يبدو الدخول إلى القصبة مثل الدخول إلى مقبرة، أو مدينة مهجورة، الجدران المهددة بالانهيارلا توحي أن ثمة سكان ما يزالون بهذا المكان، لكن بمجرد أن تدق أبواب الحي العتيق من باب عزون حتى تهجم عليك رائحة الطبيخ وبعض صخب الأطفال من خلف جدران هذه البيوت المهددة بالزوال مما يعني أن ثمة حياة ما زالت تصنع هنا. هل هو الحب أم الحاجة ما يدفع هؤلاء السكان للتشبث بالقصبة ؟ سؤال يتبادر إلى ذهنك وأنت تدق الخطى على إسفلت الأزقة الملتوية والطرق الحجرية المتعرجة التي لا يحفظها غير أبناء القصبة، رائحة السردين تشد الأعصاب وبعض نظرات التحفظ تطارد صباحنا هنا فأبناء القصبة يتعرفون بسهولة لأي قادم جديد وأن لم يبقى منهم الكثير اليوم فأغلبهم هاجر قصرا أو اختيارا. هذه الأزقة كانت من قبل عامرة بالحياة، عشرات بل مئات الحرفيين والصناعيين الذين كانوا يصنعون تميز يوميات القصبة لم يبقى منهم اليوم أي أحد انقرضت الصناعات وغابت المحلات ومن بقي وفيا لحرفة الأجداد وجد نفسه مضطرا إلى الانحناء لغزو الصناعات الصينية التي ترمي عند أول استعمال، أو مقاومة الفناء التدريجي، لان حرفة اليد اليوم لم تعد لها أي قيمة، الناس لم تعد تبحث عن الجمال في الذوق بقدر ما يهمها أن الشيء الذي تشتريه رخيص يقول أحدهم. القصبة لم يبقى منها شيئا غير الأطلال بحيث يمكن بسهولة لأي زائر أن يلاحظ أكوم النفايات في كل مكان بقايا الأبنية والبيوت المهدمة حولت الحي إلى كومة أطلال. لاشيء يوحي أن هذا الحي مصنف في قائمة التراث العالمي غير لوحة وضعتها وزارة الثقافة في المدخل السفلي للمدينة، وحتى موظفي المتحف الوطني للفنون والتقاليد الشعبية لاعلاقة لهم على ما يبدوا بتراث القصبة وإلا ما معنى أن تخصص القصبة دار خداوج العمياء لتكون متحفا دون الإشارة إلى أي شيء يخصها. لا شيء في القصر يحيل إلى تاريخه وتاريخ صاحبته أو أصحابه. الموظف الواقف عند الباب ينتظر فقط أي زائر هنا ليمنحه تذكرة الدخول بمائتي دينار دون حتى أن يكلف نفسه عناء شرح ما هو موجود في القصر. في هذا الوقت الصباحي لم يكن من زوار للقصرغيري ومصور الجريدة وبعض موظفي الإدارة، رحت ابحث في أرجاء القصر عن أي شيئي يحيل إلى تاريخه وتاريخ القصبة من الذين عبروها من الباشاوات والقادة والقراصنة ورياس البحر لا شيء. ما يوجد في القصر بضع ألبسة وأواني وحلي قبائلية وشاوية وتارقية أما خداوج فربما ضاعت كما ضاع تراث القصبة. ”فيراو ولا ما زال” سؤال مثل صفعة عند مدخل المتحف كان الرجل الواقف عند الباب يسأل زميله، عند هذا الحد فهمت لماذا لا يمكن أن يكون هذا المتحف دليلا على الإرث العريق لخداوج العمياء. بعض المهن تمارس بالحب وليس بالجبر. زحنون وعمي الهاشمي 51 سنة في خدمة المعدن الأصفر عند مدخل المتحف يقع محل السيد زحنون، هذا الرجل الذي يدخل عقدة الخامس ما زال يحن إلى طفولته في القصبة عندما كان يعرف الأزقة ”زنقة زنقة” وحتى الأنفاق التي شيدها العثمانيون لتربط المدينة بالبحر في حالة الطوارئ يقول أنها ردمت. يقولها بكل حسرة وأسف. قبل أن يصبح هاوي لجمع القطع النادرة كان مثل جميع أبناء القصبة حرفي نحاس تعلم الحرفة عن والده الذي تعلمها بدوره عن جده وهكذا دواليك أما اليوم يقول: ”من الصعب أن تقنع الشباب بتعلم حرفة فهم يفضلون نصب طاولات السلع المستوردة في ساحة الشهداء وكسب خمس آلاف دينار في اليوم عوض تعلم حرفة” ناس الأمس كانوا فنانين يا ابنتي” هكذا قال لي عمي زحنون. محله متحف مفتوح أمام الزوار وهواة اكتشاف التراث، عندما دخلنا وجدنا فرنسي وجزائريين على ما يبدوا عليهما كانا مغتربين يفاوضا في شراء قطعة نادرة لكن المفاوضات فشلت في النهاية لان القطعة كانت فعلا نادرة وتتمثل في سينية نحاسية