حمل الأسبوع الماضي حجما من الذكريات لا يمكن أن يمر بدون وقفة تعيد إلى الأذهان أياما خالدة فيها ما فيها من الذكريات. في 28 من سبتمبر كانت الذكرى الأربعين لوفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبعد نحو خمس سنوات يغيب الملك فيصل بن عبد العزيز ثم الرئيس هواري بو مدين بعد أقل قليلا من نصف عقد، وكان غياب هذا الثلاثي عن الساحة العربية نقطة تحول رهيبة في مسيرة الأمة. وتحتفل الأمة بعد غد بحرب أكتوبر المجيدة، التي اندلعت في جو متعاطف، عربيا ودوليا، لم يسبق له مثيل، ويمكن القول أن الأمة لم تعرف تضامنا عربيا وإسلاميا واسعا كالتي عرفته في تلك الأيام الخالدة من 1973، وتمكن الرئيس بو مدين قبل ذلك من خلق تضامن واسع مع مصر وسوريا خلال مؤتمر عدم الانحياز، وفي حث القارة الإفريقية كلها على قطع علاقاتها بإسرائيل في قمة أديس أبابا، بالإضافة إلى تحركات سياسية واسعة عبر العالم الثالث، وهو ما يعني أن الجزائر قامت بدورها في حلبة الصراع ضد إسرائيل، سياسيا وديبلوماسيا في البداية، وتكامل مع هذا الدعم العسكري والتضامن النفطي بعد ذلك. وما لم نكن نعرفه آنذاك هو تفاصيل رسالة بعث بها الرئيس السادات إلى هنري كيسنجر عن طريق مستشاره حافظ إسماعيل، كان محتواها غريبا ويثير التساؤل. كان ذلك صباح يوم 7 أكتوبر، أي اليوم الثاني للحرب، وهكذا أرسل إسماعيل لمستشار الأمن القومي الأمريكي برقية كان مما جاء فيها أن مصر: "لا تعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع المواجهة". ويعلق الأستاذ هيكل على البرقية قائلا: من ناحية الشكل، فإن الرسالة أرسلت لكيسنجر عبر القناة السرية )المخابرات( ومعنى ذلك أن»السرّية« كانت موجهة بالدرجة الأولى إلى وزارة الخارجية المصرية وإلى وفدنا في نيويورك، والذي لم تكن لديه وسيلة متابعة الاتصالات الجارية في القناة الخلفية. ولم يكن الأمر مقصورا، يؤكد هيكل، على بقاء وزير الخارجية )المصري( نفسه في الظلام وإنما امتدت عملية التعتيم إلى كل الوفد، وفي حين أن كيسنجر كان يتعامل مباشرة مع الوفد الإسرائيلي في نيويورك، ومع السفارة الإسرائيلية في واشنطن فإن الوفد المصري كان معطلا )وسنلاحظ التصرف نفسه من السادات عند مباحثاته مع الإسرائيليين(. وقد سجل هيكل انزعاجه من رسالة السادات إلى هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي عن طريق حافظ إسماعيل، وواصل تعليقه قائلا : بعض العبارات كانت ولا زالت مثيرة للدهشة وللاستغراب )...( كعبارة: »إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة«، حيث كانت أول مرة، وربما في التاريخ كله، يقول فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة )...( ومعناه بالنسبة لإسرائيل أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة )...( وأن تركز كما تشاء على سوريا، ثم تعود بعد ذلك إلى الجنوب لتصفية الحساب )ص 360( وهو ما حدث فعلا، فمن سوء الحظ، يقول الكاتب، أن كيسنجر فهم الرسالة بما تعنيه. ولقد كان الهجوم المصري السوري في بداياته منسقا بدرجة عالية من الكفاءة، ونجحت القوات في تحقيق مفاجأة إستراتيجية وتكتيكية لم تكن في تقديرات إسرائيل، ويروَى عن »موشي دايان« قوله أمام مجلس الوزراء الإسرائيلي مساء 6 أكتوبر: »إنني أشعر بهمّ ثقيل على قلبي )...