ينبغي أن تعلم –أخي القارئ- أن سيدنا رسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر من الاستعاذة بالله من الفتن وكان يُحَذِّرُ منها في كل مناسبة وكان من دعائه في نهاية كل صلاة ((اللهم إني أعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال))، وقد روي عنه عن طريق أنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها))، وها نحن نرى كيف أن نيران الفتن تنقدح اليوم في جنبات الأرض ، حتى إن هذه الفتن أصبحت الرصيد الأوحد للأخبار الإذاعية التي تتلقاها الآذان أو تتلقاها الأبصار. هذه حقيقة ينبغي أولاً أن تتبينها ثم ينبغي أن تعلم أن هذه الفتن لا تأتي مصادفة وإنما هي نتيجة خطط يرسمها العدو المشترك بين يدي استلاب الحقوق والقضاء على الأوطان واستلاب الثروات المتنوعة على اختلافها والقضاء على بقايا الحضارة الإنسانية المثلى التي تتملكها أمتنا، فهي خطط مرسومة وليست مصادفة جاءت بها رياح العشوائية، ومثال ذلك ما حدث ببغداد و فلسطين التي ما اغتصبت وما أصبحت نهبة بين يدي رعاع الدنيا إلا بعد أن تمت إليها مقدمة من هذه الفتن التي تم النفخ المستمر المتواصل في أوارها حتى إذا تحققت الخطة وتحولت المودة السارية ما بين الأشقاء إلى وقيعة وتحول التعاون الذي كان سارياً ما بين الفئات إلى تدابر وبغضاء استطاع من ثَمَّ العدو المشترك أن يجعلها فريسة وأن توزع فلسطين بين يدي رعاع الدنيا. ها هي ذي المحاولة ذاتُها تستمر صباح مساء وها هو ذا الغراب الأسود يتردد ما بين عدة دول إسلامية مرة تلو المرة من أجل أن ينفخ في نيران البغضاء و من أجل أن يعمد إلى كل تعددية، تعددية متعاونة، تعددية بناءة ليحولها إلى تعددية مخربة، إلى تعددية تتحول إلى بركان فتنة، كتحويل تعددية المذاهب وتعددية الفرق و تعددية الاتجاهات السياسية المختلفة إلى أداة لهدم الأوطان الإسلامية . وإذا تَبَيَّنَت لك هذه الخطط فما هو الدواء لكي لا نقع في براثن الفتن؟ إن هذه الفتن ليست حديثة العهد بل هي موجودة منذ أن وجد العدوان فوق هذه الأرض و منذ أن وجدت قوى الشر، ولقد ألَّفَ الإسلام بين قبيلتين طالما كانتا متحاربتين هما الأوس والخزرج، تحولتا إلى مثال للود والتعاون والوحدة ولكن اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهراني المسلمين تجمعهم حياة مشتركة ويجمعهم السلم المشترك الذي كانت ترعاه عين الإسلام ضاقوا ذرعاً بهذا فأقبل رجل اسمه شاس بن قيس يحاول أن يؤلب الأوس على الخزرج ، فنسي هؤلاء الأخوة التي تربطهم، فاهتاجت لدقائق معدودة عوامل البغضاء فيما بينهم ولكن كتاب الله عز وجل سرعان ما صهر هذا الشعور فيهم، وأعادهم إلى هذه النعمة التي أغدقها الله عز وجل عليهم فأقبلوا يتعانقون وأقبل الواحد منهم يعتذر لأخيه ونزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:100-101] إلى أن قال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: من الآية103]، ما أشبه الليلة بالبارحة و ما الفرق بين ذلك الرعيل الأول وبيننا نحن؟ فالوسائل التي كانت تستعمل بالأمس للإيقاع ولإثارة براكين الفتنة هي ذاتها التي تستثار اليوم، فلماذا استطاع أولئك أن يتساموا فوقها ولماذا عجزنا نحن عن ذلك؟ إن الذي ينجي هذه الأمة من الفتن ومن ثم ينجيها من الدمار والهلاك إنما هو الرجوع إلى وصايا كتاب الله عز وجل، يقول لنا كتاب الله عز وجل إن هنالك ثلاث دوائر كل دائرة تقي من فيها من الفتن أياً كانت، الدائرة الأولى دائرة الأمة الإسلامية، على المسلمين مهما اختلفت مذاهبهم و مهما تعددت فرقهم أن يجتمعوا تحت مظلة هذا الإسلام وأن يذيبوا فوارق ما بينهم وإذا بالفتنة ابتعدت عنهم، الدائرة التي تليها والتي هي أوسع منها هي دائرة الأديان المتعددة التي تلتقي وتنتهي عند جذع من الدين الواحد، في هذه الحالة على هؤلاء أن يجعلوا من هذا الجذع الجامع وقاية لهم ضد كل فرقة، والدائرة الثالثة وقد نبه إليها بيان الله عز وجل هي الدائرة الإنسانية، فإن كان في الأمة من لا ينتمي إلى إسلام ولا إلى دين ولا شيءٍ آخر وهو يعيش بين ظهراني هذه الأمة فلتعلم أنه ينتمي إلى دائرة واسعة جداً هي الإنسانية التي قدس الله سبحانه وتعالى حقوقها أيما تقديس ونبهنا بيان الله عز وجل إلى ضرورة رعايتها عندما عبَّر عنها بالأسرة الإنسانية: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].