إبراهيم الشرڤي الذي يناهز اليوم 91 سنة أمده الله في عمره نموذج المناضل(*) الوطني الذي تدرج من مناضل بسيط في القاعدة سنة 1943 إلى مسؤول ولاية قسنطينة لحركة انتصار الحريات الديمقراطية بعد عشر سنوات، ليصبح إبان ثورة التحرير المباركة قبل وبعد مؤتمر الصومام المسؤول السياسي لمنطقة الجزائر المستقلة مع العمل مباشرة تحت إشراف لجنة التنسيق والتنفيذ. أي عبان وبن مهيدي وبن خدة بصفة خاصة، وقبل الإنتظام في هيكل حزب الشعب الجزائري السري، كان قد اطلع على دبياته منذ 1937 1938، ومر ابتداء من 1939 با لمدرسة الأولى للوطنية: الكشافة الإسلامية، فرع بسكرة الذي منح الجزائر المكافحة اثنين من رجالات فاتح نوفمبر 1954 هما بن مهيدي والطيب خراز. وبفضل هذا الرصيد النضالي الغني استطاع أن يصمد في وجه زبانية لاكوست وصلان من 24 فبراير 1957، تاريخ اعتقاله أثر خيانة وخديعة من مسؤول نقابي إلى 13 أبريل الموالي، تاريخ دخوله سجن سركاجي الذي اعتبره ”بوابة نجاة” قياسا بجحيم مقر المضليين بسكالا، ووكر التعذيب لعناصر اللفيف الأجنبي بدار ”سوزيني” منكودة السمعة... صمت تحت التعذيب بالماء القذر وتحت الجيجانة، وحتى تحت نهش الكلاب الألمانية المدربة.. ولم يجد معه لا ”مصل الحقيقة”، ولا ”فريتس فالدمير” من بقايا جلادي ”الڤستابو” النازية. سجين سطيف في 8 مايو 45 ولد ابراهيم الشرڤي بعين الخضراء (ولاية المسيلة) سنة 1922، وبعد سنة من ميلاده، ارتحلت عائلته إلى بسكرة، حيث نشأ وتعلم في مدرستها الأهلية التي غادرها في نهاية موسم 35 / 1936 ح ائزا على الشهادة الإبتدائية. وبدأت ميوله السياسية تبرز وتتبلور في سن المراهقة، من خلال متابعة النشاط السياسي بشرق البلاد، هذا النشاط الذي كان الدكتور محمد الصالح بن جلول أحد أبطاله يومئذ. وما لبث أن اكتشف أدبيات حزب العشب الجزائزي، بعد فترة قصيرة من تأسيسه (سنة 1937)، بفضل المناضل أرزقي آكلي الذي كان يشرح له مضامينها في نفس الوقت، وكان ذلك مدخلا حسنا لإلتحاقه بالحركة الكشفية في المدينة التي أعطت الجزائر الثائرة اثنين من رجالات فاتح نوفمبر 1954 العربي بن مهيدي والطيب خراز. استمر نشاطه في فوج الكشافة الإسلامية ببسكرة نحو أربعة سنوات، قبل أن ينخرط في حزب الشعب السري، على يد المناضل بدة غريب الذي كان على صلة بعبد الله فيلالي من مسؤولي الحركة في اتحادية قسنطينة. ويخبرنا الشاهد بالمناسبة، أن الوالي العام ”بيروتون” آنذاك رخص بعد نزول قوات الحلفاء بالجزائر (8نوفمبر 1942) للحزب الشيوعي الجزائري باستئناف نشاطه، لنه أبى ذلك على حزب الشعب الذي واصل نضاله في ظل السرية. عرف المناضل الجديد السجن في أول سنة من التحاقه بصفوف حزب الشعب، فقد اعتقل لفترة قصيرة في أواخر 1943، بتهمة تحريض الشباب الجزائري على رفض الخدمة الإجبارية في الجيش الفرنسي، فضلا عن إشاعة الأحاديث الإنهزامية في أوساط الشعب. وفي ربيع السنة الموالي كان الشرڤي من العناصر الوطنية التي ساهمت في تأسيس فرع حركة ”أحباب البيان والحرية، برئاسة الدكتور الشريف سعدان من قادة حركة فرحات عباس، وقد رشحت هذه العناصر بن مهيدي لتولي منصب أمين مساعد في قيادة الفرع.. وكان الدكتور سعدان يعطف عليه كثيرا، لما لمس فيه من جرأة وإخلاص للقضية الوطنية. وما لبث نشاطه النضالي أن أثار اهتمام مصالح الأمن التي تفطنت أنه مطالب بأداء الخدمة العسكرية الإجبارية، فسارعت الجهات المعنية باستدعائه لذلك.. وكان جوابه على ذلك الهروب بعض الوقت إلى الدارالبيضاء المغربية.. غير أن هذه المصالح ظلت تتربص به، فما أن عاد إلى بسكرة في ديسمبر 1944 حتى اعتقلته. حبس الهارب من الخدمة العسكرية أولا بسجن قسنطينة، ليعين بعد فترة في وحدة مرابطة بالقالة، وهناك تعرف على ملازم أول جزائري يدعى زفزاف من مدينة العلمة، شارك في الحملة على إيطاليا وعاد لتوه من جبهات القتال بفرنسا وأوروبا.. حاول كسبه إلى القضية الوطنية، لكن عناصر المكتب الثاني رصدت تحركاته المشبوهة، فاعتقل بالثكنة بعض الوقت قبل نقله إلى سطيف، ليسمع من وراء القضبان بالأحداث الأليمة التي هزت هذه المدينة، ومناطق عديدة من شرق البلاد خاصة. نفهم من ذلك، أن المناضل المجند قضى أكثر فترة تجنيده الإجباري معاقبا بين التسخير والسجن.. ومن سخرية الأقدار أن تسريحه في مارس 1946، تزامن مع اجراءات العفو العام على المعتقلين والمحتجزين، بسبب حوادث الثامن من مايو قبل نحو سنة!. المنظمة الخاصة ”صاعق تحرير المارد الثوري” استأنف ابراهيم الشرقي ناضله في صفوف حزب الشعب الجزائري، غداة تسريحه من الخدمة الإجبارية بالجيش الفرنسي في ربيع 1946، وقد توسم فيه خيرا المناضل الكبير ببسكرة محمد عصامي فرشحه ليكون مندوبا للحزب على رأس دائرة باتن. وكانت الدائرة الحزبية آنذاك مطابقة عمليا للدائرة الإدارية. ويخبرنا المسؤول الجديد أن المؤتمر الأول لحزب الشعب بالجزائر المنعقد في منتصف فبراير 1947 أقر هيكلة جديدة، تتلف عن سابقتها، بعد تقسيم البلاد إلى عشر ولايات. وفي اجتماع المجلس الوطني للحركة خلال سبتمبر من نفس السنة تمت المصادقة على شعارين يلخصان جوهر المطالب الوطنية يومئذ: أولا: لا لأي نظام ممنوح! الكلمة للشعب!”، وذلك ردا على مصادقة البرلمان الفرنسية على القانون الخاص بالجزائر في 20 من نفس الشهر ثانيا: من أجل مجلس تأسيسي جزائري سيد، منتخب بالإقتراع العام، ردا على اختيار ”المجلس الجزائري” الوارد في القانون الخاص.. خاض المناضل الشرڤي بدائرة باتنة حملتين انتخابيتين: الإنتخابات البلدية في أكتوبر 1947، وقد حققت فيها حركة ”انتصار الحريات الديمقراطية” الواجهة الشرعية لحزب الشعب مفاجأة أذهلت إدارة الإحتلال التي اكتشفت أن الحركة الوطنية الإستقلالية أصبحت تشكل القوة السياسية الأولى في المجتمع الجزائري، بعيدا عن حركتي فرحات عباس و ”الإداريين السابحين في فلك الإحتلال الفرنسي. انتخابات أول مجلس جزائري في أبريل 1948، وقد حفظت إدارة الإحتلال الدرس من سابقة أكتوبر الماضي فجاءت بوالِ عام جديد