أسس المسرحي علي سلالي (علالو) فرقة “زاهية” شراكة مع رفيق دربه إبراهيم دحمون عقب النجاح الذي لقيه إنتاجهما الأول مسرحية جحا. مرت هذه الفرقة الرائدة خلال حياتها القصيرة بثلاثة أطوار، إذا كانت تنهض إثر كل نكسة سواءا بسبب حوادث طبيعية أو خلافات بين منشطيها إلى أن تلقت الضربة القاضية على يد شركة “ترامواي الجزائر” التي خيرت علالو العامل بها بين منصبه ومسرحية فاتخار آسفا “المنصب” لأن المسرح بدايته لم يكن يوفر لقمة عيش مستقرة هنيئة لرواده. ونكتشف بالمناسبة، أن الفنان الشهير رشيد القسنطيني خطا خطواته الأولى في هذا المضمار مع “زاهية”، قبل أن يطلق بجناحيه في فرقة “الهلال الجزائري”، ثم فرقته الثانية بالإشتراك مع الممثلة المصرية ماري سوسان.. وتطوع علالو في هذا الصدد، بتقديم نبذة عن هذا الفنان القدير، إلى أن توفي في 3 يوليو 1944.. ونعرف كذلك من خلال مذكرات علالو، أن فرقته كانت أول من كسر احتكار المستوطنين الفرنسيين لقاعة “أوبرا” العاصمة، باقتحامها بمسرحية “أبو الحسن” في 23 مارس 1927. ولا يبخل علينا هذا الفنان الأصيل في الختام ببعض آرائه في “الصديق القديم” باشتارزي والشيخ توفيق المدني وحتى بريخت المسرحي الألماني الكبير.. “زاهية”.. في ثلاثة فصول لقي مسرحية جحا نجاحا مشجعا، جلع علالو يتقدم خطوة أخرى بتأسيس فرقة مسرحية باسم “زاهية”، للمشاركة في إضفاء قليل من البهجة على الحياة بالعاصمة تمثيلا وطربا. عرفت هذه الفرقة في حياتها القصيرة (5 سنوات) ثلاثة أطوار: الطور الأول: وقد شهد انتاج مسرحيتين: الأول: “زواج بوعقلين التي تم عرضها بقاعة كورسال” في باب الوادي يوم 26 أكتوبر 1926. وفي هذا المسرحية ظهر الفنان الهزلي القدير رشيد القسنطيني أول مرة على خشبة المسرح في دور “مقيدش” الذي دشن من خلاله حياة فنية زاخرة. الثانية: “أبو الحسن أو النائم اليقظ”، وهي مسرحية هزلية أيضا مقتبسة من حكايات “ألف ليلة وليلة”.. وكانت هذه المسرحية فرصة لفرقة زاهية، كي تقدمها على ركح “أوبرا” الجزائر، وذلك لأول مرة في تاريخ المسرح العربي، كان هذا الحدث في 23 مارس 1927، بفضل وساطة جزائري عضو في لجنة الحفلات بالعاصمة. ويعلق علالو على ذلك قائلا “كنت أول منتج جزائري يحصل على هذا الإمتياز” مفسرا رغبته في اقتحام هذا “المعبد الأوروبي” بتوفر قاعة “الأوبرا” على وسائل الإخراج والحيل المسرحية. ومن طرائف ذلك العهد، أن معلق صحيفة “لاديباش ألجريان” كتب تقريره عن هذه المسرحية اعتمادا على حركات الممثلين فقط، لأنه لم يكن يفهم الدراجة لغة المسرحية.. هذه الإنطلاقة الأولى توقفت فجأة، لأن علالو رزىء في زوجته التي تركت له ثلاثة أطفال صغار.. وكان هذا التوقف وراء استقلال اثنين من أبرز ممثلي زاهية وهما رشيد القسنطيني وجلول باش جراح.. الطور الثاني: عادت فرقة “زاهية” إلى النشاط ثانية، بفضل الثنائي علالو دحمون، عادت بمسرحية هزلية غنائية بعنوان “الصياد والعفريت، وهي مستوحاة كذلك من ألف ليلة وليلة”.. وقد تألق فيها هذا الثنائي مرة أخرى، فضلا عن تألق بلبل