يحزن المرء كثير الحزن، بل لعل النفس العربية حزينة حتى الموت، بسبب هذا الذي يحدث في ديار الأمتين، وبالذات في دول كانت الآمال معقودة عليها فإذا بالذي يجري فيها يحوِّل الأحلام إلى كوابيس. ففي مصر التي انقسمت مِصريْن يتعامل أبناء الشعب الواحد مع بعضهم تعامل العدو مع عدو، ومن دون التبصر في ما آلت إليه أحوال هذا البلد الذي كان نموذجا للألفة فإذا هو نموذج للانتقام. وعندما نتأمل في الذي حدث يوم الأحد 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2013، وكيف سالت دماء كثيرة خلال احتفال، غير مسبوقة هذه الحماسة لإحيائه، بالذكرى الأربعين للانتصار المبهر الذي حققه الجيش المصري واكتمل بعبور القناة وإلحاق هزيمة نوعية بإسرائيل التي تحتل الضفة الشرقية من قناة السويس، فإن المرء يتساءل: ماذا لو أنه بدل هذا الفعل الهمجي الذي قام به إخوانيون ونتج عنه سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى، سجل الإخوان موقفا متعقلا واحتفلوا بالذكرى بكل هدوء وعدم استفزاز مصر الأخرى.. مصر المنتفضة عليهم التي كانت هي الأخرى تحتفل؟.. بل وماذا لو أن القيادة الإخوانية أصدرت قبل أسبوع من حلول الذكرى بيانا تتجاوز فيه الظروف الصعبة التي تعيشها الجماعة لجهة الملاحقة والاعتقال والمصادرة والإلغاء والتشهير الإعلامي وتدعو جمهورها إلى اعتبار الذكرى الأربعين لحرب 1973 يوما وطنيا لكل المصريين وإقامة الاحتفالات المهيبة والراقية بهذه المناسبة وعدم إلقاء الخطب الاستفزازية، وبذلك فإن مثل هذا التصرف يحقق أمرا لا بد منه وإن طال العناد وهو الانتقال المتدرج من أقصى العداوة إلى مشارف الاقتناع بأن التوافق هو الحل؟.. هذا فضلا عن أن الاحتفال الهادئ والمتعقل بذكرى انتصار تعتز به الأمة هو واجب وطني وليس مناسبة للمنازلات وعرض العضلات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن احتفالية الذكرى السنوية الأربعين لم تكن مثل سابقاتها، بمعنى أنها لم تكن لتمجيد زعامات، وإسقاطا لأدوار قيادات، وإنما هي من أجل مصر ذات الحالة غير المسبوقة، ونعني بها انصهار أكثرية الشعب المصري بمؤسسة الجيش. وبالتالي يجوز القول إن من لا ينتسب إلى هذه الحالة فإنما يصنف نفسه خوارجيا. فالاحتفالية لم تكن من أجل الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وبهدف تأمين شعبية له، وإنما هي لتكريم الجيش الذي هو للجميع والذي تتشكل ألويته ووحداته من أبناء كل أطياف الشعب المصري بمن في ذلك الإخوان. كما أن الاحتفالية هي لمسة عرفان بالجميل تجاه الرئيس السادات الذي أخذ قرار الحرب على عاتقه، لكنها ليست للرئيس السادات الذي اختزل النصر بإبرامه اتفاقية ”كامب ديفيد” بعد زيارة إلى القدس أفرحت الإسرائيليين والدول الحاضنة لهم بما في ذلك الاتحاد السوفياتي (زمنذاك روسيا لاحقا)، إلا أنها صدمت الأمة التي لم تهنأ بنشوة النصر. وعندما لا يأخذ الإخوان ذلك في الاعتبار ويحوّلون الذكرى إلى مناسبة لرفع منسوب التحدي واقتحام الجمع المبتهج بالمناسبة الوطنية متسببين نتيجة التدافع والتراشق وإطلاق الرصاص المتبادل في سقوط أفراد من أبناء الوطن الواحد الذي ما زال على انقسامه اثنين قتلى وجرحى، فهذا يترك انطباعا بأنهم إما غير مؤمنين بالنصر الذي حدث وبالتالي هم ضد اعتباره مناسبة وطنية، وإما أنهم يترصدون المناسبات التي