كان المشروع المصري الذي أعده أسامة الباز بطلب من السادات للقاء كامب دافيد إنجازا علميا وقانونيا، ارتكز في مجموعه على تنفيذ القرارين الأممين 242 و 338 . ويكشف فهمي تفاصيل حول اللقاء في مذكراته فيقول (ص 350) بأنه في الاجتماع الأول أصر السادات على أن يكون أول المتحدثين، وتلا كلمة طويلة متشددة سجل فيها الموقف المصري، الذي سارع بنشره في الصحافة المصرية حتى يقول للناس جميعا أنه لم يُقدّم أي تنازل لإسرائيل، غير أنه تجاهل فيما بعد كل ما أعلنه على رؤوس الأشهاد، وهو ما كان الإسرائيليون قد فهموه جيدا، وأدركوا، كما قال موشيه دايان (الانفراج – ص 163)، من أن التشدد ليس إلا غطاء. كانت وضعية الوفد المصري في الاجتماع الأول الذي احتضنه كامب دافيد في النصف الأول من سبتمبر 1978، والذي يُعرّبه العقيد القذافي فيسمّيه : اسطبل داوود، وضعية مزرية بالنسبة لوفد يضم أقطاب الديبلوماسية المصرية، ويستعرضها هيكل فيقول في ص 422 بأن الوفد كان كله تقريبا لا يعرف ما يجري حوله، وكان وزير الخارجية إبراهيم كامل يُحسّ بأن شيئا ما يجري طبخه، وهو ((يشم الرائحة ولا يرى المائدة)) وكاتب الدولة للشؤون الخارجية بطرس غالي مشغول بالحالة النفسية لنائب رئيس الوزراء حسن التهامي، والسادات ما زال يراهن على وايزمان. ويقول كامل (ص 498) في قاعة الطعام قابلْنا الوفد الإسرائيلي حول مائدة مستديرة يتناولون طعامهم يتوسطهم بيغين وزوجه، والذي استمر يتناول طعامه في المطعم طوال فترة المؤتمر، على خلاف الرئيس السادات الذي لم يزره على الإطلاق، وكان يتناول طعامه وحيدا في مقر إقامته. ويقول كامل : في فترة المساء (..) مررنا على الرئيس (..) وأخبرنا أنه قرأ مشروعنا على كارتر وبيغين، وسلّم الأخير نسخة منه، واتفق الثلاثة على العدول عن فكرة الاتفاق على إعلان مبادئ، وأن يكون هدف اللقاء التوصل إلى إطار للتسوية السلمية الشاملة، يتيح للأطراف العربية الأخرى الدخول في مفاوضات على أساسه (ولم يكن السادات بالطبع قد استشار الأطراف العربية الأخرى، والتي تعني، استنتاجا، سوريا والأردن وفلسطين). ويواصل كامل قائلا (ص 513) بأن السادات اكتفى بأن قال لنا أنه : ((قدم مشروعنا إلى كارتر وبيغين وناقشه معهما، رغم أنني نصحته بغير ذلك (..) وأعطانا الانطباع بأنه نجح أمام الرئيس الأمريكي في التصدي لانتقادات بيغين للمشروع وفي الدفاع عنه، ولو أنني من واقع التجربة لا أعوّل كثيرا على روايته (..) حيث أنه بدا من حديث كارتر أنه قد استبعد المشروع المصري كأساس للتفاوض (..) المفهوم ضمنا من تصريحه بأنه قرر التقدم بمشروع أمريكي لمعالجة الهوة بين المواقف المصرية والمواقف الإسرائيلية (..) وأوحى بأن أمريكا ستقوم بدور الشريك الكامل لإسرائيل ضد مصر (..) ولكن المصيبة واللغز والفضيحة هو موقف السادات، فهو يستمع إلى كل ذلك ولا يغضب ولا يزمجر ولا يُعارض ولا يُفند ولا يُجادل ولا يشرح (..) ثم يصل الأمر إلى أن يطرح الرئيس الأمريكي في وضوح فكرة عقد تحالف أمريكي إسرائيلي مصري فيخرس السادات ولا ينطق (..) لقد كدت