منقوشة بالفضة عليها أبيات من شعر المتنبي ”الخيل والليل والبيداء تعرفني” وعليها سنة صنعها 1680 واسم الباشا وختم الصانع أيضا. ومثلها كانت القطع الأخرى آنيات وأباريق وسينيات من العهد التركي والفارسي وتماثيل قادمة الهند والصين نقلها تجار السفن وقراصنة البحر عندما كانت الجزائر سيدة المتوسط. يقوم هذا العاشق للقصبة وتراثها بجمع القطع النادرة من التجار والناس الذين يبعونها بثمن بخص دون دراية ربما بقيمتها التاريخية هناك أباريق ومزهريات منقوش عليها أبيات شعر وآيات قرآنية وحكم بالفضة. يقول أن:” سواحا من فرنسا والامارت اقترحوا علي أن أبيع إحدى هذه القطع ب21 مليون سنتيم لكنني رفضت. إحدى هذه الروائع الموجودة بالمحل تتمثل في سينية نحاسية منقوش عليها النجمة السداسية وعليها رسم آدم وحواء وبعض الحيوانات ورموز يتطلب فكها دراية بتعاريج الخط العربي الأصيل” يقول أن هذه التحفة النادرة جاءته من تلمسان كانت قديما ملك لأحد التجار اليهود هناك، كانت تستعمل في فنون السحر وقراءة الغيب وهي تتحدث عن أسطورة لقاء آدم وحواء بعد أربعين سنة من البحث عن بعضهما البعض، يقول: ”لن أبيعها ولو بمال قارون إنها جزء من تراث الإنسانية في هذا البلد”. كل قطعة هنا تدعوا للتأمل في عبقرية المكان وزمان الذين صنعوها كانوا فنانين وكفى. قال عمي زحنون ونحن نغادر محله. في إحدى الدروب المؤدية إلى مجاهيل الحي العتيق يقع محله لفت انتباهي صوت آلة الخشب وهي تقطع الألواح. وجه هادئ يعمل ازميله في القطعة الموضوعة أمامه، يعالجها بصبر وتأني كمن يعامل تحفة نادرة، على جدران المحل البسيط صور للقصبة وأزيائها وبعض الشهادات التي حازها هي كل ملكه وفخره، امتهن النقش على الخشب منذ أن كان عمره 15 سنة كان يساعد والده الذي ترك له هذا المحل وصية قبل رحيله ”ابني رجاءا لا تتخلى عن النجارة” ذلك ما يجعله اليوم متشبثا بها وإلا ما جدوى صناعة لا تدر عليك حتى قوت يومك. ”لو كنت أبيع الكرنطيطا لكان وضعي ربما أحسن” يقول خالد محيوت. لديه بعض المشاريع التي تعاون فيها مع وزارة الثقافة في ترميم بعض قصور وبيوت القصبة أو ما يقدمه لأبناء الحي العتيق من الذين ما زالوا يعشقون الفن على قلتهم. لم يبقى في القصبة إلا حوالي 300 دار أغلبها مهددة بالانهيار أو التراث والتقاليد والصناعات فكلها صارت في خبر كان. وأنت تنزل من أعالي القصبة إلى ساحة الشهداء في الدرب الذي كان قديما يسمى زنقة النحاسيين يجذب انتباهك صوت المذياع يرسل نغمات صوت قروابي، تتوقف مجبرا أمام التحف الصفراء ويغريك منظر الشيخ القابع خلف أنيته فتدخل إليه. ما زال محل الهاشمي بن ميرة قائما هنا عمرا بأكمله قضاه هذا الرجل في نقش الأواني ومعالجة المعدن الأصفر، منذ 51 سنة بدأ مزاولة هذه الصناعة أي منذ عام 1958 ولم تتوقف مطرقته عن دق النحاس إلى يومنا هذا. لم يبقى اليوم من بين 15 حرفيا مشهورا في فن النحاس إلا اثنين في القصبة هو أحدهم. نحن اليوم نعاني إهمال الدولة لهذه الصناعة نحن نستورد كل شيئا لا المادة الأولية الصالحة لمثل هذه الصناعات، الضرائب تثقل كاهل الصناع الصغار وأجبرت أكثرهم على غلق المحلات وهجرت الصناعة. سألته عن الشيء الذي يجعله رغم ذلك متشبثا بهذه الصناعة فقال: ”إنني أحبها، لا يمكنني هجرة صناعة فتحت عينيا عليها، بالنسبة لي هي القصبة. كانت القصبة تعرف حسب الصناعات الموجودة بها زنقة الحرارين، وزنقة الصياغين وزنقة النحاسين وزنقة الخياطين وهكذا وكان قديما عندما يقول أحدهم ”راني رايح للدزاير” كان يعني حتما القصبة أما اليوم فلم يبقى منها غير الخراب”. صناعة الجلد قضى عليها الحذاء الصيني وسياسية الحاويات لا يمكن أن نتحدث اليوم عن ترميم القصبة إلا بعودة الحياة إلى يومياتها