نقف مع الفنان الكبري محي الدين باشتارزي، عند بعض جوانب تاريخ الجزائر الفني والثقافي، خلال الحقبة الأخيرة من الإحتلال الفرنسي، والعقدين الأولين من عمر الإستقلال... ونقف معه خاصة (*) عند الخطوات الأولى للمسرح الجزائري، إبتداءا من مطلع عشرينات القرن الماضي.. فضلا عن الأفلام الجزائرية الأولى على غرار “كنزي” و”معزوفة ألى مريم” الذي كتب حواره الشيخ أحمد توفيق المدني .. ولم تكن هذه البدايات سهلة، في أجواء كانت مصالح المراقبة الأمينة الفنية خلالها تحسب على الفنانين مجرد إيحاءاتهم، فما بالك تصريحاتهم ومواقفهم.. ورغم مرونة باشتارزي وشطارته وذكائه الإجتماعي، فلم ينج من ملاحقة هذه المصالح التي منعت سنة 1937 إحدى أغانيه، فضلا عن منع فرقته المسرحية من القيام بجولات داخل البلاد.. لكن الفنان أظهر في غضون الحرب العالمية الثانية كثيرا من الحماس والإلتزام، ناهيك أنه غنى للمارشال بيتان، كما غنى للجنرال دوغول بعده، ووظف مواهبه الفنية ضد الدعاية النازية التي كانت تنفثها إذاعة برلين العربية بواسطة المذيع العراقي الشهير يونس بحري ...
“إلتزام” مع فرنسا المقاومة.. ولد محي الدين باشتارزي بقصبة الجزائر في 15 ديسمبر 1897، ويعني ذلك أنه من جيل شخصيات وطنية بارزة مثل الحاج مصالي وفرحات عباس، وإن كان يكبر الأول بسنة والثاني بثلاث، ويفهم من مذكراته أنه واصل دراسته حتى المرحلة الجامعية، وأنه واكب الحركة الطلابية وهي في بداية نشأتها التي ما لبثت أن تجسدت في جمعية الطلبة المسلمين لأفريقيا الشمالية. ويخبرنا في هذا الصدد، أنه ضمن هذا المحيط الطلابي قدم باقة ورد إلى المطرب الفرنسي الشهير موريس شوفاليي سنة 1922. غير أن مواهبه الفنية ما فتئت أن جنحت به إلى عالم الثقافة الترفيهية، فراح يعبر عنها طربا وتمثيلا وانتاجا مسرحيا، فكان بذلك من الرعيل الأول في هذا المضمار، إلى جانب رواد آخرين أمثال رشيد القسنطيني وعلالو وجلول باش جراح... كان هذا الرعيل من الشباب الهاوي، فباشتارزي كان يومئذ بائعا في دكان والده، والقسنطيني مولعا بالنجارة الفنية، وعلالو عامل في صيدلية .... وقد اختار في ميدان الطرب الأغاني الأندلسية والمنوعات، وبرز في كلتيهما خلال النصف الأول من ثلاثينات القرن الماضي خاصة، وفي سنة 1937 منعت إدارة الإحتلال إحدى أغانيه، لما لمست فيها من إيحاءات وطنية؛ وكانت يومئذ في منتهى الحرص على خنق كل نفس من هذا القبيل. وكانت ذات السنة صعبة أيضا على صعيد التمثيل و المسرح الأمر الذي إضطره إلى الهجرة في أواخرها؛ بعد حادثين مؤسفين: - إعلان إفلاس فرقة “المطربية” التي كان يديرها منذ سنوات. - حضر جولات الفرقة المسرحية بقرار من الوالي العام “لوبو” في 1937/11/2. كانت الهجرة إلى فرنسا تجربة غنية، ولأنه وجد هناك عددا من كبار الفنانين، اضطرهم القمع الإستعماري إلى الهجرة مثله، وكان في طليعة هؤلاء القسنطيني وايقربوشن ومحمد الكمال وغيرهم .. في صائفة 1939 عاد باشتارزي إلى الجزائر لأخذ قسط من الراحة بين ذويه، فوجد فرقة “المطربية” قد استأنفت نشاطها، فشاركها بعض فعاليتها ... لكن بمجرد اندلاع الحرب بين فرنسا وألمانيا في سبتمبر من نفس السنة، عاد إلى الجزائر نهائيا، فوجد الأجواء عكس ما كان يتوقع: أجواء مواتية تماما لاستئناف نشاطه على مختلف الأصعدة: طربا وتمثيلا وحصصا إذاعية مسرحية وترفيهية، بل دعائية مناوئة للنازية والفاشية! وكانت البداية بالإذاعة في 2 نوفمبر الموالي، بتقديم مسرحية هزلية بعنوان “الحاج قاسي في الجبهة” ..