الغناء الأندلسي آنذاك محي الدين باشتارزي في دور خير الدين. هذا التألق في الأداء، رافقه نجاح محدود من الناحية المادية، لأن المسرحية عرضت مرة واحدة.. وأكثر من ذلك أن السيد “فوا” الذي تكتري منه “زاهية” ألبسة العرض ضاعف أسعاره بشكل مفرط اضطر علالو ورفيقه دحمون إلى الإحتكام للعدالة.. هذه المشاكل المالية القضائية أدت إلى توقف زاهية ثانية، بعد افتراق علالو وشريكه دحمون الذي أبى حسب قوله أن يقاسمه الأتعاب المالية المترتبة عليها.. الطور الثالث: بعث علالو “زاهية” هذه المرة بمفرده، اعتمادا على مواهب شابة، يذكر منها من العنصر النسوي ليلى وفريدة، ومن الشباب عبد الحميد بن ديمراد، علي منصوري، محمد دندان.. قامت الفرقة بإعادة عرض المسرحيات السابقة: حجا، زواج بوعقلين، أبو الحسن، قبل أن تضيف إليها انتاجها الجديد: عنتر كشايشي وهي كوميديا ملحمية بطلها علالو تم عرضها يوم 25/ 2/ 1930 الخليفة والصياد، وهي أوبرات هزلية تم عرضها بقاعة الأوبرا في 6 /1931/4 حلاق غرناطة، وتم عرضها في 5 مايو الموالي.. هذه الإنطلاقة الثالثة ل “زاهية” كانت الأخيرة لأنها ما لبثت أن تحطمت بعاملين: مرض علالو الذي أقعده نحو شهر، وتلا ذلك ابتزاز شركة “ترامواي” التي تشغله: لقد خيرته باختصار بين منصبه و”زاهية” فاختار المنصب طلبا للإستقرار، لأن المسرح آنذاك لم يكن يوفر بعد لمحترفيه حدا معقولا من الحياة الكريمة.. ثم أن علالو نفسه لم يكن يفكر في اتخاذه موردا أساسيا لرزقه وعائلته المتزايدة. بل كان هواية قبل كل شيء. بقي علالو طبعا مهتما بهوايته تلك، لا يخفي إعجابه برفاقه الذين تجشموا امتهان المسرح ومقالبه.. لاسيما اثنين منهم: رشيد القسنطيني لطيبته وروحه المرحة. محي الدين باشتارزي لحيويته وصموده، فقد كان حسب قوله: “داعية فعلا للمسرح الجزائري”.. “مضحك ... أتعب نفسه فيما يبكي”! تناول علالو في مذكراته سيرة الرائد المسرحي رشيد القسنطيني، تناول الصديق العارف الذي عاشره نحو عقدين من الزمن، وساعده في خطواته الأولى على خشبة المسرح والطلاب... وقد أدى نجاح القسنطيني وتألقه في هذا المضمار ببعض المعجبين، إلى إضفاء طابع الأسطورة على حياته المضطربة. لكن علالو الصديق يفضل إعادة الأمور إلى حجمها الطبيعي، بعيدا على التسامي المثالي المفرط. فرشيد من مواليد القصبة، التي درس بها المرحلة الإبتدائية في المدرسة الفرنسية، مع حفظ قليل من القرآن الكريم في الكتاب. وكان مستواه بالفرنسية يسمح له بمطالعة الجرائد، مثل “ليكودالجي” (صدى الجزائر)، و”لابراس ليبر” (الصحافة الحرة). بدأ حياته المهنية في نجارة الآثاث، بورشة رجل فرنسي وسط عمال فرنسيين... لكن في بداية الحرب العالمية الأولى أحيل على البطالة، عقب إعلان التعبئة العامة وكساد حرفته... كان يومئذ حديث عهد بالزواج، أبا لرضيع ذي بضعة أشهر... فاضطر بسبب الحاجة إلى التردد على ميناء العاصمة، بحثا عن أي عمل يعيل به أسرته ...