هو أدمون نيجلان ليحيكها حسب رغباتها، باللجوء إلى التزوير على نطاق واسع. رشحت حركة الإنتصار في دائرة باتنة الأسماء التالية: مصطفى بن بولعيد، عمر محبوب، أحمد ميلود، محمد بن خلف الله، بومدين خليفة.. لم يفلت من شبكات التزوير أي من هؤلاء المترشحين الذين رضوا من الغنيمة بالأيات” لم يعتقلوا كما حدث في بعض المناطق.. علما أن الإعتقال طال حتى المنتخبين منهم! على غرار بوعلام باقي ومبارك الجيلاني..إلخ. بعد باتنة، عين لفترة قصيرة مندوبا بالحركة الإنتصار بدائرة قسنطينة ثم بدائرة سكيكدة. وكان هنا وهناك ينشط في ظل السرية، لأنه كان مطاردا من مصالح الأمن بتهمة ”التشويش على النظام العام”. وفي سكيكدة تم تحويله من حركة الإنتصار الواجهة الشرعية لحزب الشعب إلى ”المنظمة الخاصة التنظيم شبه العسكري لنفس الحزب. فقد اتفق على ذلك محمد (البشير) دخلي مسؤول ولاية قسنطينة، مع محمد بوضياف مسؤول المنظمة الخاصة على مستوى شرق البلاد الذي عينه على رأس منطقة سكيكدة للمنظمة. كانت المنطقة يومئذ تضم ناحيتين: ناحية سكيكدة (من عزابة شرقا إلى القل غربا)، وكان على رأسهم عيسى بوكرمة. ناحية عنابة (تشمل قالمة وسوق أهراس)، بقيادة حسين بن زعيم. وحسب الشاهد أن شرق البلاد كان يضم ثلاث مناطق أخرى للتنزيم شبه العسكري وهي: 1 منطقة قسنطينة (تشمل وادي الزناتي وتبسة)، وكان على رأسها مراد ديدوش 2 منطقة سطيف (وتغطي جيجل وبجاية)، وكان على رأسها صالح (عليان؟) 3 منطقة الجنوب (وتغطي باتنةوبسكرة والوادي)، بقيادة عبد القادر العمودي بقي المناضل الشرڤي على رأس المنظمة الخاصة بمنطقة سكيكدة من خريف 1948 إلى أواخر 1949، ليعين أثرها على رأس منطقة وهران، نائبا لعبد الرحمان بن سعيد مسؤول المنظمة الخاصة بغرب البلاد الذي كان يشتمل على منطقتين: منطقة وهران التي تغطي شمال العمالة حتى تيارت وسعيدة جنوبا، ومنطقة الجنوب التي كان على رأسها مناضل من بني ونيف يدعى سي الطيب(؟). وبوهران عاش عملية الإعلام عن اكتشاف المنظمة الخاصة التي لم تمتد لحسن الحظ إلى خلايا الغزوات وجنوب الولاية، كما أدى صمود المناضل مخاطرية مسؤول المنظمة بمدينة وهران تحت التعذيب، إلى نجاح العديد من المناضلين الآخرين. قررت قيادة حركة الإنتصار عقب هذا الإكتشاف ”تجميدا”(1) المنظمة الخاصة التي يقدم الشاهد تعريف جيدا للدور التي كان منتضرا منها: دور صاعق يحدث انفجار أوليا، يؤدي إلى تحرير المسار الثوري ”. انقلاب على مزغنة في رحبة الصوف عاد ابراهيم الشرقي إلى تنظيم حركة الإنتصار بعد ”تجنيد” المنظمة الخاصة، عاد إليه في صائفة 1950 من بوابة مندوبية دائرة البلدية، ليلتحق في السنة الموالية بدائرة بسكرة، قبل العودة إلى البليدة نائبا لرئيس الولاية الهاشمي حمود سنة 1952، ويخبرنا بالمناسبة، أن الحركة الوطنية كانت مهيمنة بصفة خاصة على محور البليدة الصومعة. وفي فبراير 1953 أصبح بدوره مسؤول ولاية، إذا عين على رأس ولاية قسنطينة، خلفا للمناضل محمد عبد العزيز. وبهذه