نقف اليوم مع مذكرات (*) رائد آخر، من رواد المسرح الجزائري هو المؤلف والمنتج والمخرج والممثل الموهوب علي سلالي المشهور بكناية علالو. ونكتشف من هذه المذكرات أن صاحبها ساير الخطوات الأولى لميلاد مسرحنا مطلع العشرينات من القرن الماضي، مع رائدين لا نعرف عنهما إلا النزر اليسير وهما الطاهر علي الشريف ومحمد المنصالي.. وكان علالو متقدما بشوط عن رواد آخرين، كان لهم خط أوفر من الشهرة أمثال رشيد القسنطيني ومحي الدين باشتارزي .. فقد كان سباقا بالتأليف -منذ 1924- وأكثر من ذلك سباقا إلى اقتحام قلعة “أوبرا” الجزائر التي كانت يومئذ من “الكولون“ وإليهم دون سواهم! أسس علالو فرقة “زاهية” التي يدل إسمها عن ميل صاحبها إلى المرح والترفيه .. غير أن عمر هذه الفرقة الواعدة كان مضطربا قصيرا.. فقد اضطر قائدها الموهوب إلى وقف مشواره الفني فجأة وهو في قمة العطاء بسبب شركة تراموي العاصمة التي كان يشتغل بها: فقد خيرته بين منصبه وهوايته، ففضل المنصب - كمورد رزق منتظم لعائلته المتنامية (1) - لأن المسرح آنذاك كان ما يزال في طوره الأول، ولا يمكن أن يضمن لهواته عيشة هنيئة. موهبة ... ثقفها التكوين المناسب ولد الفنان المسرحي علي سلالي - الذي اشتهر بكناية علالو - بالباب الجديد، من أعالي قصبة الجز ائر في 2 مارس 1902. ودرس المرحلة الإبتدائية في مدرسة “ صاروي” بنفس الحي، وتركها لظروف عائلية بعد الظفر بالشهادة الإبتدائية. فقد علي والده في سن السابعة، ما جعله يبكر في الإعتماد على النفس، بالعمل أولا بائع كتب، ثم مساعدا في مخبر صيدلية، قبل أن يستقر في شركة تراموي العاصمة ابتداءا من 1920. وكانت هذه السنة سنة السعد على صعيد الأسرة، لأن علي تزوج خلالها إرضاءا لوالدته حسب قوله. اكتشف علي المسرح في السنة الخامسة الإبتدائية، حين اصطحبه مدير المدرسة - رفقة عدد من التلاميذ النجباء - الى دار“الأوبرا” (مسرح الجزائر) لمشاهدة مسرحية “سيرانو دوبر جوراك” التي قامت بعرضها فرقة “سان مرتان” خلال جولة لها عبر الجزائر، وفي السنة التالية أعاد المدير الكرة، فاصطحبه لمشاهدة إحدى مسرحيات موليار الشهيرة : “طبيب رغم أنفه“.... هذا الإكتشاف المبكر للمسرح أثار فضوله طبعا، لكن حفز أكثر استعداده الفطري .. فأخذ يكون نفسه التكوين المناسب، ويصقل موهبته شيئا فشيئا... فقد تعلم اللغة العربية بفضل معلمه في مدرسة “صاروي” عمر قندوز الذي كان يرى، أن تلقين هذه اللغة ساعة في الأسبوع فقط غير كافية، فكان لذلك يحرص على إعطاء علي وبعض رفاقه -تطوعا- دروسا إضافية.... وبفضل هذا المعلم انفتح أمامه باب الآداب العربية، ونافذة الشعر العربي على نحو خاص.. وأصبح يتردد على نادي الترقي بعد ذلك، ويجالس بعض شيوخه، وفي مقدمتهم الطيب العقبي... وتعلم مبادئ الموسيقى الأندلسية والطرب عامة على يد الأستاذ أدمون (يافال) الذي كان يقدم دروسا خاصة بمنزله، لعدد من مريدي هذه الموسيقى. ويخبرنا علالو في هذا الصدد، بأن أستاذه هذا من أسرة يهودية، نزحت إلى الجزائر بعد سقوط غرناطة (1492م)، وأنه متخصص في المدرستين الغرناطية والقرطبية..