وذات يوم تم تشغيله فحاما على ظهر إحدى البواخر التجارية... ولسوء حظه أن الباخرة تعرضت لطوربيد ألماني، فأغرقها ... في عرض البحر المتوسط.. وصادف أن كانت بارجة بريطانية مضادة للغواصات بالقرب من مكان الحادث، فأنقذت ما أمكن من الناجين لتنزلهم بجزيرة مالطة، وكان رشيد من بينهم. عقب ذلك نقل هؤلاء إلى مرسيليا، فاشتغل رشيد بمصانع الناحية طيلة فترة الحرب، لأنه لم يكن مؤهلا جسديا للتجنيد، وغداة الحرب عاد إلى الجزائر ليفاجأ بزواج زوجته في غيابه الطويل، ظنا بأنه يكون توفي في حادث الباخرة آنف الذكر... أمام هذه الصدمة هاجر من جديد، وعمل هذه المرة بباريس في محلات “لافيات” الشهيرة، ضمن ورشة صيانة الأثاث، وبفضل هذا العمل عرف بعض الإستقرار، فتزوج من فرنسية تدعى “مارڤو”.. وفي سنة 1924 نزل رفقتها بالجزائر، لقضاء أيام بين ذويه وأصدقائه، فاستطابت الإقامة بها ... وبناءا على ذلك قرر الزوجان الإستقرار في العاصمة.. وفي السنة الموالية تعرف صدفة على علالو بمحل صديق مشترك، وكان رشيد يومئذ يعمل في ورشة للأثاث المنزلي بباب الواد. وفي ربيع 1926، غداة نجاح مسرحية جحا، التقى علالو ثانية رشيد بنفس المحل، وكان بصدد كتابة مسرحيته الثانية “زواج بوعقلين” .. فبدا لأحد الحضور أن يقترح عليه الإستفادة من مواهب رشيد قائلا في امتداحه: “أنه مضحك عفويا، وستجد فيه ضالتك بكل تأكيد”... عمل علالو برأي هذا الصديق المشترك، فعرض عليه أن يكون عضوا في فرقة “زاهية”. وأثناء توزيع أدوار مسرحيته الجديدة، اختار له دور مقيدش خادم بوعقلين، وكان أكثر الأدوار مثارا للضحك... وعشية تقديم العرض الأول بقاعة الكورسال مساء 26 أكتوبر من نفس السنة، عبر رشيد عن تخوفه من مواجهة الجمهور أول مرة وبدا له أن يعدل عن مشروع التمثيل تماما... وبعد جهد جهيد تراجع وقبل المشاركة.. لكن أثناء خرجته الأولى حدث ما كان يتوقع: ارتبك أشد الإرتباك، ووقف مذهولا لا يدري ما يقول.. وهنا تدخل علالو لإنقاذ الموقف، بارتجال مزحة تجاوب معها رشيد لحسن الحظ، مثيرا بذلك موجة من الضحك وسط الجمهور. وهكذا مرت اللقطة دون إثارة انتباه أحد، فكانت انطلاقة رشيد الأولى... ما لبث رشيد أن حاول التحليق بجناحيه. فقد أسس رفقة جاره وصديقه جلول باش جراح فرقة “الهلال الجزائري” والتي قدمت أول عرض لها بعنوان “العهد الوفي” من تأليف رشيد ... لكن هذه البداية لم تلق النجاح المنتظر، فتأثر المنتج ماديا ومعنويا.. لا سيما أنه استدان في سبيل اخراج مسرحيته، ما جعله يبيع جزءا من أثاث بيته لتسديد ديونه... كاد رشيد أن يترك مغامرة المسرح عقب هذه الخيبة الأولى، لولا تشجيع أصدقائه وفي مقدمتهم علالو الذي ساعده على استعادة الثقة بالنفس قائلا: “أنت موهوب في تسلية الجمهور، فلا تتعب نفسك في البحث عما يبكيه!”