أموت خجلا وكمدا وقرفا وأنا أتابع هذه المأساة ( كامل ص 515) وقال بطرس غالي أنه يُشاركني مشاعري (..) كان بطرس يؤمن بطاعة الرئيس وأن علينا أن ننفذ ما يُقرره ونزين إخراجه)) ويستأنف بطرس غالي الحديث حول نفس الموضوع فيقول بأن أسلوب السادات كان يربكنا حيث لم يكن يطلعنا على تفاصيل أحاديثه مع كارتر أو مع بيغين ((وكنا نلاحظ أن الزعيمين الأمريكي والإسرائيلي يحيطان وفديهما بالأمر قبل الاجتماع وبعده (..) كانت الأجواء المحيطة بنا غريبة، والسادات لا يمكن التنبؤ بأفعاله (ص 141) وكان تكتيكه يعتمد على إقناع الطرف الآخر بأنه معتدل بينما وفده غير مرن (..) وكان واضحا لي أننا، أعضاء الوفد، كمٌّ مهمل (..) ومع مرور الأيام بدت كامب دافيد كمعسكر اعتقال (..) لم يكن المشروع الذي قدمه كارتر، كما يقول غالي، شاملا وإنما كان مضطربا (..) فالقسم الأول منه، وهو الانسحاب من الأراضي المصرية، لم يكن يتبعه بالضرورة القسم الثاني، وهو الانسحاب من الأراضي الفلسطينية (..) وشعر المندوبون المصريون بالصدمة إزاء الأحكام المتعلقة بسيناء، التي ستكون منطقة منزوعة السلاح تشرف عليها قوات الأممالمتحدة، وتضمّن المشروع عشرات من القيود على السلطة المصرية، وكانت تلك الشروط مهينة لمصر (غالي ص 149) وبدا السادات غافلا عن ردود الفعل العربية، كان يريد من الأمريكيين أن يضمنوا نجاح مبادرته، وكنت أخشى من أن الأمريكيين يخدعون أنفسهم وأن السادات بدوره سوف يخدع العرب)) وفي اليوم العاشر يكتشف الرئيس المصري أن ما هو معروض عليه لا يفي بالحد الأدنى لمطالبه، حتى بالنسبة لحل مصري إسرائيلي، فتراوده فكرة ((فرقعة)) المؤتمر، ويسجلُ السادات نقطة هامة لصالحه عندما يبلغ كارتر من أنه لن يستطيع الاستمرار في المباحثات مع إسرائيل، وأنه سيعلن ذلك في مؤتمر صحفي، وكان مناورة رائعة أعطته الفرصة لممارسة سياسة حافة الهاوية، تماما كما كان يخطط لذلك أو يطمح إليه، لكنه أضاعها للأسف لأنه كان متعجلا لركوب السيارة المكشوفة التي تخترق جموعا هاتفة بحياة بطل الحرب والسلام، وكان الطرف الأمريكي هو الذي أحيا ممارسات فوستر دالاس، المتعلقة بسياسة حافة الهاوية. فقد انزعج الأمريكيون بالطبع مما قاله السادات، وقال سيروس فانس بأنها ((ستكون ضربة كبيرة إذا صدر تصرفٌ يفهم منه الشعب الأمريكي بأن التقدم نحو السلام توقف)) ويأخذ الكلمة والتر مونديل نائب الرئيس ليقول للسادات، وفي ذهنه معلومات عن شخصية الرئيس المصري، أنه أصبح خلال 48 ساعة رجل دولة ورسولا للسلام، لذا ((يجب ألا تعطي إسرائيل الفرصة للإفلات والادعاء بأن ما قمتَ به كان زائفا)) ويقول كارتر بأن ((قرارا يتخذه السادات بوقف المفاوضات سيُعطي بيغين الفرصة ليقول بأنه يريد ولكن السادات لا يريد))، ويتدخل بريجنسكي ليقول للسادات بأنه ((إذا أعلن قرارا سلبيا عن المباحثات مع إسرائيل فإن ردّ الفعل الأمريكي سيكون أن اجتماعك هذا مع الرئيس كارتر كان فاشلا، وهذا ليس في مصلحة أحد)). ثم يقول كارتر للسادات وهم وقوف، ويسجل هيكل أن الرئيس الأمريكي كان يتحدث بجدية