( المصريون حققوا مكاسب قوية، ونحن عانينا من ضربة ثقيلة، لقد عبروا قناة السويس وأنشأوا عليها جسورا للعبور تحركت عليها المدرعات والمشاة والأسلحة المضادة للدبابات«. ويقول دافيد إيلي عازر صباح اليوم التالي بأن: »هناك قتالا عنيفا على كل الجبهات، والمدرعات والمشاة المصرية والسورية تواصل تقدمها طوال الليل والفجر)...( وحشود القوات المصرية على الجبهة أصبحت كثيفة وتم عبورها بسرعة غير متوقعة«. وفي نفس اليوم كان كيسنجر يتحرك بسرعة ليُمسك بزمام الأمور في الأممالمتحدة، بحيث يمنع بحث الأزمة أمام الجمعية العامة حيث تتجلى قوة العالم الثالث )...( وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف تصدّ الهجوم وتحوّله إلى هزيمة ساحقة، وزاد اقتناعه بموقفه إثر تلقيه رسالة السادات، وقال حرفيا لمساعديه: »رأيي أنه )السادات( وقد عبَر قناة السويس لن يفعل أكثر من الاكتفاء بالجلوس هناك، وأنا لا أعتقد أنه سيعمق مدى عملياته في سيناء«. وواجهت إسرائيل في اليوم التالي موقفا شديد الخطورة على الجبهة السورية، واندفع الجيش السوري فجر يوم 8 أكتوبر في هجوم مدرّع أدى تقريبا إلى انهيار الخطوط الإسرائيلية في الجولان، وجن جنون إسرائيل فحشدت كل طيرانها لوقف التقدم السوري، وبلغت الخسائر السورية في الدبابات نتيجة لذلك التركيز الجوي حوالي 400 دبابة، ومع ذلك تعترف لجنة »أغرانات« الإسرائيلية فيما بعد أن: »ذلك اليوم كان يوما اختلت فيه عوامل السيطرة والقيادة، وتبدّت فيه القراءة المغلوطة لمجرى القتال«. وكانت تعليمات كيسنجر لمندوبه في نيويورك: »يجب ألا يصدر عن المجلس قرار بوقف إطلاق النار إلا عندما يسترجع الجيش الإسرائيلي المواقع التي كان يحتلها قبل بدء القتال، على أن تكون إسرائيل قد دمّرت ما يمكن تدميره من قوات ومُعدات الجيش المصري«. وهكذا تأكد أن الوطن العربي، ومصر وسوريا في المقدمة، كان يواجه إسرائيل وكيسنجر في وقت واحد، وكان الثاني أخطر وأشد وطأة، لأنه كان يعتمد على عدد من المعطيات المتعلقة بالجانب العربي، ومن بينها التحكم في رد الفعل الأردني، حيث بعث برسالة إلى الملك حسين يرجوه فيها أن: »يحافظ على مصداقيته كرجل دولة«، وواعداً بمساعدات أمريكية بعد الحرب، ويرد الملك حسين، وطبقا لرواية كيسنجر، بأنه: »سوف يمارس ضبط النفس طالما كان ذلك ممكنا«، ويضيف بأن: »استمرار الحرب سوف يؤدي إلى تقوية النفوذ السوفيتي في المنطقة«. ولعلي أتوقف هنا لحظات لأروي أمر طريفا يتعلق بحرب أكتوبر. فقد كنت خلال التسعينيات أكتب مقالا أسبوعيا في صحيفة الأهرام المصرية، وكانت ردود الفعل التي تصلني تشعرني بسعادة كبيرة، حيث كان "حديث الاثنين" جسرا أخويا بين الجزائر ومصر. وأردت يومها أن أسجل نوعا من العرفان لأبطال حرب أكتوبر، ولم أرد أن أسير في موكب تمجيد القيادات العليا، بل وجدت أمرا آخرا تصورت أنه جدير بالاهتمام. كان أكبر عوائق العبور المصري بعد قناة السويس نفسها، جدار