لقيت رواجا كبيرا لتلاؤمها مع الظرف القائم. وتم عرضها عقب ذلك في قاعة “الكازينو” (شارع بن مهيدي). وأصبح إلى جانب ذلك، يشارك في إحياء حفلات موسيقية بالإذاعة مرتين في الأسبوع... وانبرى القسم العربي في إذاعة الجزائر للرد على حملات إذاعة برلين العربية، فكان باشتارزي من فرسانها .. كان يعد حصصا فكاهية فضلا عن تعليق أسبوعي، يتصدى فيه للمعلق العراقي الشهري بإذاعة برلين يونس بحري ... وكان من مشاركيه في هذا الباب أسماء لامعة، مثل مفدي زكريا والشيخ توفيق المدني اللذين كان يستهدفان بصواعهما الفاشي موسيليني خاصة- بحكم سابق علاقتهما بتونس التي كانت عرضة لتهديدات القوات الألمانية الإيطالية. ساير بشتارزي هذه الموجة، حتى أنه ألف وأدى أغنية لتمجيد المارشال بيتان قائد فرنسا المهزومة آنذاك! وكان قد سبق أن فعل ذلك سنة 1936، تمجيدا لليون بلوم من زعماء الجبهة الشعبية بفرنسا. الترفيه على عساكر الحلفاء ظلت الجزائر العاصمة بعض الوقت بعيدة عن ساحات الحرب الدائرة رحاها على الجبهات الأوروبية، كما يدل على ذلك انتعاش الحركة الثقافية عبر نافذة المسرح والطرب خاصة، فقد شهد الفصل الأول من عام 1940 مثلا تأليف ثلاث مسرحيات “موزنا“ (بالفصحى) لأحمد لكحل،”الشيب والعيب” لجلول باش جراح، “امرؤ القيس” للشيخ العاصمي. وفي هذا الجو المناسب، أسس باشتارزي شركة الجيلالية للحصص الدينية (الإذاعية)، بمساعدة المطرب الممثل عبد الرحمان عزيز وجمعية الشبيبة. غير أن سحب الحرب ما لبثت أن اقتربت من عاصمة البلاد التي فرض حظر التجول بها ابتداء من 28 مايو 1940، ومع بداية أوت من نفس السنة عينت حكومة فيشي - حديثة النشأة- الأميرال أبريال واليا عاما على الجزائر خلفا للوبو.. فسارع بتطبيق سياسة اضطهاد وقمع، وبدأت بمناضلي حزب الشعب الجزائري وقادته، لتشمل الشيوعيين واليهود كذلك، وقد انعكست هذه الأجواء الداكنة بعض الشيء على باشتارزي، ففضل حل فرقة المطربية في انتظار آغاد أفضل. ومع ذلك واصل باشتارزي التزامه مع السلطات القائمة، فقام ورفاقه بجولة مسرحية بمساعدة جيش الإحتلال الذي اشترط قليلا من الدعاية للمارشال بيتان، تتمثل في استغلال الحفلات لعرض صورته للبيع بالمزاد على الطريقة الأمريكية. وفي غضون ذلك انتج مسرحيتين: - الهبال اقتباسا من مسرحية زواج بوبقرة لرشيد القسنطيني، - المشحاح اقتباسا من مسرحية البخيل لموليار. هذا الإلتزام مع ممثلي حكومة فيشي لم يكن له أي أثر على موقع الشاهد ونشاطه، غداة نزول الحلفاء بالجزائر ليلة 8 نوفمبر 1942، بل تحسنت حاله أكثر، بالمشاركة في الترفيه على رواد عروضه المسرحية والغنائية من عساكر الحلفاء. وأكثر من ذلك أن الجنرال جيرو نفسه - الرجل القوي الجديد - كان يتردد على مكتب باشتارزي، لتجاذب أطراف الحديث في الشأن السياسي، بحضور الشاعر السياسي مفدي زكريا أحيانا. وعندما “أسس” المكتب الإفريقي لحقوق المؤلف “في 3 مارس 1943، عين عضوا فيها، ممثلا لرفاقه الفنانين المؤلفين على مستوى إفريقيا الشمالية قاطبة... غير أن نزول الحلفاء جعل من الجزائر عمليا عاصمة “العالم الحر” الذي اتخذ منهام نطلقا، لهجومه المضاد على فرنسا “الفيشية” وإيطاليا الفاشية في نفس الوقت، وكان عليها أن تذوق لذلك ويلات الحرب، باستهداف سواحلها خاصة من قبل الطيران الألماني الإيطالي.. وفي هذا الإطار تعرضت العاصمة في 17 فبراير 1943 لغارة جوية، دمرت عددا من مباني القصبة وبلكور... أصبحت الجزائر كذلك عاصمة للمقاومة الفرنسية، بقيادة الجنرال دوغول الذي نصب بها حكومته المؤقتة في 30 مايو من نفس السنة .. وفي مطلع فبراير من السنة الموالية، أشرف الجنرال على حفل فني بالمسرح، فكان باشتارزي من منشطيه في شقه الغنائي. ويخبرنا