يفتعلون فيها المشاكل تأكيدا لخطة الانقضاض من جانب الأقلية الحالمة بالثأر على الأكثرية المتطلعة إلى غد أفضل نتيجة الانصهار الذي أشرنا إليه بين مصر الشعب ومصر المؤسسة العسكرية. وبالنسبة إلى سوريا شريكة مصر في الذكرى الأربعين لحرب أكتوبر 1973 فإن المرء يشعر بتعاظم الحزن في نفسه عندما يرى أنه بدل أن يشارك شعب سوريا ونظامها ومعارضاتها أكثرية الشعب المصري وكامل المؤسسة العسكرية الفرح بالذكرى الأربعين لحرب أكتوبر 1973، فإن النظام ورموز المعارضات على حد سواء يواصلون المنازلة الهمجية. ولقد افترضنا أنه بعد الخطوة المتعقلة النوعية والمتمثلة في فتح نافذة في جدار العلاقات الإيرانية -الأميركية، والتي أقدم عليها الرئيس حسن روحاني، الذي أسس لمرحلة حوار قد يثمر مع إدارة الرئيس باراك أوباما، فإن النظام البشاري ورموز المعارضات سيغتنمون الفرصة ويخفف كل منهم من غلوائه بأمل الالتقاء على كلمة سواء، وبذلك تبدأ في سوريا مرحلة لملمة الجراح وإعادة البناء في ظل توافق يقود إلى وفاق. لكن كل ذلك لم يحصل مع الأسف، وواصل الجانبان، أو السوريتان (سوريا النظام وسوريا المنتفضين)، بشتى أطيافهما سفاسفهما من كلام أو فتاوى، غير متهيبين الأحوال التي غدت في ذروة الخطر. وكما تزايُد منسوب الحزن على الحال في مصر هنالك الأمر نفسه بالنسبة إلى سوريا مع إضافة بالغة الخطورة تتمثل في أن الحالة السورية لم تعد مقتصرة على المنازَلات وإنما هنالك تسميم سوريا الأرض وسوريا المناخ وسوريا صحة الناس، وهذا نتيجة إبادة أطنان الأسلحة الكيماوية في مواقعها المنتشرة في معظم المحافظات السورية. والإبادة بالتعبير المهذب هي التخلص منها تنفيذا للقرار الدولي المهين، أما بالتعبير الواقعي فإن الإبادة هي فِعْل تسميم للأرض السورية بحيث لا محاصيل طبيعية بعد الآن. والحديث حول الحالة السورية المفجعة، ماضيا قبل ثلاث سنوات وحاضرا، كان يمكن علاجه ولو في الحد الأدنى لو أن إيران بما هي عليه من حضور في هذه الحالة جدولت في شكل آخر أجندة التحول الذي قررت القيام به، بحيث لا يكتفي الرئيس حسن روحاني بإبداء النوايا الطيبة ككلام يرتاح له الناس. كما أن جدولة ”الأجندة الروحانية” كانت ستبعث الكثير من الطمأنينة وبما يجعل الحال أفضل خليجيا ومصريا وسوريا وعراقيا وفلسطينيا وسودانيا وتونسيا ولبنانيا، لو أن محاولة التطبيع العربي - الإيراني تقدمت على محاولة تصحيح مسار العلاقات الإيرانية – الأميركية، ونعني بذلك طمأنة دول الخليج وتصويب سلوك الأعماق الإيرانية في كل من سوريا ولبنان والعراق والبحرين واليمن والسودان. ولو أن ذلك حدث لكان الرئيس روحاني سيلقى في رحاب الجمعية العمومية للأمم المتحدة ولدى الرئيس باراك أوباما ما سيسهل أمر التوجه الإيراني نحو علاقات مع المجتمع الدولي خالية من العقوبات وحافلة بالثقة. ونقول ذلك على أساس أن الجيران العرب أولى بتصحيح العلاقة الإيرانية معهم من الغريب الأميركي والغريب الفرنسي والغريب البريطاني وغيرهم من الغرباء عبْر المحيط.وعندما نقول ذلك فلأن حل التعقيدات الراهنة في اليد الإيرانية. عسى ولعل يصار إلى هذا التفهم ولا تبقى إيران تتعامل مع دول الجوار وكأنما هي بصدد حياكة سجادة متسعة الأرجاء متعددة الألوان. وكفى العرب والمسلمين قبل الأميركيين وغيرهم شر القطيعة والحذر.. والنووي كما الكيماوي.