إن عجلة الأيام تدور بسرعة مذهلة، وتسير بخطى حثيثة، لا تكل ولا تمل، ولا تتوقف لحظة واحدة، إنها دليل على سرعة فناء العمر وذهابه، فالأيام والليالي تتوالى، والشهور والأعوام تتعاقب وتتوارى، وتمضي سريعة سريعة. إنها شاهد على الإنسان فيما يقدمه فيها من الأعمال، والعاقل من استغل أوقاته في الطاعة، في التلاوة، في صلة الرحم، في الصدقة، في إعانة الملهوف، في نصرة المظلوم، في الكلمة الطيبة، لأن مغادرته لهذه الحياة أمر حتمي لا شك فيه، وستحين تلك اللحظة عاجلا أم آجلا. ها هو شهر رمضان الذي كنا قد استقبلناه قبل أيام، وفرحنا بمقدمه، يوشك أن يودعنا، شاهدا لنا أو علينا، فمن قدَّم فيه صالحا، ووفَّق لعمل الخير فليحمد الله تعالى وليشكره على ذلك، وليسأله المزيد والثبات، والتوفيق للأعمال الصالحات، والختام بالخاتمة الحسنة، والموت، على ما يرضي الله تعالى. ومن فرط في أيامه ولياليه، وسوَّف وأجّل، ووسوس له الشيطان، وملأ قلبه بالغفلة واللهو، فليعد إلى خالقه، وليتب إلى مولاه وسيده، وليستغفر الله تعالى، فإن الله تعالى غفور رحيم، يفرح بتوبة عبده ويقبلها إذا كانت بنية صادقة، وعزم على الاستمرار على الطاعة، وندم على التفريط والإضاعة، وليغتنم ما بقي من أيام هذا الشهر، عسى أن يكون فيه من العتقاء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ”ويغفر لهم في آخر ليلة، قالوا: يا رسول الله، أَهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا قضى عمله”. رواه أحمد. شهر الصيام مضى واجتاز وانصرما.. واختص بالفوز بالجنات من خدما وأصبح الغافل المسكين منكسرا.. مثلي، فيا ويحه يا عُظْمَ ما حرما من فاته الزرع في وقت البذار فما.. تراه يحصد إلا الحزن والندما وإذا كنا نودّع رمضان فإن المؤمن لن يودّع الطاعة والعبادة، بل سيوثِّق العهد مع ربه، ويقوي الصلة مع خالقه ليبقى نبع الخير متدفقاً، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِي وَمَحْيَاىي وَمَمَاتِي للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام 162، 163]. لا قيمة لطاعة تؤَدَّى دون أن يكون لها أثر من تقوى أو خشية، أين أثر رمضان بعد انقضائه إذا هُجر القرآن، وتُركت الصلاة مع الجماعة، وانتُهكت المحرمات؟! أين أثر الطاعة إذا أُكل الربا، وأُخذ أموال الناس بالباطل؟!.. إنَّ اللهُ لا يريد من سائر عباداتنا الحركات والجهد والمشقة، بل طلب سبحانه ما وراء ذلك من التقوى والخشية له، قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، وقال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج 37]. لقد غرس رمضان في نفوسنا خيراً عظيماً، صقل القلوب، أيقظ الضمائر، طهّر النفوس، ومن استفاد من رمضان فإن حاله بعد رمضان خير له من حاله قبله، ومن علامات قبول الحسنة الحسنة بعدها، ومن علامات بطلان العمل وردّه العودة إلى المعاصي بعد الطاعات. عباد الله، للصائم فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، فرحة في الدنيا العاجلة، وفرحة في الآخرة الباقية، لمن داوم على العبادة والطاعة، حيث ينال المتعة الكبرى والنعمة العظمى، ألا وهي الجنة، التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر،يقول الله تعالى لهم: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة 24]، هاهي الأمة تودّع رمضان، لكنها لم تودِّع مآسيها الدامية وآلامها المبرحة، وهي تمر اليوم بمحن عظيمة، وجراح عميقة، ترى جراحها في القدس وفي مواقع أخرى ملتهبة، والواجب على المسلمين نصرة قضايا أمتهم، والتحلي بالصبر وضبط النفس، والإخلاص في الدعاء، والاستعانة بالله أمام العواصف العاتية حتى تنقشع الغمة وينكشف الكرب، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر17].