وأنه كان معجبا بالأستاذ محمد علي سفنجة -المتوفى عام 1908- لأنه بفضله وتلامذته، استطاع أن يبعث تراث هاتين المدرستين الذي يعود إلى القرنين 8 و9 للهجرة. والأستاذ يافال هو مؤسس جمعية “المطربية” لتعليم ونشر هذا التراث بالذات. تأثرت هذه الجمعية بكارثة الحرب العالمية الأولى، لذا لم يبق منها غداة الحرب غير الإسم، حسب شهادة علالو دائما... لكن الأستاذ يافال بعثها ثانية ابتداء من 1921 بمساعدة تلامذته، وتولى رئاستها مع تعيين محي الدين باشتارزي نائبا له.. وكان الشاهد قد تعرف على هذا الأخير، خلال الدروس التي كان الأستاذ يقدمها في منزله.. أصبحت المطربية تنظم حفلات دورية، بمشاركة كبار المطربين والمطربات لذلك العهد، وكانت أكثر العروض تقام بقاعة سينما “تريانون” في باب الواد.. وكانت هذه الحفلات خلال شهر رمضان بمعدل حفلتين أسبوعيا. في إطار فعاليات هذه الجمعية، بدأت تتفتح مواهب علالو ورفاقه، وتجد الفضاء الملائم للتعبير عن نفسها .. كان علالو في هذا الفضاء المشجع يقدم فواصل ترفيهية، في قالب أغاني فكاهية، تتندر بوحدة الطلائع الجزائرية (في الجيش الفرنسي)، أو عروض هزلية من فصل واحد، يشاركه فيها ممثلات ومنتجان موهوبان أيضا، هما إبراهيم دحمون وعبد العزيز لكحل.. ولقيت هذه العروض نجاحا كبيرا، للصور الواقعية والطريقة الهزلية في تقديمها. إعداد محمد عباس
في بداية المسرح الحديث في مطلع العشرينات من القرن الماضي ظهرت المحاولات المسرحية الأولى من إنتاج وتمثيل عناصر جزائرية، وكانت في الطليعة فرقتان: 1 - “المهذبة” وهي جمعية للأدب والمسرح، منشطها الطاهر علي الشريف الذي يقول عنه علالو أنه كان “مؤلفا وممثلا ممتازا” كانت هذه الفرقة تعتمد على قدماء ثانوية العاصمة، وتقدم فعاليتها بقاعة “الكورسال” بباب الواد، ومن إنتاجها: “الشفاء بعد العناء”، وقدمت أواخر نوفمبر 1921. - “خديعة الغرام” (1922) - “بديع” (1924) 2 - “جمعية التمثيل العربي” التي ظهرت عام 1922 بقيادة محمد المنصالي الذي يقول عنه الشاهد: “أنه درس فترة طويلة بالمشرق العربي”.. ومن مؤ لفاتها المسرحية: “في سبيل الوطن” التي تم عرضها أول مرة في 1922/2/29. - “فتح الأندلس” (في 1925/6/25) .. ومن ممثليها الشباب مواهب تألقت لاحقا في أجواء المسرح والطرب أمثال: باشتارزي، دحمون، لكحل، علال العرفاوي...