الصفة استطاع أن يتابع أطوار أزمة حزب الشعب حركة الإنتصار، ابتداء من المؤتمر الثاني للحركة في أبريل من نفس السنة، فقد لاحظ مثلا، أن رمضان بن عبد المالك (من مجلس ال 22 لاحقا) كان يتحدث أمام المؤتمر، عن الناجين من المنظمة الخاصة كتيار قائم بذته. وفي الصائفة الموالية بدأت أصداؤها تتسرب في شكل همسات، كان من الصعب تقدير مدى صحتها وخطورتها. وظهر الخلاف بوضوح في اجتماع اللجنة المركزية في سبتمبر 1953، حين نقل مولاي مرباح رغبة الحاج مصالي في استعادة زمام القيادة ”لتصحيح مسار الحركة” ملخصا هذه الرغبة في سحب ثقته من الأمين العام بن يوسف بن خدة الذي كان رشحه لهذا المنصب في يوليو الماضي والمطالبة بمنحه كامل السلطات بناء على ذلك. هذه الرغبة قوبلت برفض أغلبية أعضاء اللجنة، علما أن أنصار العيم كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، في مقدمتهم الثلاثي: مزغنة مرباح فيلالي، واجتمعت اللجنة ثانية في يناير 1954، فتقدم أنصار مصالي بنفس المطالب التي قوبلت بنفس الرفض.. في فبراير الموالي خرجت أزمة القيادة إلى القاعدة العريضة، بعد أن أسس أنصار مصالي ”لجنة انقاذ الحزب” التي بادرت بشن حملة واسعة للتنديد بالأمانة العامنة لحركة الإنتصار، ودعوة المناضلين إلى وقف الإشتراكات على مستوى القسمات. ما لبثت هذه الحملة طبعا أن داهمت ولاية قسطنية التي كان على رأسها إبراهيم الشرقي الذي اعتبر منذ البداية من أنصر الأمانة العامة للحركة.. فقد بادر أنصار مصالي، وفي مقدمتهم إبراهيم عواطي باحتلال مقر الحزب في رحبة الصوف، لكن رئيس الولاية استطاع بفضل علاقته الطيبة بهذا الأخير أن يحتفظ بمكتبه على الأقل.. في انتظار المواجهة الحاسمة، خلال الإجتماع القادم لمندوبي قسمات شرق البلاد. دعت إلى هذا الإجتماع ”المندوبية المؤقتة (2).. لتسيير شؤون الحزب” التش كلها أنصار مصالي عقب الإطاحة المؤقتة بالأمانة العامة، وعقد الإجتماع في أواخر أبريل (على الأرجح) بمقر الحزب، وحضره عن المندوبية المؤقتة كل من مزغنة ومرباح، وكان موضوعه باختصار.. ”ترسيم ولاء مناضلي شرق البلاد لمصالي، وإعطاء إشارة الإنطلاق لتطهير أنصار الأمانة العامة من هياكل الحركة”.جاء ممثلا المندوبية المؤقتة واثقين تماما من النجاح في المهمة.. لكن الشرڤي تمكن من نسف هذه الثقة، بالتعاون مع أمين قسمة سكيدة مسعود ڤدورج، فقد سرب إلى هذا الأخير، أن يقترح على مندوبي القسمات الإحتكام إلى القاعدة، بعد انسحاب ممثلي طرفي الخلاف من مصاليين ومركزيين! صفقت القاعدة لهذا الإقتراح، بالنظر إلى مظهره الديمقراطي، وأدى ذلك إلى جنوح الإجتماع، من الولاء التام لمصالي إلى نوع من الحياد المؤقت، وفي انتظار انعقاد مؤتمر وطني فاصل. (يتبع) (*) صدر أخيرا عن منشورات دحلب، بالتعاون مع وزارة الثقافة، بعنوان في قلب معركة الجزائر (1) حل المنظم، في رواية إطاراتها السابقة بداءا بمحمد بوضياف (2) قيادة خماسية من: مزغنة، مرباح، فيلالي، العبدلي عيسى، أرزقي لعجالي.