بارلييف الذي كان مرتفعات رملية هائلة صممت لتعطي للجانب الإسرائيلي ساترا ضد تحركاته ومانعا لتحصيناته ومركزا لمراقبة الجانب المصري ليلا ونهارا. وكان الجانب المصري يعرف جيدا أن التلال الرملية لا تنفع معها المتفجرات، وكان لا بد من العثور على وسيلة ما لتفتيت المانع الخطير. وخلال الصيف كان أحد ضباط الهندسة العسكرية يراقب ابنه وهو يلعب على رمال الشاطئ، ثم يبني قصرا من الرمال، ثم يتبول عليه فينهار القصر تدريجيا إلى أن يزول. وعلى الفور جاءت الفكرة العبقرية للضابط المصري فنقلها إلى قيادته، وتم استحضار عدد كبير من المضخات الصغيرة قيل أن الكويت دفعت ثمنها، طبقا لما صرح به لواء مصري مؤخرا في التلفزة. ورويت أنا القصة مسجلا تحيتي لضابط شاب لا أعرفه، وذكّرت بالتمثال الشهير الذي يحتل أهم المواقع السياحية في بروكسيل، ويحمل اسم »الطفل البوال«، )mannken-pis( وهو يسجل حادثة تمكن فيها طفل صغير من إبطال مفعول قنبلة خطيرة خلال الغزو الألماني، وسجل له أبناء بلجيكا هذه البطولة، التي لم تكن مقصودة. كان العبور المصري معجزة بكل المقاييس، وتحقق النجاح بفضل الإعداد المتميز للقوات المسلحة وشجاعة أفرادها وكفاءة قادتها وتحت حماية حائط الصواريخ الهائل، الذي أقامه عبد الناصر وهو مطمئن إلى حماية العمق المصري بفضل الوجود الجوي السوفيتي، مما مكنه من أن يخوض حرب الاستنزاف الرهيبة التي انتشلت الشعب المصري من مشاعر الهزيمة المريرة، وكانت الأيام الثلاثة الأولى ردّا لاعتبار الجندي المصري. ويحدث ما حدث بعد ذلك، ويتوجه الرئيس الجزائري يوم 16 أكتوبر إلى موسكو بعد الأخبار التي بلغته عن تعثر القوات في سيناء بعد حدوث الثغرة. وكنت تناولت ما حدث في موسكو معتمدا في كل التفاصيل على ما كتبه هيكل، واستنكر ذلك كثيرون ممن يعرفون أنني كنت في الوفد الذي رافق الرئيس إلى موسكو، وهو ما أحس اليوم بأن عليّ تفسيره. والذي حدث أن مدير التشريفات أبلغني بأنني لن أستطيع حضور المباحثات احتراما للعدد المفروض للجانب السوفيتي، وبأن أسبقية المشاركة تعطى لسفيرنا في موسكو آنذاك، وكان هذا أمر منطقيا بالطبع، ولكن الذي حدث في السنوات التالية كان أمرا مريبا. فبرغم العقود التي مرت منذ ذلك التاريخ وبرغم الكتابات المتعددة التي قرأناها لسفيرنا السابق عن مواقفه الهائلة للإفراج عن الأسرى الأمريكان في طهران، وهو العمل الذي قام به هناك عبد الكريم غريب بكل إتقان وتفان ولم يكتب عنه حرفا واحدا، لم يستعرض سفيرنا المحادثات الشاقة بين بو مدين وبريجنيف، والتي احتد فيها كل منهما إلى درجة غير مسبوقة، وانتهت بأن رمى بو مدين على المائدة الشيك المشهور بعدة ملايين من الدولارات ترسل بها أسلحة فورا إلى الجبهة المصرية والسورية، وكان هيكل هو الشخص الوحيد الذي استعرض ما شهده الكرملين تلك الليلة الليلاء برغم أنه لم يحضر المباحثات، وتم التعتيم على واحد من أروع مواقف الرئيس الجزائري لأن الرجل الذي كان عليه أن يذكر بمواقف الجزائر ورئيسها لأنه يعرف الكتابة لم يقم بدوره كما قام هيكل بدوره. ولعل هذا يكون ردّا على تعليقات كثيرة لمن يجهلون خبايا الأمور.