وحسب الشاهد أن تلك البدايات لم تكن مشجعة، لأن المسرح لم يخلق جمهوره بعد؛ ما جعل كلا من علي الشريف والمنصالي يتركان الحلبة متأسفين .. هذه المحاولات الجزائرية الأولى، كانت تلقت دعما هاما من تونس ومصر. - من تونس جاء الممثل كشكش باي، وتلته حبيبة مسيكة - ومن مصر جاء جورج أبيض سنة 1921 على رأس فرقة كاملة، قدمت بقاعة “الكورسال” عرضين: ثارات العرب وصلاح الدين الأيوبي... وفي سنة 1924 جاءت فرقة ثانية من مصر بقيادة عز الدين، قدمت أواخر أبريل عرضين: - بوليوس قيصر بقاعة “الكورسال”، - رميو وجولييت بقاعة “ الكازينو” (شارع بن مهيدي) وحسب الشاهد، أن إقبال الجمهور على عروض الفرقتين المصريتين، لم يكن بأحسن من حظ علي الشريف والمنصالي... لكن في مطلع الثلاثينات تزايد الإقبال بشكل ملحوظ، وقد استفادت من ذلك فرقة فاطمة رشدي (المصرية) التي لقيت تجاوبا كبيرا... جعل علالو يعتبر هذه الفنانة “سارة برنار العرب” في تلك الأجواء المخاضية لميلاد المسرح الجزائري، سكنت نزعة المبادرة المستقلة ثلاثة من الرواد: علالو، باشتارزي، لكحل ... هذه النزعة استغلها مغامر تونسي يدعى وَزْوَزْ، كان على سابق علاقة من أيام الزيتونة مع الشيخ الطيب مصطفى بن حفيظ. كان الشيخ على صلة بهذا الثلاثي الواعد، فقدمه إلى وزوز، بهدف المساعدة على شق طريق المسرح الجزائري المستقل .. لكن هذا الثلاثي الموهوب مالبث أن اكتشف، أنه أمام محتال مدع، بلا زاد فني ولا إمكانيات مادية... ولحسن الحظ أن هذا المحتال لم يقتل فيهم ثقتهم في مواهبهم وحماسهم في التعبير عنها، مهما كانت المقالب والمصاعب. في هذا السياق وبنوع من التحدي للذات، بادر علالو سنة 1924 بتأليف مسرحية جحا، وتقديمها لجمعية المطربية لترتيب تسويقها وعرضها، وكانت بداية موفقة، لا سيما أن العرض الأول كان خلال شهر رمضان وتم بقاعة “الكورسال” في 1926/4/12، وتلا ذلك ثلاثة عروض أخرى، أمام قاعات غاصة بالجمهور. من طرائف ذلك العهد، أن علالو وجد صعوبة في العثور على ممثلة لأداء دور “حيلة” زوجة جحا، فاسنده إلى رفيقه إبراهيم دحمون الذي كان عليه أن يضحي من أجل ذلك، بشاربه الأشقر الذي اتخذه علامة مميزة لشخصيته! بن شنب... يكتب عن جحا ارتأينا أن نقف قليل عند مسرحية جحا، باعتبارها أول عمل طويل معبر عن روح الفترة، وعن تصور صاحبه للمسرح والترفيه بطبعه، ويوضف هذا الميل في الأهداف التربوية، متجنبا ما أمكن الخوض في شؤون السياسة وتبعاتها. وقد حظيت هذه المسرحية بإقبال الجمهور في حينها، وباهتمام الصحافيين والنقاد لاحقا.. من هؤلاء النقاد الأستاذ الأديب محمد بن شنب التي تناولها سنة 1935 في دراسته حول “المسرح العربي لمدينة الجزائر” جاء فيها: أن المسرحية هي أول عمل بالعربية الدارجة، تتكون من فصلين، وهي من تأليف علالو ودحمون.. وقد وجد المؤلفان الوسيلة الملائمة لجلب اهتمام الجمهور، بتناول موضوعات مألوفة لديه، ومخاطبته باللغة التي يتكلمها في حياته اليومية. ولمس الأستاذ الناقد في المسرحية بوادر “مدرسة جديدة للفن الدرامي، ومؤشر بانبعاث المسرح الجزائري الذي أخذت شهرته تتسع بدون توقف”.. وذهب إلى أن هناك “خيطا رفيعا من الشبه، يوحي باستلهام موضوع المسرحية من “المريض الواهم”، و”طبيب رغم أنفه” لموليار، مشيرا في نفس الوقت إلى غرابة فكرة المسرحية وتفردها.. ويرد المؤلف على هذه الملاحظات، بأنه استوحى فكرة جحا من حكاية قمر الزمان، من قصص ألف ليلة، وكذلك من حكاية “القن” وهي من حكايات القرون الوسطى بأوروبا.. وكان علالو إلى جانب التأليف مخرجا ناجحا، يشهد بذلك “صديقه القديم” باشتارزي الذي يقول في هذا الصدد “كان الإخراج سغله الشاغل، فله الفضل على هذا الصعيد في تجاوز الحالة البدائية، وإعطاء المشهد ككل ما يستحق من الإهتمام”. (يتبع)
(*) صدرت عن الجاحضية سنة 200، ترجمة الدكتور أحمد منور (1) انجب علالو (10) أطفال، يعتز بأنه استطاع أن يوصلهم إلى برا الأمان جميعا.