - على رأس دائرة سيدي بلعباس التي كانت تضم 6 قسمات وهي فضلا عن قسمة مقر الدائرة: عين تموشنت، حمام بوحجر، الراحل، العمر ية، بني صاف، وبهذه الصفة حضر اجتماع 2 ديسمبر لمجس الولاية، وينقل بوشبوبة في هذا الصدد حادثة، تؤكد - مرة أخرى - مدى حرص العضو السابق في المنظمة الخاصة على سرية هويته، فقد تشاجر لهذا السبب مع مسؤول دائرة تلمسان الذي كان بالمصادفة من ميلة مثله، وعلى سابق معرفة به، وهو المناضل فخر الدين بن الشيخ الحسين، لقد بلغه أن بعض المناضلين بوهران اكتشفوا حقيقة هويته، فذهب به الظن إلى هذا الأخير، على أساس أنه الوحيد الذي يعرفه. ولم يكتف بالصوف بهذا الخصام، بل رفع تقريرا الى الإدارة المركزية بالمعني، لأنه أخل في تقديره بمبادئ العمل السري. أخذت إدارة الحزب بتقرير رئيس دائرة سيدي بالعباس، وما لبثت أن عزلت فعلا رئيس دائرة تلمسان. بعد تجربة أولى في غرب البلاد، نقل بالصوف إلى دائرة سكيكدة التي كانت احدى قلاع حزب الشعب الجزائري. ومن مواقفه هناك تنظيم مظاهر احتجاج في 24 أكتوبر 1952، ردا على اعتقال مسؤولين لحركة الإنتصار بكل من سكيكدة والقل، بسبب توزيع صحيفة ” الجزائر الحرة” لسان الحركة. كانت المظاهر احتجاجا على تعسف مصالح الأمن، لأنها الصحيفة تابعة لحركة شرعية، لها ممثلوها في الهيئات المنتتخبة محليا، من البلدية إلى المجلس الجزائري مرورا بالمجالس العمالية... وأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين، مما أدى إلى سقوط المناضل سعد جاب الله قتيلا، ونشوب سليلة من الإضطرابات بسكيكدة، وعدد من مدن الدائرة. وحسب محمد حربي - الذي أفادنا بهذه المعلومات في مذكراته، أن بوالصوف أرشده في تلك الفترة، إ لى قراءة مرجعين مهمين للمناضل المسؤول هما: ”ما العمل؟” للنين، و”عصر المنظمين” لجيمس بورنام.. ”على الثورة أن تصنع سلاحها” عادت الأمور إلى مجراها العادي بدائرة سكيكدة، بعد مظاهرات 24 أكتوبر 1952، والإضطرابات الناجمة عنها. غير أن إدارة الحزب، مالبثت أن نقلت عبد الحفيظ بوالصوف إلى أقصى الغرب هذه المرة: مسؤولا على دائرة تلمسان. واصل هناك مهمته النظامية في الظاهر، مع التزام السرية دائما ... اتخذ رئيس الدائرة اسما حركيا جديدا : سي الحيب.. وكان كثير التنقل والتنكر أيضا، حرصا على الإستمرارفي الإضطلاع بمسؤوليته، خلال مرحلة يدرك بحسه الثوري، ودقة تحليله السياسي، بأنها مرحلة دقيقة مفتوحة على مختلف الإحتمالات. مثلا بناحية بني سنو س كان يتنكر في زي طالب مسافر، يرابط من حين لآخر بمسجد الخميس، رفقة مسؤولين محيين أصبح لهم شأن في ثورةالتحرير لاحقا، أمثال الطاهر الهديلي الذي أصبح يعرف بالرائد فراج. وصادف في تلك الفترة وجود بن مهيدي وبيطاط بدائرتي وهران ثم سيدي بالعباس، فكان كثير الإجتماع بهما في حمام بوحجر خاصة. وغداة عودة محمد بوضياف في ربيع 1954، وتأسيس ” اللجنة الثورية للوحدة والعمل” وجد بوالصوف نفسه - مرة أخرى- في إطاره الطبيعي، مثلما كان بالأمس،: ضمن طليعة ثورية، سبق أن انتدبت نفسها - في ”المنظمة الخاصة” - للتضحية القصوى، في سبيل تحرير الجزائر. بهذا الإستعداد حضر إجتماع ال 22 الشهر بالمدنية (العاصمة) في 25 جوان 1954، وهو الإجتماع الذي صدر عنه القرار الخطير : إعلان الثورة في أجل مسمى بالوسائل المتاحة... وعندما طرح موضوع السلاح أثناء النقاش، كان جواب بالصوف يعبر بوضوح عن عزمه وتصميمه :”على الثورة أن تصنع أسلحتها الخاصة!” وبإعتباره خبيرا في المتفجرات، شرع فورا في تطبيق هذا المبدأ، بتدريب المناضلين على صنع القنابل والألغام التقليدية... وعلى صعيد التحضير للثورة القادمة دائما، أشرف بوالصوف على تربص هام للإسعاف الميداني، في عيادة الدكتور محمد الصغير النقاش بوهران، بمشاركة نحو 40 نفرا، من مختلف مناطق غرب البلاد. ويخبرنا المناضل محمد لمقامي الذي شارك في هذا التربص، أنه اكتشف بالمناسبة الوجه الآخر لسي الحبيب، الطالب المسافر الذي يقيم بين الفينة والأخرى بمسجد الخميس ناحية بني سنوس: كان يرتدي الزي الأوروبي، ويتحدث الفرنسيةبطلاقة!.. طبقا كانت المنطقة الخامسة في ليلة فاتح نوفمبر 1954 أسوة بالمناطقة الأربعة الأخرى على موعد مع التاريخ .. لكن بدون مال ولا سلاح”، كما صارح قائدها محمد العربي بن مهيدي رفاقه بذلك عشية إعلان الثورة.. كان بوالصوف قبيل هذا الموعد التاريخي متمركزا مع مجموعته ناحية أولاد موسى .. ومنها حاولت المجموعة ليلة الفاتح مهاجمة منزل حارس غاب، في غابة الميزاب بين الخميس وسبدو.. ونظرا لقلة الأسلحة النارية لم تحقق المجموعة النجاح المنتظر، ولم تستفد من عامل المفاجأة بالمناسبة. ولنفس الأسباب اكتفت مجموعة قائد المنطقة بحرق مستودع للفلين، بغابة أحفير بين الخميس وتلمسان.