. وفعلا ما لبث رشيد أن تجاوز عثرته الأولى بسلام، ليتألق في سماء الفن مسرحا وطربا، نجاحا في التعبير عن موهبته المسلية إلى أبعد الحدود... وفي سنة 1929 أسست فرقة جديدة مع ماري سوسان، وهي مطربة وممثلة من يهود قسنطينة.. وكانت فرقة ناجحة، استمرت في العطاء المتميز حتى سنة 1936.... ومن نجاحاتها : “إبن عمي، ساكن اسطنبول” و”لونجة الأندلسية”، “ثقب في الأرض” ... في صائفة هذه السنة عاش رشيد لحظة شك أخرى في مواهبه، بسبب متاعب وخلافات مع كل من ماري سوسان وباشتارزي،... لكن بفضل أصدقائه دائما استطاع تجاوزها، ليواصل مشواره الفني حتى نهايته. وكانت نهاية رشيد في 3 يوليو 1944... ويقول علالو في هذا الصدد: علمت مطلع يوليو بمرض رشيد، وكان يقيم بدار أخيه في سيدي بالنور... فذهبت لعيادته .. فلما رآني أغرورقت عيناه، وعبر لي عن سعادته لتمكينه من وداعي الوداع الأخير... فلما شعر بحزني لكلامه، حاول أن يخفف علي مازحا :”ربما تكون هناك.. فرقة للترفيه على الأموات”! وتم تشييع جنازته بمقبرة القطار في رعاية عائلته، وتعاطف جمهور الفنانين والمعجبين .. وكان المسرح الجزائري قد فقد قبيل ذلك اثنين آخرين من رواده هما محمد المنصالي وابراهيم دحمون آراء في بريخت وتوفيق المدني! غداة الحرب العالمية الثانية شملت موجة الإنفراج بالجزائر الفضاء المسرحي .. وساير هذه الموجة بالعاصمة رئيس البلدية الجنرال “توبار” الذي كان على قدر من اللبرالية الذكية... وقد شجعه على هذا النهج بعض المنتخبين المحليين أمثال أوزقان وسفنجة .... ومن منجزاته على هذا الصعيد فتح قاعة “الأوبرا” أمام المسرح الجزائري كل جمعة .. وتشكيل فرقة عربية تولى تنشيطها محي الدين باشتارزي كمدير متصرف. ويلخص لنا علالو في مذكراته حقيقة هذا السلوك الاستعماري، نقلا عن السيد غبريال أوديزيو الذي يقول في هذا الصدد: “من الحكمة وقد حرم الشعب من حقوقه، ألا يحرم مما يسليه”..! ضمن علالو مذكراته بعض الآراء والتوضيحات ارتأينا أن نقف عندها باختصار... فقد علق على الجزء الأول من مذكراته “الصديق القديم” محي الدين باشتارزي، مشيرا من طرف خفي إلى أنه “سحب البساط كثيرا لناحيته”! ويؤكد في هذا الصدد أن صاحب المذكرات كتب أحيانا “من الذاكرة والخيال .. وليس من مفكرة كما يزعم” .. ويستشهد على ذلك بحديثه عن مسرحية: “زواج بوعقلين” (لعلالو)، حيث أسند دورا لرشيد القسنطيني غير الدور الذي أداه فعلا ... ويرى علالو أن مسرح “اليوم يؤكد” نهاية المسرح الحقيقي”، لطغيان الإتجاه السياسي والمباشرة عليه في معظم الأحيان...! وبناء على ذلك لا يرى في مسرح بريخت - مثلا - سوى “نوع من الدعاية السياسية”! وعلى صعيد لغة “المسرح والمزج بين التمثيل والطرب، لا يخفي الشاهد انحيازه لمسرح زمانه إذ يقول: “أن استعمال الدارجة ساهم في اقبال الجمهور الذي كان يفضل كذلك المسرح الهزلي وما كان يرافقه من طرف ورقص!! ويبدو علالو قاسيا في حكمه على الشيخ أحمد توفيق المدني، فهو برأيه “يتقن توظيف اللغة، لكنه بعيد عن المسرح”... وكان الشيخ قد ساهم في كتابة عدد من المسرحيات منها “حنابعل”... لكن علالو يقر مع كل ذلك بأهمية التزام ودور المسرح الجزائري إبان معركة التحرير، وقد عبر عن ذلك بلسان ناقد مسرحي فرنسي قائلا: “لقد انتقل المسرح من كوميديا القرون الوسطى إلى المسرح الوطني، من عصا المهرج إلى سلاح المقاتل”.. (*) طالع الحلقة الأولى في “الفجر” عدد 2013/9/4