وهذا لن يكون إلا بعودة أصوات المطارق وآلات الخياطة وصراخ الباعة إلى هذه الدروب يقول بوزيد صاحب ورشة لصناعة الأحذية. وجدناه في محله رفقة أحد رفاقئه منهمكا في مداعبة آلة الخياطة وهو يعالج الإبرة فوق الجلد راح يتحدث عن مأساة انهيار وزوال الصناعات اليدوية من القصبة تحت تأثير السلع الصينية التي فتحت الباب على”الجوتابل”، والدولة لا تفعل أي شيء من أجل تشجيع والحفاظ على الصناعات التقليدية. فزيادة على الضرائب غير المبررة التي تثقل كاهل الصناع الصغار ودفعت أغلبهم إلى غلق محلاتهم، هناك مشكل غياب المادة الأولية وارتفاع أسعار السلع: ”نحن نشتري المادة الأولية من السوق السوداء فكيف تريد الدولة أن ندفع لها ضرائب خيالية ونحن ليس لنا عمل قار خاصة وأن الدنيا تغيرت ولم تعد مثل الأمس حيث الناس لم تعد تعتمد على الصناعات المحلية”. تشعب بنا الحديث مع بوزيد عن أوضاع البلد ومشاكل البسطاء وغباء السياسيين والقادة والمسيرين الذين لا يحسنون الإصغاء للبسطاء من أمثاله، كان بوزيد يعتذر لنا بنبل أبناء البلد الذين طحنتهم الظروف لأنه ربما وجد فقط من يصغي إليه. كان علي أن أشكره لأنه منحني من وقته ووثق فينا وفتح قلبه لنا وهو يشاهد مدينته تنهار لم يكن له غير الدعاء يرفعه في وجه السماء وهو يودعنا. صناع القصبة تحولوا إلى حمالين في ساحة الشهداء تريدين البحث عن ”صنايعية القصبة” اذهبي إلى ”المارشي” إنهم يشتغلون حمالين في ساحة الشهداء، هذا ما أراده المسؤولين إنهم يقتلون دون وعي ربما ما تبقى من الصناعات هنا ودفعوا أصحابها إلى هجرتها وغلق محلاتهم، أتساءل لماذا يمارس أصحاب الحاويات مهمة نهب البلد بحرية وراحة ويدفعون الضرائب بالدينار الرمزي بينما نحن من نشتغل بعرق الجبين يكسروننا. بهذه العبارات انفجر في وجهي محمد صاحب ورشة أحذية، لم يترك لي المجال للحديث ولا للتصوير اعتذرت منه لأنني ربما أزعجته واقتحمت محله دون سابق إنذار قلت هذا وخرجت لكنه لحق بي عند مخرج الحي وقال لي: ”اسمحيلي يا أختي الله غالب إنني اشتغل”أونوار” وأخاف المشاكل”. محمد يعمل خارج القانون لأنه مضطر أن يعيش وهو لا يتقن حرفة أخرى ”الدولة لا تريد أن تحل مشاكل الصناع الصغار، غياب المادة الأولية وارتفاع أسعارها في السوق السوداء مقابل هذا نحن نرى ”الحوت الكبير” يستولى على ثروات البلد إنهم لا يدفعون الضرائب تصوري إنني ذهبت يوما لأحد المكاتب من أجل مشكلة تتعلق بالضرائب فقال لي أحدهم ”ادهن السير اسير” من يومها قررت أن أعمل بهذه الطريقة إنني أجني قوت أبنائي في هذه الورشة لا ”أسرق ثروات البلد كما يفعلون هم” لكن لن أدفع ضرائب، هي فوق طاقتي إنني لا أجني أكثر من 250 دينار في اليوم وهناك أيام أعيش فيها بالسلفة لأن العمل يتوقف وليس هناك من يشتري سلعتك، وفوق هذا تأتيك فواتير ضرائب تصل في الثلاثي إلى 70 مليون كيف؟ لا أدري؟” لم أجد ما أقوله لهذا الرجل غير الاعتذار منه مرة أخرى لأنني ربما قلبت عليه المواجع وجعلته يخرج ما في صدره من قهر وغيض. اخبرني محمد بصوت يشبه الهمس: ”اسألي فقط لماذا هناك حومات بكاملها في القصبة مخصصة لصناع الأحذية لا يدفعون الضرائب هنا أيضا الجهوية لها تأثيرها، مهن بأكملها اختفت من هنا، الطرز الخياطة وصناعة الذهب والطرابيش والبرانس لم يعد لها وجود، صار كل شيء يأتي من الصين ويرمى عند أول استعمال. لكن مازال، برغم إهمال المسؤولين لهذا الحي العتيق، من يعشق القصبة ويتمسك بها رغم الظروف الصعبة لأن الحياة تكاد تكون شبه مستحيلة في بيوت ضيقة وأغلبها مهددة بالانهيار فيكفي أن تسمع صوت الحاج مريزق يصدح من مذياع أحدهم لتعرف أن روح القصبة يستحيل أن تموت حتى لو انهارت كل الجدران. ربورتاج: زهية منصر/ تصوير: ع.بن زواش