الشاهد، أن محمد الكمال وايقربوشن نشطا موسيقيا مع الألمان بباريس، فكان ذلك سببا بعد تحريرها لمضايقات من “القوات الفرنسية بالداخل”، لكنهما استطاعا الدفاع عن نفسيهما باستعمال ذريعة الإكراه. وشهدت نفس الفترة عرض أول فيلم مصري بالعاصمة، وهو فيلم “رابحة” بفضل مبادرة الشقيقين الموزعين محمود وأحمد المنصالي... وفي 1944/8/4 تلقى باشتارزي نبأ مؤلما: وفاة صديقه ورفيق دربه رشيد القسنطيني الذي دفن بالقطار. وبمبادرة من زملاء الفن، أقيم للراحل نصب تذكاري متواضع، تم تدشينه في 8 من سبتمبر الموالي. ويعتبر الشاهد صديقه “مؤسسة المسرح الجزائري”... في ضيافة القلاوي باشا مراكش غداة الحر ب العالمية الثانية انفتحت آفاق جديدة أمام باشتارزي الممثل خاصة على الصعيدين المسرحي والسينمائي، فكان لذلك كثير التردد على باريس. ففي منتصف فبراير 1946 شارك في عرض مسرحية في “سبيل التاج” الشهيرة بقاعة “التعاضدية”، لفائدة الخدمات الإجتماعية لجمعية الطلبة المسلمين المغاربة بفرنسا. وتم على هامش العرض بيع لوحتين بالمزاد، الأولى للأمير عبد القادر والثانية لباي تونس المحبوب المنصف المنفي بفرنسا آنذاك. مثل الشاهد عقب ذلك في فيلمين : “معزوفة إلى مريم” الذي كتب حواره الشيخ توفيق المدني، وتم تصوريه بفاس، ما جعله، ورفاقه يحتكون بأعيان هذه المحاضرة العريقة، أمثال باشا المدينة بن فطيمة وعاذلات الفاسي والغزاوي وبن جلون... “كنزي” وتم تصويره بمراكش في قصر الباشاغا القلاوي الشهير .. ويذكر الشاهد بالمناسبة أن ابن الباشاغا البكر محمد كان قريبا من الحركة الوطنية، مخالفا في ذلك والده المتورط مع إدارة الحماية الفرنسية حتى الذقن. وأثناء مروره بباريس ذات مرة جمعته الصدفة في أحد المطاعم بضابط عراقي يدعى أنور، كان صديقا ليونس بحري المذيع الشهير بإذاعة برلين العربية..فلما عرف الضابط أنه من الجزائر سأله: لماذا لا تطالبون بإستقلالكم؟ فكان جوابه: ليس لدينا إطارات لذلك، رد الضابط العراقي: يمكن أن نمدكم بالإطارات إن أردتم، وهل لأثيوبيا من الإطارات أكثر منكم؟! وكان رد باشتارزي على الحاج العقيد أنور لا يخلو من غرابة، إذ قال :” إن سجن مستعمرينا أفضل من استقلال الأثيوبيين في ظل حكم النجاشي”! مثل هذه الواقعية ضيقة الأفق، تكشف أن صاحبنا كان بعيدا عن الحركة الوطنية، وتطلعات شعبه التي كانت اتخذت غداة الحرب منحى تصاعديا باتجاه الإستقلال... وتتجلى غرابة موقفه أكثر، على ضوء نبوءة علي ماسح الأحذية بباريس الذي أكد له في 16 فبراير 1947 أن فرنسا ستخرج من الجزائر سنة 1961 أو 1963 على أبعد تقدير! هذه “الواقعية” التي كانت تتجسد في سلوك “العربي اللاهث وراء الخبزة” في جزائر الإحتلال، جعلته موضع تندر من الكاتب جان كوكتو الذي اتخذه نموذجا على هذا السلوك في روايته “البون الشاسع” (لوقران ايكار) ! كان كوكتو وهو يعد لكتابة الرواية، يبحث عن شخصية مناسبة “لواقعية الإنسان المستعمر”، فدله صديقه آلبير فايس على باشتارزي. استطرف الكاتب الإسم، فذكره في روايته دون سابق معرفة...كان الشاهد كما سبقت الإشارة، على علاقة صداقة بالشاعر الكبير مفدي زكريا .. ونجد في مذكراته أحد مفاتيح انسحابه سياسيا غداة الحرب العالمية الثانية، بعد أن كان إلى جانب الحاج مصالي، في قيادة حزب الشعب الجزائري عشية الحرب، يذكر الشاهد في هذا الصدد، أن الشاعر اعتقل مطلع 1947، وتعرض إلى عملية ابتزاز ساخرة، الإفراج عنه مقابل تعهد، بترك ساحة النشاط السياسي في الجزائر. (يتبع)
(*) اعتمدنا أساسا على الجزء الثاني ( 1984) والثالث (1986) ، اصدار المؤسسة الوطنية للكتاب (أنال).