قاتلة (Deadly serious) : إنك تريد أن تنسحب من المؤتمر، لكن ذلك سوف يعني نهاية العلاقة بين مصر والولايات المتحدةالأمريكية (..) إن ذلك سوف يعني أيضا نهاية شيء أعتز به وهو الصداقة بيني وبينك. ولو كان هواري بو مدين أو جمال عبد الناصر أو الملك فيصل أو صدام حسين أو على ذو الفقار بهوتو مثلا في موقع السادات لقال لكارتر بهدوء: لقد اعتمدت عليك شخصيا لانتزاع ولو جزء من حقوق بلادي، ولكن يبدو أن الضغوط عليك كانت كثيرة ومعقدة، وأنا لا أريد أن أحملك فوق ما تطيق، ولهذا أنسحب، وسأقول أنا أيضا رأيي علنا في كل ما حدث، وسوف أعرب عن شكري لكل جهودك الخيرة، وأعرب للشعب الأمريكي عن امتناني لكريم ضيافته. لكن السادات كان قد وضع كل البيض في سلة واحدة، وكان كل ما يهمه أن يرجع إلى بلاده في صورة المنتصر، حتى ولو لم يكن الأمر كذلك، وهو ما يمكن أن يوفره له الإعلام الأمريكي والدولي الذي تحركه الأصابع الإسرائيلية، وما سوف يردده الإعلام المصري، اضطرارا أو مسايرة أو ممالأة وارتزاقا. ولم يفهم السادات أن //صديقك من صدقك لا من صدّقك// وهكذا وجد نفسه وحيدا في مواجهة ممثلي أقوى قوة في العالم، لأنه فضل دائما أن يتصرف بنفس الطريقة التي كان يتصرف بها فرعون ://ما أريكم إلا ما أرى// رغم وجود عدد من خيرة الوطنيين الديبلوماسيين حوله، تغاضى عنهم واستهان بهم وعزل نفسه عن أمته بل وراح يُعاديها ويستعديها حارما نفسه من عمقه الاستراتيجي، وبالتالي أصبح فريسة للمناورات الإسرائيلية الأمريكية. واضطر الرئيس المصري للتراجع، لأن من كانوا أمامه فهموه حق الفهم وعرفوا حقيقة ما يطمح إليه، وكان مشروع كارتر صورة طبق الأصل من المقترحات الإسرائيلية، وكان مُبرّر قبوله للمشروع، كما عبّر عن ذلك لوزير خارجيته، بأن ((نجاح مؤتمر كامب دافيد سيؤكد نجاح كارتر في الانتخابات الرئاسية القادمة، وعند ذاك سينفذ الرئيس الأمريكي وعوده لأنه رجل قيم ومبادئ !!)) وكأن السياسة قيم ومبادئ لا توازن قوى وتبادل مصالح. ويقول السادات بأنه لم يتنازل للإسرائيليين حتى عن بوصة واحدة، غير أنه استجاب لنداء ((الرئيس كارتر، حليفنا وصديقنا، وهو حليف يحتاج كلانا لمعونته ويتلقاها)) ومن هنا جاء الرد الأمريكي على شكل مشروع يحقق كل الآمال الإسرائيلية. عندها تتغلب روح الوطنية المصرية الأصيلة عند وزير الخارجية محمد إبراهيم كامل فيقدم استقالته فورا للرئيس، الذي يقبلها بنفس السرعة، ويجري هذا كله في كامب دافيد. وأسجل هنا ما رواه إبراهيم كامل عن غالي الذي كان يشكو من رسائل تهديد تلقاها إثر مرافقته للسادات إلى القدس .، وقال (كامل ص 529) إنهم يتهمونني بأنني الجيل الثالث من الخونة، ويرد كامل ضاحكا : أنا لا أعرف إلا اثنين، أنت وجدك (بطرس غالي الذي اغتاله وطني مصري اسمه الورداني لموافقته على مدّ امتياز قناة السويس حتى 1969) فمن هو الثالث، ويجيب غالي :عمي نجيب باشا، تورط مع الإنغليز في الحرب العالمية الأولى. ويلاحظ هنا أن الوزير المصري يقدم نفسه دائما على أنه بطرس بطرس غالي، في تمسك بالتذكير بجده المُغتال.